بسام ابو شريف
سار موكب مهيب في شوارع بغداد خلف جثمان الدكتور وديع حداد ، الذي كفن بالعلم الفلسطيني وكان في مقدمة الموكب رفيق دربه الدكتور جورج حبش وأبو ماهر اليماني وغيرهما ومنهم أنا ، كان ذلك في الثامن والعشرين من آذار من العام 1978.
وألقى الأمين العام للجبهة الدكتور جورج حبش كلمة رثاء بكى خلالها رفيق الدرب وبطل من أبطال فلسطين ، وأعيد للدكتور وديع حداد اعتباره كاملا كعضو مؤسس – عضو مكتب سياسي بعيدا عن كل الدسائس، التي قامت بها وحاكتها مجموعة من الذين ثبتت عمالتهم وخيانتهم للقضية وللجبهة ، فقد حاول هؤلاء نهش أسد من أسود ثورة شعب فلسطين ، لكن أمرهم كشف وكشف أنهم كادوا أن يسلموا جورج حبش لاسرائيل ، فوليد قدورة وكل من كان في “زمرته”، من الانتهازيين الذين استثمر بعضهم في موقعه القيادي حاكوا الدسائس لتعبئة الجو التنظيمي ضد الدكتور وديع حداد للتخلص منه وحاولوا تسليم جورج حبش لاسرائيل ليقضواعلى من كان يتصدى بكل السبل للعدو الصهيوني .
وما يجعل المرارة تلوي اللسان أكثر،هو أن بعض هؤلاء ” انجرفوا وانشقوا، ليقنعوا أبطال النضال على أنهم يمين أو أنهم يسار، والباقون اما مصنفون ب أو ج ، وهم على عيونهم غشاوة لايعرفون أن قيمتهم النضالية لاتساوي الكثير وكذلك قيمتهم الفكرية أو الثقافية ، أو حتى الأخلاقية .
واذا سألت الآن أين هم هؤلاء تجد الجواب : بعضهم يتلقى رشاوى من خلال تنظيم غير حكومي تدفع له واشنطن أو عواصم الغرب ، وبعضهم انسحب من المعركة وتحول الى داعية دينية وهكذا !!!
رحل الرجال ، وعلى الجبهة أن تعيد مراجعة الأمور، وأن تعتذر لمن فصلتهم دون حق أو مبررات ، وأن تعيد لمن أعطى للوطن اعتباره كما يستحق ، وكما فعل الدكتور جورج حبش مع وديع حداد الذي فصل تنظيميا ، فما بالك بالذين ساهموا بتأسيس الجبهة وفصلوا بدون أساس تنظيمي ، وبتحريض ممن أثرى على حساب التنظيم وشعبنا .
يجب ألا تنتظر قيادة الجبهة استشهاد المناضلين حتى تعيد لهم اعتبارهم كاملا عليها أن تعترف بالوقوع في الخطأ ، وفي هذا الاطار سألني ابو علي مصطفى رحمه الله ” لماذا لم تقدم اعتراضا ” ، أجبت : الاعتراض بماذا على قرار شرعي وليس على بيان صادر عن جهة تنفيذية لايحق الا للمؤتمر أن يبحث الأمر ، وأنا لم أدع للمؤتمر لأناقش خطأكم .
وعندما أرسلت له رسالة أنبهه فيها الى أن الصهاينة يخططون لاغتياله أرسل للحكيم يخبره برسالتي ، وسألني الحكيم : فقلت له انه التحليل المنطقي ، فمن يتابع العدو وما يكتب يعرف ماذا يخططون ، وأي مؤامرات يحيكها ضدنا تماما كما حصل عندما نبهت للغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 ، ورفضتم تحليلي وتم الغزو عكس ماتوقعتموه ومنسجما مع تحليلي لخطط العدو !! ، ولاشك أن ابو أحمد فؤاد يذكر ذلك تماما فقد عانى الكثير أثناء انسحابه من الجنوب عبر الجبال والوديان نحو البقاع بعد أن أصبح من الصعب البقاء في صور وصيدا .
اغتالوا وديع حداد!
لم يكن أحد مطلوبا للعدو أكثر مما كان وديع حداد ، فقد سعت اسرائيل سنوات طويلة للتخلص منه ( وليس صحيحا بل كذب ) ، ما قاله ضابط الاستخبارات الاسرائيلية الذي كشف أن اسرائيل اغتالت وديع حداد ، وأنها قررت ذلك بعد عملية عينتيبه …. هذا كذب فقد قامت اسرائيل بعدة محاولات لاغتيال وديع حداد منها :
– قصف بيته في ” الملا ” – الصنايع ببيروت بالصواريخ ، وقد جرح ابنه هاني خلال تلك المحاولة .
– قصف الطيران مقرا جبليا كان يستخدمه الدكتور وديع حداد ، وللتدريب أحيانا اخرى .
– اقتحم بيت من بيوته في بيروت من قبل عملاء الموساد …. الخ ، لكن كلام الاستخبارات لايتضمن هذه الكذبة فقط ، بل مليء بالكذب وأخطر كذبة فيه هي كيفية تسميم وديع ، فقد ادعت الاستخبارات أنها دست السم بشوكولاته بلجيكية كان وديع يحبها ، وأنها أرسلت له مع مسؤول عراقي كان عميلا للموساد …. كلام كاذب وسخيف ، ولا ينطلي الا على البلهاء ، انهم يريدون تغطية العميل الحقيقي الذي دس السم له .
عندما مرض الدكتور وديع اتصل بي قادة جزائريون ، وطلبوا مني الحضور للجزائر لرؤية الدكتور وديع لأن وضعه يزداد سوءا ، وتوجهت للجزائر دون أن أستأذن من أحد وهناك التقيت بالدكتور وديع ، وهذه هي القصة التي رواها لي : – كنت مدعوا على العشاء في بيت قيادي من حزب البعث مع عدد من القيادات لنبحث في وضع المنطقة ، وما تواجهه من مخاطر بعد تطورات حرب تشرين ، واتجاه السادات للتفاوض ، وعقد صفقة اميركية مع اسرائيل ، وجاء ” السفرجي ” ، حاملا القهوة ووضع فنجانا أمامي ، وما ان شربت منه رشفة حتى شعرت بلعيان النفس ، ورغبة شديدة بالتقيؤ ، فأسرعت نحو حمام داخل البيت ” اذ كنا نجلس في الحديقة ” ، فلم أكمل الطريق لأنني استفرغت في الحديقة ومنذ ذلك اليوم ، وأنا بين صعود وهبوط أتقيأ وترتفع حرارتي …. أتعب ثم أتنشط .
كان وديع بشك أن السم قد دس له ، بقي وديغ فترة في بغداد ثم قرر التوجه للجزائر لمتابعة الفحوصات والعلاج …بقيت في الجزائر عدة أيام أراه خلالها يوميا … لعبنا كرة قدم وأطعمنا ديك حبش كان في الحديقة ، وشاهدته ينهك ويتعب ويتصبب عرفا وترتفع حرارته ، وأبلغته أنني سأذهب لبيروت وأرتب للدكتور نجيب ابو حيدر وشماعة لزيارته واجراء الفحوصات ، ورتبت لهما طائرة خاصة تنقلهما ، وذكرت لهما أنني أشك أن السم دس له …. عادا بعد أن أخذا خصلة من الشعر اقتلعت من جذرها لاجراء فحوصات عليها في اميركا ، فعادت العينة ولم تصل للمختبرالاميركي .
وظل على الحالة التي تزداد سوءا، ووافق بعد رفض قاطع أن يتوجه لألمانيا الديمقراطية
كان يقول لي: “يا بسام هذه دول تبيع عند أول كوع بغض النظرعن هويتها سيبيعونني للاميركان ” انتقل الى المانيا ( راجع كتابي عن وديع حداد ) وتوفي في 28 / 3 / 1978 .
المهم هنا أن وفدا من المكتب السياسي برئاسة الأمين العام جورج حبش توجه بزيارة رسمية لكوبا يوم موت ، وديع ولكن قبل كتابة ” تقرير التشريح ” ، وكان لزاما علينا أن ننام ليلة في برلين قبل التوجه الى كوبا خلال الليل زارنا وزير الأمن ، وطلب عقد اجتماع سري أبلغنا فيه أن وديع قتل بالسم ، وانه سم غير معروف لديهم وانه يتسلل للجسم من خلال اللثة وخلايا الذوق في آخر اللسان ، وطلب منا الحذر وعدم تناول أي مشروب في مكان لايكون تحت سيطرتنا ، وعندما عدنا من كوبا تبين أن التقرير لم ينته بعد ، وبعد اسبوعين وصل التقرير الى بيروت لنجد أنه لايشير اطلاقا لما قاله لنا وزير الأمن لقد شطبت الحقيقة، وبيعت !! .
كنت أترجم التقرير للحكيم وأبو ماهر اليماني في بيتي ببيروت ، وعندما انتهيت نظر الي الحكيم نظرة تحمل سؤالا كبيرا ، فقد كنت أرافقه في تلك الرحلة وتلك الجلسة… ابتسمت وقلت صدق ابو هاني لقد بيع عند أول كوع لكنني خرجت للرأي العام ، واتهمت اسرائيل بتسميم وديع حداد ، ولاذت اسرائيل بالصمت.
تابعت بحثي واستقصائي معتمدا على معارفي وأصدقائي في العام 1988 ، وتحديدا في الخامس من حزيران 1988 ، عقدت قمة عربية في الجزائر تمت تغطيتها من جسم صحفي دولي واقليمي وعربي لم تشهد له مثيلا أي قمة عربية اخرى ، وأطلق عليها لقب قمة الدولة الفلسطينية ، ووزعت على الجسم الصحفي ” أكثر من 1200 صحفي ” كراسا يحتوي على مجموعة مقالات لي مترجمة بالانجليزية ، ومقالي الذي أثار ضجة كبرى تحت عنوان : Prospects of peace in the Middle East – احتمالات السلام في الشرق الشرق الأوسط خلال تلك الأيام التقيت ببعض معارفي من الصحفيين المشهورين اميركيين وفرنسيين وانجليز .
وفي ليلة كنا نتناول فيها العشاء في فندق الاوراسي مرت صحفية اميركية صرخت بالتحية وقالت لي : متى أستطيع رؤيتك ؟
قلت لها : أنهيت عشائي بامكاننا أن نجلس سويا في الزاوية ، كانت قد تناولت بضعة كروس من النبيذ الجزائري وأكملت شرابها ، وهي تتحدث معي .
قالت لي بالحرف الواحد : هل تسطيع بناء سلام مع من قتل وديع حداد صديقك ؟
ونظرت اليها دون تعقيب …. أكملت بقولها : الاسرائيليون اغتالوا وديع حداد بسم لاينتجه الا الاسرائيليون وهو مشتق من ” الثاليوم” ويدخل في اللثة واللسان والحلق ، ويتغلغل ويقضي على الانسان خلال مدة ثلاثة أشهر وسنة ، وذلك حسب الجرعات ويعطى بجرعات متتابعة كمعجون الأسنان أو دواء السعال ، أو بخلطه مع سائل يشربه الانسان .
أصغيت لها دون تعليق ، فأرادت أن تجعلني متحمسا ، وقالت : دعني أقول لك سرا بدون أسماء : فنظرت اليها كأنني أقول هاتي مالديك ، قالت : تعاونت أجهزة أمن عديدة لانجاح العملية …. الموساد تعاون تعاونا وثيقا مع السي آي ايه وقرار الاغتيال قرار اميركي قبل أي شيء ، وتم التعاون مع مخابرات عربية خليجية وسعودية ، ونظم الذي دس السم من قبل السعودية لصالح الموساد الذي زوده بالسم …. هنا قلت : من الذي دس السم ؟
قالت : سوف يقتلونني ان أنا قلت أو بحت بحرف حول هذا السؤال ، لكن أنبهك بأن الذي دس السم هو أحد المقربين جدا من وديع حداد ومازال حتى الآن ” 1988 ” ، في موقع المسؤولية !!…. تابعت : شخص بامكانه دخول بيت ومكتب وديع دون استئذان وهو مقرب جا منه ومسؤول .
من قتل وديع حداد ؟
شخص مقرب يدخل بيته ومكتبه دون استئذان ، ومازال يتحمل المسؤولية أساسية .
وحاولت أن أتعاون مع البعض لمعرفة من ، وبرزت أسئلة اخرى من نوع أين هي أموال المجال الخارجي ؟ من سرقها ومن يتنعم بها ؟
في العام 1978 ، بعد وفاة وديع توجه شريف الحسيني للجزائر للحفاظ على أرشيف ثمين لحركة القوميين العرب والجبهة الشعبية ، ولم يكن يملك مالا هو وقرابة ثلاثين من أعضاء المجال ، وطلب حينها من الرئيس ابو عمار أن يعتمد لهم رواتب شهرية !!
أين ذهبت الأموال ؟ من سيطر عليها ؟ واضافة لذلك كم دفعت السعودية لقاء اغتيال ابو هاني ؟؟
ان واجب الجبهة الشعبية يفرض عليها التحقيق في هذه الجريمة : – الاغتيال والسرقة
ابحثوا عن الجاني ، فقد يكون جالسا بجانبكم ؟!!
رأي اليوم