بعد الإعلان عن تطبيع العلاقات بين السودان والاحتلال، في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، برزت التوترات بين أصحاب السلطة في السودان، الذين يؤيدون تطبيع العلاقات مع الاحتلال، وبين غالبية المواطنين الذين يرفضون إضفاء طابع رسمي على العلاقات.
وأظهر هذا الخلاف التوازن الدقيق بين مركزي القوى في السودان؛ إذ إن السودان -خلافاً للإمارات والبحرين- لا تحكمه أسرة حاكمة تسيطر على سلطات مطلقة، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
ولمح عمر قمر الدين، وزير الخارجية السوداني المكلف، إلى أن الفصيل العسكري في الحكومة الانتقالية للسودان هو الذي اتخذ قرار الانضمام إلى الإمارات والبحرين لبدء العلاقات مع الاحتلال، ما أجبر رئيس الوزراء المدني على التماشي مع هذه الخطوة على مضض.
يعد الفصيل العسكري في الحكومة الانتقالية للسودان -الذي يوصف غالباً بـ"الدولة العميقة" للسودان- استبدادياً حتى النخاع ويحظى بدعم إماراتي قوي، وفقاً للموقع.
تطبيع العلاقات بين السودان والاحتلال جاء على خطى مصر
في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، قال الجنرال المثير للجدل محمد حمدان دقلو، نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، المعروف بـ"حميدتي"، إن العلاقات الرسمية مع الاحتلال يمكن أن تخدم مصالح السودان. لم يكن هذا التعليق مفاجئاً، لطالما اعتقد كبار الضباط في القوات المسلحة السودانية أن بلادهم يجب عليها أن تسعى وراء المكاسب الاقتصادية التي حققتها مصر بعد تطبيع علاقاتها مع الاحتلال في عام 1979، متذرعين بأن السودان عانى من الموقف المتصلب المناهض للاحتلال الذي اتخذه الرئيس المخلوع عمر البشير، الذي استمر في الحكم عهداً طويلاً.
لا شك أن مثل هذه المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تحققها الخرطوم تبدو قريبة. بعد وقت قصير من الإعلان عن الاتفاقية، قال رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو إن بلاده سوف ترسل إلى السودان مساعدات غذائية بقيمة 5 ملايين دولار، فضلاً عن أن البلدين سوف يجريان خلال أسابيع محادثات ثنائية لمناقشة إبرام صفقات في مجالات متنوعة مثل الزراعة والطيران والهجرة والتجارة، حسبما أوضح وزير الخارجية السوداني المكلف.
يقف غالبية الفصيل المدني في الحكومة الانتقالية ضد إضفاء طابع رسمي على العلاقات مع الاحتلال، على الأقل في ظل الظروف الحالية، وربما يفسر هذا سبب عدم بلوغ الاتفاق السوداني الإسرائيلي مستوى الاتفاقات التي أبرمتها دولة الاحتلال مع البحرين والإمارات في الشهر الماضي.
الإمارات تمارس ضغوطاً بعدما رفض رئيس الحكومة السودانية التطبيع
سعت الإمارات لترسيخ نفوذ قوي لها في السودان منذ إطاحة البشير في أبريل/نيسان 2019، وضغطت على القيادة العسكرية للانفتاح على الاحتلال.
إذ كانت الإمارات هي التي نظمت اجتماعاً سرياً في فبراير/شباط في أوغندا بين الجنرال عبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي في السودان وأحد القادة العسكريين الذين أطاحوا البشير، وبين نتنياهو.
كان ذلك اللقاء في مدينة عنتيبي الأوغندية أولى الخطوات نحو التطبيع.
عندما زار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الخرطوم، في أواخر أغسطس/آب، أخبره عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني، بأن الحكومة الانتقالية ليس لديها تفويض لإقامة علاقات كاملة مع الاحتلال.
تدخلت الإمارات مرة أخرى عن طريق دعوة وفد رفيع المستوى من قادة السودان إلى أبوظبي لمقابلة مسؤولين أمريكيين، في 21 سبتمبر/أيلول، لبدء محادثات حول شطب السودان من قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وتطبيع العلاقات مع الاحتلال بعد أن رفض حمدوك أمام بومبيو. والأرجح أن الحاجة إلى اصطفاف مواقف قادة السودان المدنيين والعسكريين تفسر الطبيعة المحدودة للاتفاق مع الاحتلال ؛ نظراً إلى أن التسوية الهشة بين فصائل الحكومة قد ينفرط عقدها بسرعة.
أساليب ليّ ذراع الخرطوم
من الأهمية بمكان استيعاب أن قادة السودان العسكريين اتخذوا هذا القرار تحت ضغط كبير من واشنطن وأبوظبي. فمن خلال الربط بين شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبين تطبيع الخرطوم علاقاتها مع الاحتلال، كانت إدارة ترامب تلوي ذراع السودان في ظل حاجة السودان الملحة إلى الإغاثة الاقتصادية في أعقاب عقود من العقوبات الشاملة التي فرضتها عليه الولايات المتحدة، بما في ذلك حق نقض إعطاء أي منحٍ أو قروضٍ إلى السودان من المؤسسات المالية الدولية التي تهيمن عليها دول الغرب، مثل البنك الدولي.
بدلاً من رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد وصول الحكومة التالية لعهد البشير في 2019، استخدمت إدارة ترامب نفوذها لكسب مزيد من التنازلات من الخرطوم، في ظل مرحلة من الضعف الشديد التي مرت بها الخرطوم.
ومن خلال ممارسة الضغوط على السودان لإقامة علاقات مع الاحتلال قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المزمع إقامتها في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، كان ترامب فاعلاً على نحو مميز فيما يتعلق بعقد الصفقات وفقاً لمنهجه. وما يزيد الأمر سوءاً أن الإدارة أصرت على دفع السودان 335 مليون دولار تعويضات بسبب الدور المزعوم لنظام البشير في تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، في 7 أغسطس/آب 1998، رغم أن الحكومة الحالية وصلت إلى السلطة نتيجة ثورة انتهت بإنهاء حكم البشير الديكتاتوري الممتد منذ 30 عاماً.
التطبيع سيضعف التحول الديمقراطي في السودان
وفي وقت تتشكل فيه بدقةٍ توازناتُ القوى في السودان بين "الدولة العميقة" العسكرية والفصيل الذي يقوده المدنيون في الدولة، يمكن أن تثير قضية العلاقات السودانية الإسرائيلية اضطراباً وتهدد بإضعاف التحول إلى حكم ديمقراطي. إذ إن المسؤولين السابقين في نظام البشير، الذين يعلمون أنه في ظل حكم البشير لم يكن لهذا الاتفاق أن يحدث، قد يسعون لاستغلال هذا الموقف لتقويض التحول الديمقراطي.
الأرجح أن الإسلاميين في البلاد، إضافة إلى الجماعات السياسية الأخرى مثل الشيوعيين والقوميين العرب والفصائل اليسارية الأخرى، سوف يعبرون عن غضبهم من قرار الجيش السوداني بدفن القضية الفلسطينية تحت وطأة الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات.
ثورة ثانية
كانت هناك بالفعل أحاديث متداولة عن "ثورة ثانية" تحدث في السودان هذا الشهر، بسبب أن الظروف لا تزال قاتمة في أنحاء البلاد بعد حوالي 19 شهراً من إطاحة البشير. يمكن أن تضيف العلاقات الجديدة بين السودان وإسرائيل بسهولة زخماً إضافياً إلى انعدام الاستقرار في السودان، وتؤسس -في حال عدم انتخابه لولاية ثانية- إرثاً قابلاً للاشتعال للنهج انتهجته إدارته، والبعيد تماماً عن النهج التقليدي للدبلوماسية الأمريكية.
سيكون الرهان المضمون أن أبوظبي سوف تستخدم نفوذها في الساحل الإفريقي -حيث كفلت المساعدات الإماراتية للدولة الخليجية نفوذاً جيوسياسياً كبيراً- كي تدفع مزيداً من الدول، مثل مالي وموريشيوس، نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل. والجدير بالذكر أن أبوظبي اضطلعت بدور مهم في تيسير تطبيع تشاد علاقاتها مع الدولة اليهودية في 2019.
تبدو الاحتمالات مضمونة أنه بغض النظر عن هوية الفائز بالانتخابات الرئاسية، الشهر القادم، فإن جهود أبوظبي للمساعدة في دمج إسرائيل في الحظيرة الدبلوماسية للعالم الإسلامي الأوسع، سوف تحظى بدعم من واشنطن. قد يسعد المسؤولون الإماراتيون والأمريكيون برؤية دول الساحل الإفريقي تسير على خطى السودان، ما يوسع في نهاية المطاف دائرة الدول الإقليمية التي اتبعت الإمارات في خطوتها نحو أشكال متنوعة من تطبيع العلاقات مع الاحتلال.
عربي بوست