2024-11-24 05:42 م

كيف أصبح حريق المسجد الأقصى عام 1969 نواة للاعتداءات الإسرائيلية الآن؟

2020-08-22
تابع العالم بحزن، في منتصف أبريل (نيسان) 2019م، أحداث حريق كاتدرائية نوتردام في باريس، ومن بين هؤلاء كان الفلسطينيون في القدس. أعادت مشاهد النيران التي كانت تلتهم الكاتدرائية التاريخية آنذاك، الذاكرة إلى حادث حريق المسجد الأقصى عام 1969م؛ إذ حُفرت المشاهد التي التقطتها كاميرات الستينيات الضعيفة؛ في عين كل مقدسي لم يرَ الحريق.

ترك المقدسيون منازلهم وشاشات التلفزة التي تتحدث عن حريق باريس، وقصدوا في اليوم المذكور الحرم القدسي، أُديت الصلاة وأقيمت حلقات تحفيظ القرآن الكريم والعلوم الشرعية، ولعب الصغار حول آبائهم وأمهاتهم في باحات المسجد الأقصى. وبينما هم كذلك؛ تفاجأ هذا الجمع بتصاعد الدخان من إحدى غرف الحراسة الواقعة أمام المصلى القبلي من الدرج المُفضي إلى المصلى المرواني (الركن الجنوبي الشرقي من الحرم القدسي).

للوهلة الأولى، اعتقد الموجودون – وجلهم لم يكونوا قد عاصروا حريق عام 1969م – أن الجريمة تتكرر بحق المسجد الأقصى! ليعجلوا دون تفكير، من أجل إخماد الحريق الذي تمكن إطفاء الأوقاف الإسلامية من القضاء عليه في وقت قصير قبل أن يمتد أكثر. لكن الحديث عن أن هذا الحريق كان عرضيًّا وغير مقصود لا يُخرج المقدسيين، حتى بعد مضي 51 عامًا على حريق المسجد الأقصى، من تخوفاتهم من أن الأمر قد يتكرر  في أي وقت، يشعرون بذلك وجملة من الاعتداءات الإسرائيلية متواصلة بحق المسجد الأقصى والمدينة المقدسة.

نيران التطرف تأكل المسجد الأقصى
أدي المقدسيون في يوم 21 أغسطس (آب) عام 1969م صلاة الفجر الأخيرة في المصلى المرواني، ثم انطلقوا لقضاء مصالحهم حتى يحين موعد صلاة الظهر في هذا اليوم، كان ما يزال أمام حلقات تحفيظ القرآن الكريم ودروس العلوم الشرعية بعض الوقت لتنتشر في رحاب الحرم القدسي. في السابعة صباحًا بالتحديد تسلل متطرف صهيوني من باب الغوانمة، الذي يقع في الجهة الشمالية الغربية من المسجد الأقصى، واتجه نحو المصلى القبلي في المسجد، ثم وضع مادة شديدة الاشتعال داخل المصلى القبلي، وخرج دون أن يلاحظه أحد.



بعد دقائق، بدأت ألهبة النيران تخرج من الأسقف ورائحة الدخان تتصاعد، أذهل المشهد القريبين من الحرم القدسي، فتعالت أصوات الاستنجاد لإخماد الحريق. في اللحظات الأولى صدت قوات الاحتلال مسلمي المدينة ومسيحييها عن محاولات إيقاف الحريق، فدخلوا معها في اشتباك عنيف قصير، ثم شقوا طريقهم وتوجهوا نحو صنابير المياه الخاصة بالمصلى القبلي، فوجودها مقطوعة حتى عن محيط الحرم القدسي.

فعجلوا نحو تشكيل سلسلة بشرية تحمل المياه والأتربة في كل وسائل متاحة لإلقائها على النيران على أمل أن تصل سيارات الإطفاء من مدن الضفة الغربية القريبة، لكن قوات الاحتلال كانت قد منعت تلك السيارات من الوصول إلى القدس.

لأربع ساعات، استمر السكان في إطفاء الحريق الذي أخذ يأكل أمام أنظارهم سقوف المسجد بعد أن التهم المنابر، والمحراب، والسجاد، والمصاحف، وألواح الفسيفساء، وتحول المنبر التاريخي الذي أحضره صلاح الدين الأيوبي من حلب السورية عام 1187م، والمصنوع من الخشب والعاج، إلى رماد. وتضرر مسجد عمر ومحراب زكريا المجاور لمسجد عمر، ومقام الأربعين المجاور لمحراب زكريا، ونال الحريق من جميع السجاد العجمي، ومطلع سورة الإسراء المصنوع من الفسيفساء المذهبة فوق المحراب، والجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقناديل والممتدة بين تيجان الأعمدة،   ومرافق عديدة من المسجد.

ولهول ما أتت عليه النيران، استمر ترميم المسجد عقودًا؛ فقد شُكِّلت مباشرة بعد الحريق، لجنة إعمار الأقصى التي فصلت منطقة الحرم المحروقة عن غيرها، ووضعت منبرًا بدلًا من منبر نور الدين زنكي (منبر صلاح الدين) الذي تمكنت الأردن من إعادة بديل عنه عام 2006م، وأصبح مشهد السقالات الخشبية في القبة، حاضرًا أمام المصلين، فيما عمل الحرفيون المهرة في بناء ألواح الفسيفساء ونقوشها من القرآن.

مبعوث الرب لهدم الأقصى.. روهان «المسيحي» الذي درَّبته الوكالة اليهودية
بعد مرور 48 ساعة على وقوع حريق المسجد الأقصى عام 1969م، أعلنت إسرائيل أنها اعتقلت جزار غنم من مدينة سيدني الأسترالية يدعى دينيس مايكل روهان – المولود عام 1941م – ونشرت صورًا لعملية إلقاء القبض عليه؛ إذ ظهر رجل أشقر طويل يتوسط عنصرين من الشرطة الإسرائيلية.

كان روهان ينتمى لواحدة من الكنائس الإنجيلية المسيحية المعروفة باسم كنيسة الرب العالمية، ويداوم على قراءة مجلة مشهورة تصدرها هذه الكنيسة، هي مجلة «الحقيقة الواضحة». وقد جعله هذا التوجه من أصحاب «النزعات المشيحانية، التي تؤمن بعودة المسيح، وأن شرط ذلك هو عودة بني إسرائيل إلى أرض فلسطين وبناء الهيكل الثالث».

ويربط المحللون بين إقدام روهان على هذه الجريمة في هذا الوقت بالتحديد، وبين هزيمة العرب في حرب 1967م؛ إذ إن أفكار روهان ومجموعاته استبشرت خيرًا بانتصار إسرائيل في تلك الحرب وبقرب تحقق عودة المسيح، فقد كرر أمام معارفه أنه «مبعوث الرب لهدم الأقصى»، وبالتالي التحضير لبناء الهيكل الثالث، ومن ثم عودة المسيح.

يحاول الإسرائيليون، حتى يومنا هذا، الترويج لكون روهان مسيحيًّا أصوليًّا ولا يمت بصلة للصهيونية، لكن ما كُشف منذ الشهور الأولى للحريق أن الأسترالي الذي ليس لديه جذور يهودية جُلِب إلى إسرائيل بجهود من الوكالة اليهودية، وهي منظمة شبه حكومية تشجع اليهود على الاتصال بإسرائيل. إذ رتبت الوكالة بقاء روهان في كيبوتس (مشمار هشارون) القريب من مستوطنة نتانيا (قامت حركة استيطانية يهودية بتكوين مجتمع زراعي يطلق عليه اسم كيبوتس)، وخلال وجوده منذ مارس (آذار) 1969 تعلم العبرية والتعاليم الصهيونية ودرس التوراة، وعبَّر أمام الآخرين عن شعوره بأنه يهودي، وأن الرب كلَّفه بمهمة عظيمة.

لم يتأخر تحرك روهان نحو تحقيق هدفه، ففي العشرين من يوليو (تموز) من عام الحريق، ذهب إلى القدس واستأجر غرفة في فندق «ريفولي»، الذي يقابل باب الساهرة الواقع في الركن الشمالي من القدس، واستغل الأيام التي سبقت تنفيذ جريمته في استكشاف المسجد ومرافقه، بوصفه سائحًا أجنبيًّا.

وحسب اعترافاته لدى الاحتلال فقد حاول روهان في 11 أغسطس، إشعال الحريق في المصلى القبلي حين تسلق بعد صلاة العشاء أشجار المسجد لتجنب رؤية الحراس له، ووضع فتيلًا وبترولًا ثم خرج من سور القدس من باب الأسباط، لكنه تفاجأ في الصباح بأن الحريق فشل، مما دفعه لتغيير المكان، فاختار منبر صلاح الدين الخشبي كي يضمن اشتعالًا سريعًا.

في يوم تنفيذ الجريمة، قطع روهان تذكرة السياح وتوجه إلى المصلى القبلي، واستغل فترة خلو المصلى من الازدحام بعد صلاة الفجر، ثم وضع وشاحًا غارقًا في البترول على منبر صلاح الدين، وصب المزيد، وأشعل عود الكبريت ثم خرج وتخلص من حقيبته قبل أن يصل إلى  الكيبوتس حيث يقيم. وبرغم طول فترة التخطيط، فإن حكومة الاحتلال ارتكزت في محاكمته على ما روَّجه محامي الدفاع من أن روهان يعاني من انفصام شخصية من نوع جنون العظمة، أو ما يسمى «الانفصام الارتيابي» لتقرر المحكمة أنه غير مؤهل للمحاكمة، وتسقط عنه العقاب بذريعة وضعه النفسي الذي أفضى إلى إدخاله المستشفى للعلاج حتى عام 1974م، ثم أفرج عنه وعاد إلى أستراليا التي توفي فيها عام 1995م.

كيف أسس الحريق لخطط الاعتداءات الإسرائيلية على الأقصى الآن؟
مع كل ذكرى لحريق المسجد الأقصى في يوم 21 أغسطس، تحاول إسرائيل تجديد النأي بنفسها عن حادثة إحراق المسجد. وبجانب التركيز على أن الأسترالي الذي أضرم النار مختل عقليًّا وديانته المسيحية، تروِّج أيضًا لتواطؤ حارس المسجد الأقصى مع الجاني، كما تنكب وسائل الإعلام الإسرائيلية نحو التنديد بالرواية الفلسطينية التي تحمِّل إسرائيل مسؤولية الحريق، وكذلك تجمِّل وجه الاحتلال في التعامل مع الحدث.

فتذكر الرواية الإسرائيلية، أنه بعد ساعة واحدة فقط من إخماد الحريق، وصل وزير الدفاع، موشيه ديان، إلى مكان الحادث ثم وصلت رئيسة الوزراء، غولدا مائير، المسجد و«رأسها محني، وثقل حزن على وجهها»، وأنها صرَّحت وهي خارجة من المسجد «أن الحرق العمد لن يؤثر في العلاقات بين اليهود والعرب».

في المحصلة، أسست الجريمة لسياسة إسرائيلية تقوم على مواصلة الاعتداءات على المقدسات الإسرائيلية بشكل منتظم تدعمه القوانين الإسرائيلية، فيما لا تزال العديد من المنظمات اليهودية والمسيحية المتطرفة التي خططت لتدمير المسجد الأقصى، وبناء معبد على أنقاضه، تعزز مركزية القدس في قلوب اليهود وأنصارهم من المسيحيين الإنجيليين والصهاينة المسيحيين.

وذلك بالرغم من أن علماء الآثار لم يتمكنوا من العثور على أي دليل على وجود معبد الهيكل الذي يقول الإسرائيليون إن المسجد الأقصى بني على أنقاضه. وفي ذلك كتب مؤسس الحركة الصهيونية العالمية ومؤلف كتاب «الدولة اليهودية»، ثيودور هرتزل، يقول: «إذا حصلنا في يوم من الأيام على القدس وكنت ما أزال على قيد الحياة وقادرًا على فعل أي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسًا لليهود، وسأحرق الآثار القديمة لقرون».

الأخطر أن ردة الفعل العربية والإسلامية التي لم تكن بمستوى الرد المتوقع على جريمة إحراق المسجد، وهو ما قدَّم للإسرائيليين عنصر أمان كبير في كل الاعتداءات اللاحقة على المسجد الأقصى، وهو ما يتمثل في قول رئيسة وزراء الاحتلال، جولدا مائير، بأنه: «عندما حرق الأقصى لم أنم تلك الليلة، واعتقدت أن إسرائيل ستسحق. لكن، عندما حل الصباح، أدركت أن العرب في سبات عميق».
يقول الكاتب الفلسطيني ساري عرابي: «ضعف المقاومة العربية أو انعدامها، من أهم الأسباب التي دفعت إسرائيل للاستمرار بسياساتها العدوانية في تغيير الوقائع، والتوسع الاستيطاني، والاعتداء على الحقوق العربية، والمس بمقدساتهم»، ويضيف :«لا شك أن حريق المسجد الأقصى عام 1969م كان اختبارًا كبيرًا لردود الأفعال العربية باعتبار المسجد الأقصى مكانًا شديد القداسة بالنسبة للمسلمين. كان ثمة تصور إسرائيلي أن العرب لا تزيد ردود أفعالهم على الاستنكار الصوتي، والآن لا ردود أفعال لدى العرب أساسًا».

ويتابع عرابي القول لـ«ساسة بوست»: «تقوم العقيدة الصهيونية في القدس خصوصًا والضفة الغربية عمومًا على عدة مرتكزات. أولًا: توظيف التأويل التوراتي التلمودي، بادعاء الأحقية التاريخية في أرض فلسطين، ثانيًا: توظيف تلك الدعاية لاستقطاب المستوطنين الصهاينة، ثالثًا: تغيير معالم الأرض، ونزع ما يتناقض مع الهوية اليهودية المزعومة، ومن ذلك تهجير السكان الأصليين، وتهويد الأرض ومعالمها».
(ساسه بوست)