وبدأت أصوات الحفل، الذي أقامته الإمارات و"إسرائيل" بمناسبة توقيع اتفاق السلام بينهما، تخفت يومًا تلو الآخر، لينفض المولد عن حَملة المباخر والصاجات الذين سخّروا جيوشهم الإلكترونية للترويج بأن ما حدث خطوة تاريخية وصفحة ناصعة البياض تضاف لسجل محمد بن زايد المليء بالانتصارات الإنسانية.
حتى حملات التأييد والدعم التي قوبل بها الاتفاق وإرهاصات حذو بعض العواصم العربية والخليجية لمسار أبو ظبي - إلى الحد الذي خرجت فيه أصوات تتوقع إبرام اتفاقات مشابهة خلال أيام -، فقد تراجع صداها الذي خيّم على الأجواء، ليبدأ انحسار زخمها شيئًا فشيئًا تاركة أبناء زايد وحدهم في مواجهة الداخل والخارج على حد سواء.
ومع مرور أسبوع تقريبًا على بداية الحفلة، ها هي تتحول إلى مسرحية هزلية، وضعت طرفي الاتفاق، الإمارات و"إسرائيل"، في موقف ساخر وحرج في آن واحد، فها هو رئيس الحكومة الإسرائيلية يضع حليفه ولي عهد أبو ظبي في مأزق حقيقي، وذلك حين أطاح بكل مبرراته التي ساقها لتبرير خطوته شعبيًا.
وعلى مدار السنوات الماضية شهدت العلاقات بين البلدين تنسيقًا كبيرًا على المستويات كافة، ورغم الإدانات التي واجهتها الإمارات بسبب تلك الهرولة غير المبررة في ظل الانتهاكات المتواصلة بحق العرب والقضية الفلسطينية على أيدي الإسرائيليين، فإن حكام الدولة الخليجية كان لهم رأي آخر، وبدلًا من معاقبة حكومة الكيان على ضربها لكل مرتكزات الأمة عرض الحائط كافأتها الإمارات بتطبيع رسمي، وياليته كان نظير ثمن يتناسب وتلك الخطوة، بل كان تطبيعًا مجانيًا الرابح الأول والأخير فيه دولة الاحتلال.
تلك كانت المبررات
رغم أن العلاقات الحميمية التي تجمع بين البلدين بلغت مستويات متقدمة طيلة السنوات الماضية، على مرأى ومسمع من الجميع، فإن إعلان تطبيع رسمي يحتاج إلى أرضية من المبررات والتطمينات من أجل تمرير هذه الخطوة شعبيًا لحساسيتها لدى الشارع العربي.
ونظرًا لأن منصة الهجوم على مثل تلك الاتفاقات تنطلق من بؤرة تداعياتها على القضية الفلسطينية، فكان المبرر الأول لهذه الخطوة أنها تأتي من أجل نصرة القضية واسترداد حق الشعب الفلسطيني، وعليه انبرت الأبواق الإعلامية الداعمة لنظام ابن زايد داخل الإمارات وخارجها لتعزف على هذا الوتر.
وبين ليلة وضحاها تحول ولي عهد أبو ظبي إلى حامي حمى الفلسطينيين الذي يغامر بسمعته من أجل نصرة القضية الفلسطينية، فالاتفاق يوقف مخطط "إسرائيل" ضم أراضٍ جديدة من الضفة الغربية كما نصت على ذلك "صفقة القرن"، هذه كانت الرسالة التي تناقلتها أجهزة الإعلام الدول الداعمة للخطوة الإماراتية.
الإعلامي عمرو أديب، المذيع بقناة "إم بي سي" السعودية، علق مثلًا على هذا الاتفاق بقوله: "محمد بن زايد أنقذ قطعة أرض عربية قبل أن يتم ضمها. الإمارات دولة تعمل في النور ولا تحتاج إلى الرضا الأمريكي أو الإسرائيلي، كل ما تريده عودة الأراضي العربية، سيتعرض محمد بن زايد لنفس الهجوم الذي تعرض له السادات ولكن في النهاية سيعرف الناس ماذا فعل هذا الرجل للقضية الفلسطينية".
كما جاءت مناهضة النفوذ الإيراني في المنطقة وتطويق تحركاتها من خلال مثل هذا التنسيق مع دولة الاحتلال، كأداة تبريرية قوية، لا سيما لدى العقل الخليجي الذي يرى في طهران العدو الأول إن لم يكن الأوحد، هذا رغم التنسيق الكبير الذي تشهده العلاقات بين إيران والإمارات على الأصعدة كافة.
كان هذه خطاب الخارج فيما يتعلق بالرد على الانتقادات الموجهة عربيًا، لكن ماذا عن الداخل الإماراتي؟ كان لا بد من طمأنة الشارع الإماراتي بشأن هذا الاتفاق ومحاولة إقناعه بأن ما حدث يأتي في المقام الأول لصالح الدولة الإماراتية وإلا فليس هناك حكمة من تحرك كهذا دون مكاسب.
وعلى الفور بدأ الإعلام يواصل مقطوعاته الموسيقية الصاخبة بشأن النهضة العسكرية المتوقعة جراء توقيع الاتفاق، وكان من بينها تعبيد الطريق من أجل الحصول على أنظمة سلاح متطورة لا تحصل عليها إلا "إسرائيل" ومن بينها طائرات "F-35"، التي ترغب الدولة الخليجية في شرائها لكن تواجه برفض البيت الأبيض والكونغرس ومعهما تل أبيب.
وهذا هو الواقع
التصريحات الأولية الصادرة عن تل أبيب عقب إعلان الاتفاق جاءت في معظمها مشيرة إلى أن الإمارات لن تكون الدولة الوحيدة التي ستبرم اتفاق سلام مع الكيان، وتم الحديث عن اقتراب دول أخرى في اللحاق بالركب، على رأسها البحرين وسلطنة عمان والسودان واليمن.
مثل تلك التصريحات لا شك أنها تعزز الخطوة الإماراتية، لكن ظلت السعودية وهي الحليف الأبرز لابن زايد، ملتزمة الصمت وسط حالة من الترقب لرد فعلها خاصة في ظل العلاقات القوية التي تربطها والحكومة الإسرائيلية، منذ قدوم ولي العهد محمد بن سلمان، فيما حث مستشار ترامب وصهره، جاريد كوشنر، الرياض على تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" بدعوى أن ذلك سيصب في صالح اقتصاد ودفاع المملكة ويحد من نفوذ طهران الإقليمي.
وبينما كان يتوقع البعض دعمًا سعوديًا لهذه الخطوة جاء الرد بعد أسبوع كامل على عكس تلك التوقعات، وهو ما مثّل صدمة للحليف الإماراتي، حيث اشترطت الرياض لإبرام أي اتفاقيات سلام مع تل أبيب توقيع اتفاق سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وزير خارجية المملكة، الأمير فيصل بن فرحان، صرح بأن بلاده لن تطبع مع "إسرائيل" أسوة بالإمارات ما لم يتم التوصل لاتفاق يحفظ للفلسطينيين حقوقهم ويعيد لهم دولتهم، مضيفًا أن السعودية "تؤكد التزامها بالسلام خيارًا إستراتيجيًا واستناده إلى مبادرات السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية".
لا شك أن تأخر رد الفعل السعودي يكشف عمق وحجم المداولات التي جرت بين عواصم بعض الدول، وبعد مباحثات وقراءة للموقف، قررت الرياض أن الإقدام على مثل هذه الخطوة في الوقت الراهن ربما تكون مغامرة غير مسحوبة العواقب.
البيان الصادر عن الخارجية السعودية يمكن اعتباره "فرملة" لاحتفالية التطبيع الجماعية التي أقامتها الإمارات مع دولة الاحتلال، إذ كانت البحرين وعمان في انتظار شارة المملكة للانخراط في هذا الحفل كأطراف وليس كمتفرجين، غير أن هذا الرد صعب الموقف الذي من الواضح أن الدول ستعيد النظر فيه مرة أخرى، فمن الصعب أن تسير تلك الدول وراء الإمارات إذا امتنعت السعودية عن السير، حتى إن كان مؤقتًا.
حتى دعم القدرات العسكرية والقتالية للجيش الإماراتي كمبرر لدعم خطوة الاتفاق داخليًا بات هو الآخر محل شك، خاصة بعدما أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن اتفاق السلام مع الإمارات لم يشمل أي موافقة إسرائيلية على أي صفقة لبيع أسلحة أمريكية إليها.
وفي بيان صادر عن مكتب نتنياهو في 18 من أغسطس/آب الحاليّ، أي بعد إعلان الاتفاق بخمسة أيام فقط، جاء فيه "منذ البداية، رفض رئيس الوزراء نتنياهو بيع طائرات مقاتلة من طراز إف-35 وأسلحة متطورة أخرى لدول في المنطقة أيا كانت، بما فيها دول عربية تصنع السلام مع إسرائيل".
البيان أضاف أن نتنياهو أعرب أكثر من مرة عن هذا الموقف أمام الإدارة الأمريكية، مشددًا على أن هذا الموقف لم يتغير، وتابع "تم التأكيد على رفضه المتسق لبيع طائرات إف-35 في يوم 2 من يونيو بعد أن تحدث رئيس هيئة الأمن القومي، بناء على طلب رئيس الوزراء، مع قائد سلاح الجو الإسرائيلي اللواء نوركين".
كان السفير الأمريكي لدى "إسرائيل" ديفيد فريدمان قد صرح بأن الإمارات في حالة كونها صديقة للكيان المحتل ستصبح شريكًا موثوقًا لأمريكا، وعليه ستتغير التقييمات المتعلقة بمبيعات السلاح لأبو ظبي، في إشارة إلى رغبة إماراتية سابقة بشأن الحصول على أنظمة سلاح متطورة بينها طائرات "F-35"، لكن جاء بيان ترامب ليسقط قناع الوهم عن هذا المبرر.
أسبوع واحد فقط أو يزيد قليلًا على اتفاق السلام المفترض بين الإمارات و"إسرائيل"، لكن يبدو أن أوراقه تتساقط بسرعة كبيرة، فالزخم الإقليمي للحاق بركب التطبيع العلني يخفت، وأوهام التفوق العسكري تتبدد، وأكاذيب نصرة القضية الفلسطينية تُفضح، ليجد ابن زايد نفسه في مأزق حقيقي، تطبيع مجاني دون أي مقابل يحفظ ماء الوجه.
(نون بوست)