منذر سليمان
تزامنت احتفالات الولايات المتحدة الأميركية بعيد "استقلالها"، مطلع الشهر الجاري، بصعود خطاب اليمين المتشدّد وارتفاع مطَّرد في منسوب العنصرية منذ تسلّم الرئيس دونالد ترامب مهام ولايته الرئاسية. ورُصِد قلق قطاعات متعدّدة من النخب السياسية والفكرية الأميركية من تعاظم احتمالات الصدام والعنف خلال المهلة الدستورية لتسليم السلّطة وتسلّمها عقب الانتخابات الرئاسية.
حرص الرئيس ترامب على تبنّي خطاب العنف في كلمته الاحتفالية يوم 3 تموز/يوليو الجاري أمام النصب التذكاري العملاق لأربعة رؤساء أميركيين في جبل "رشمور" في ولاية ساوث داكوتا، الذي دُشّن في العام 1941، واستغرق العمل به نحو 14 عاماً. وحمّل ترامب المتظاهرين مسؤولية تنامي العنف، وخصوصاً بعد تطور موجة الاحتجاجات، لتستهدف النصب التذكارية المتعددة لرموز العبودية والعنصرية في التاريخ السياسي الأميركي.
أوساط الحزب الجمهوريّ النافذة قلِقة من اندلاع موجات عنف احتجاجاً على إعادة انتخاب الرئيس ترامب. وفي المقابل، يشاطر الحزب الديموقراطيّ نظيره القلق من تجدد العنف في حال هزيمة الرئيس ترامب.
توقعات استطلاعات الرأي أيّدت قلق الفريقين، نظراً إلى اعتقادهما بأنَّ المرحلة الحالية من العنف والعنف المضاد ستتصاعد باتجاه الصّدام الحتمي. وجاءت نتائج أحد أبرز مراكز الاستطلاع، راسموسن، لتلقي حجراً في مياه الانقسامات الراكدة حيث عبّر ما لا يقل عن نصف مجموع عيّنة المستطلعة آراؤهم عن اعتقادهم باحتمال وقوع انقلاب داخل السلطة السياسية الأميركية "خلال العقد المقبل"، وخصوصاً بين صفوف المجموعة العمرية من 25 عاماً إلى 44 عاماً.
وأضاف الاستطلاع أنّ ارتفاع معدّلات البطالة وتداعيات فيروس كورونا دفعت نحو ثلثي العاطلين من العمل إلى ترجيح حدوث انقلاب "بالسبل العنفية في السنوات العشر المقبلة."
وتشير سجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) وبياناته إلى ارتفاع مخيف في حجم مبيعات الأسلحة والذخائر، بزيادة معدلات مبيعات الأسلحة المرخّصة منذ شهر حزيران/يونيو المنصرم بنسبة 177% عن مثيلاتها للعام 2019، والبنادق الأوتوماتيكية بنسبة 144% للفترة عينها. أما مجموع الأسلحة الفردية التي بيعت الشهر الماضي، فقد بلغ 2،3 مليون قطعة، من ضمنها البندقية الرشاشة من طراز "AR-15".
واللافت أيضاً في سجلات المكتب أنّ أعداد مشتري الأسلحة لأوَّل مرة شهدت ارتفاعاً ملحوظاً، وبلغ عددهم منذ مطلع العام الجاري ما ينوف على 2 مليون شخص، وكانت حصة قطاع النساء نحو 40% من مجموع المشتريات.
يوم عيد الاستقلال، 4 تموز/يوليو، تداعى نحو "1،000 عنصر من السود مدجّجين بالأسلحة" إلى الاحتشاد في معقل ولادة المنظمة العنصرية الأبرز "كو كلاكس كلان" في حديقة "ستون بارك" في ولاية جورجيا، للمطالبة بإزالة نصب تذكاري ضخم للرئيس الأسبق جيفرسون ديفيس والجنرالين روبرت إي لي وتوماس جاكسون، يمجّد زمن العبودية.
وأوضحت مجلة "نيوزويك" في 5 تموز/يوليو أنَّ جهاز الشرطة المحلية أقر بسلمية احتجاج المجموعة السوداء "أن أف إيه سي" (NFAC)، أمام التمثال الهائل المحفور بالصخر الذي "يعادل ارتفاعه بناية مكونة من 9 طبقات"، وعلى مساحة بحجم ملعب كرة، وأنها لا تمت بصلة إلى المجموعة الأشهر "حياة السود مهمة". كما أن موقع "ستون ماونتين" يشكّل السود نحو 80% من مجموع سكانه.
ونقلت أيضاً على لسان رئيس المجموعة السوداء، غراند ماستر جاي، أنَّ جهود استقطاب وتنظيم عناصره من السود حصراً، ممن خدموا في القوات العسكرية الأميركية، "والهدف الأول هو فرض وجود الميليشيا في "ستون ماونتين"، وإرسال رسالة بالوجود المسلّح للسود" لمن يعنيهم الأمر. وقدّرت الأجهزة الأمنيّة عدد أفراد المجموعة بنحو 12،000 عنصر تحت السلاح.
ويُعرف القليل عن زعيم هذه الميليشيا الذي يطلق على نفسه غراند ماستر جاي، وسبق له أن خدم في القوات المسلّحة الأميركيّة، كما يعد خطيباً بارعاً ومغنياً شعبياً متمرساً للراب، ويتمتع بكاريزما قيادية والتزام صارم بالتّقاليد الانضباطيّة العسكريّة.
وفي تصريح أخير له، قال: "نحن متقاعدون عسكريون في غاية الانضباط، ولدينا خبرة في إطلاق النار بدقّة المحترفين. لا نهوى الكلام، ولا نرغب في التفاوض (على نيل حقوقنا)، ولا نكتفي بالهتافات وحمل الشعارات في أرض المعركة. نحن تنظيم يؤمن العين بالعين، وعندما نقرر نفعل، وبطريقة قانونية، كما يفعل الآخرون."
كما نقل عنه دعوته إلى انفصال السود، وتكوين دولتهم المستقلة بالسيطرة على ولاية تكساس، إذا لم تتحقق مطالبهم بالمساواة مع البيض أو التعويض عن حقبة العبودية للسود.
واللافت في تلك المجموعة المسلحة أنها لا تحرّض على مهاجمة المؤسسة الأمنية، ولا تستهدف رجالات الشرطة، كما هو الحال مع مجموعات أخرى تقع ضحية التطرف والعنصرية، بل تحرص على تمييز نفسها عن مجموعة "الفهود السود" التي شهدت أوج نضالاتها المسلحة ضد العنصرية وتجلياتها في المؤسسة الرسمية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
ويشدّد مسؤولو المجموعة على أنها "لا تمت إلى الفهود السود بأي صلة، بل ثمة رجال سود مسلّحون يتظاهرون ضد الظلم الاجتماعي.. ويلتزمون بمادة التعديل الثانية من الدستور" التي تتيح للفرد العادي حمل السلاح، والذين ضاقوا ذرعاً بعقم مسيرات "الاحتجاجات المدنية" في أوساط السود منذ بدء عقد الستينيات من القرن الماضي.
التركيبة الاجتماعية للمجموعة السوداء معظمها من مراكز المدن والأحياء المحرومة، مقارنة مع الميليشيات البيضاء ذات الطابع الريفي، وتتباين نشاطاتهما وحضورهما وفق تلك الآلية. ومن غير المرجح توقع حدوث تصادم بالسلاح بينهما في المدى المنظور، بيد أن الأمر قابل للتطور قبيل موسم الانتخابات الرئاسية وخلاله، بحكم توازنات مراكز القوى الراهنة.
ينبغي التحذير من عدم الانزلاق للنظر إلى المسلّحين السود، بصرف النظر عن دقة الأعداد المذكورة سابقاً، من زاوية قرار مركزي بنيّة التصدي المسلح للدفاع عن مطالب المساواة والعدالة الاجتماعية.
الأدقّ ربما أنها ظاهرة قد تتعايش معها المؤسّسة الحاكمة، ولو مرحلياً، لقطع الطريق على تبلور نماذج وسبل تعبير أرقى وأشمل، كما شهدته أحياء السّود خلال عقد الستينيات في منظمة الفهود السود المسلّحة، وحاجة المؤسّسة بجناحيها، الجمهوري والديموقراطي، إلى الظهور بمظهر تقديم بعض التنازلات التي لن تمسّ جوهرها العنصري والاستغلالي، وإدامة الفوارق الطبقية التي تدحرجت إلى نسب عميقة لم تشهدها البلاد منذ قبل.
أما ما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسيّة من ظواهر وتجلّيات قد تحابي اليمين المتطرف وتنظيماته المسلّحة المتعددة، وربما استخدام محدود للسلاح بين المجموعات المختلفة، فستجري وفق سقف ما تأمل المؤسّسة الحاكمة استيعابه وضبط إيقاعاته، ولن يُسمح لأي منها الانفلات وتحكيم السلاح، حتى لو خسر الرئيس ترامب الجولة الانتخابية، ولكن الأوضاع مفتوحة على احتمالات الانفلات عن أي ضوابط ترغب المؤسَّسة الحاكمة في تكريسها.
(الميادين)