نورالدين اسكندر
لقد ارتكبت "إسرائيل" منذ ولادتها على الأراضي العربية في فلسطين في العام 1948 جرائم لا تحصى ولا توصف، عبّرت من خلالها عن طبيعة إجرامية وعنصرية، وعن هوس جماعي بالقتل والتنكيل والاحتلال والسرقة، وكل أنواع الجرائم التي يختزنها كيانها المغروس بالقوة في خاصرة البلاد العربية.
ورغم أنّ ذلك الهوس كان، ولا يزال، عارماً في مختلف أنشطة الكيان وفئاته، غير أنه يتجاوز الرغبة في ممارسة الجريمة، إلى تثبيت هذه الممارسات لنتيجة سياسية تؤدي في النهاية إلى إرغام نسيج المنطقة على تقبّل الجسم الغريب المفروض بالقوة والقهر داخل الجسم العربي الممتدّ من المحيط إلى الخليج.
إذاً، "تطبيع" حال الكيان هذا كدولةٍ مقبولةٍ للعيش بين دول المنطقة، كان الهدف الأكثر أهمية بالنسبة إلى قادة هذا الكيان وحلفائهم. وقد رأوا أن الطبيعة العدوانية المتجذرة في أبناء هذا الكيان، وتنشئة أجيال أكثر عدوانية، وشحذ التفوق العسكري والمادي على المحيط، حاجاتٌ ماسة لضمان الاستمرارية. على أن تثبّت الجريمة المستمرة (الاحتلال وبناء دولة على أرض الغير) بجرائم متتابعة، وكلّما دعت الحاجة، وأصحاب هذا الكيان يشعرون يومياً بدعوة هذه الحاجة إلى القتل، من أجل إيصال شعوب المنطقة ودولها إلى قناعة راسخة، بأن لا مناص من قبول "دولة" الاحتلال كدولةٍ طبيعية، والتعامل معها على هذا الأساس في مختلف مجالات الحياة.
لكن الحقيقة أن "إسرائيل" مختلفة بطبيعتها عن كل ما شهده العالم من احتلال خلال القرنين الماضيين على الأقل، فهي ليست "دولة" احتلال وجرائم حربٍ وارتكابات ضد الإنسانية فحسب، بل هي كيان له طبيعة إلغائية قمعية، يقوم على روايات إيمانية عقائدية غير مثبتة في التاريخ، وهي أول كيان يعتمد في منطقه لتبرير احتلاله على روايات تعود إلى آلاف السنين إلى الوراء، في وجه أصحاب الأرض الحاليين، الذين عاشوا في هذه الأرض لآلاف السنين أيضاً.
لذلك، فإن التطبيع مع هذه "الدولة"، واعتبارها كياناً طبيعياً كسائر كيانات العالم ودوله، والتعامل معها ومع مستوطنيها على هذا الأساس، لا يتّسق مع أدنى قواعد المنطق السياسي أو الأخلاقي، قبل أن يكون سقوطاً هائلاً لمن هم في الأساس الدول التي تناصبهم "إسرائيل" العداء، وتضعهم في عين فوّهات قاذفاتها.
فشل المراهنات على السلام
إن عدوانية "إسرائيل" التي وزعت الموت على كل الدول المجاورة لها منذ أن زرعت في هذه الأرض، لم تمنع دولاً عربية ومنظمات وفصائل وأحزاباً، من المراهنة على نيات السلام التي ضللتهم بها، فذهبوا معها إلى معاهداتٍ وتفاهماتٍ واتفاقياتٍ عطّلوا بموجبها الدفاع من جانبٍ واحد، فتوقفوا عن محاولة مواجهة أطماعها، مراهنين على التزامها الذي لم يتحقق يوماً بمضامين هذه المعاهدات.
لقد استمرّت "إسرائيل" في التعدي على الحقوق الأردنية، على الرغم من التطبيع الذي ذهبت إليه الأردن، والجهود التي بذلتها لتعويم خيار "السلام" الذي آمنت به. ومثلها فعلت مصر، التي لم تتوقف "إسرائيل" عن التجسس عليها، ونصب المكائد لها، تارةً في زعزعة أمنها في سيناء، وتارةً أخرى من خلال دعم الأنظمة والمشروعات المناهضة لحقوقها بالمياه في حوض النيل، وطوراً من خلال استخدام جماعات الجريمة المنظمة للإخلال بأمنها، ومنعها من النهوض اقتصادياً، واستغلال قدراتها الهائلة مثلاً في قطاع السياحة.
وترى دول كثيرةٌ (وحتى الكيانات الأخرى كالمنظمات الإقليمية) وجود إمكانية لإدانة "إسرائيل" وممارساتها، والاشتراك في حملات مقاطعة منتجاتها، مع الاستمرار في الاعتراف بها وعدم نفي شرعية وجودها.
لذلك، ورغم أن عضويتها في الأمم المتحدة مشروطة، فإن دولاً كثيرة، ومنها دول عربية وإسلامية، سارت بالتطبيع لأسباب مختلفة، منها ضغط الدول الداعمة للحركة الصهيونية عليها، أو حفظاً لمصالحها الآنية، أو الامتثال لما يسمى "الشرعية الدولية"، أو عدم الثقة بإمكانية زوال هذا الكيان، في ظل الهيمنة الأميركية الغربية على العالم.
ولم تكن اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني أول خطوة في مسار التطبيع، لكنها شجّعت الدول عليه، وأعطت مبرراً للدول والمؤسسات والشخصيات المترددة للمضي في هذا المسار، بعد اعترافها بشرعية وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
لكن تجربة منظمة التحرير الفلسطينية في الاعتراف بـ"إسرائيل"، والتعاون معها كدولةٍ مسؤولة عن تنفيذ ما يتفق معها عليه، باءت بالفشل الذريع، وكانت نتائجه كارثية، حيث وصلت المنظمة إلى خيار الانسحاب من كل الاتفاقيات مع كيان الاحتلال، وسحب الاعتراف الذي أعلنته في أوسلو، فقد اتخذ التطبيع أشكالاً عديدة بعد اتفاقيات أوسلو، حيث صدق الموقعون كذبة السلام الموعود، وأغرتهم فكرة "حلّ الدولتين"، وتعاملت السلطة الفلسطينية مع قيادة الكيان وبعض أحزابه على هذا الأساس، تحت رعاية المجتمع الدولي، الذي شجّع السلطة على قمع المقاومة وملاحقتها، وشجّع المجتمع الفلسطيني على التطبيع المجتمعي عبر منظمات المجتمع المدني، بحجة السير نحو "السلام" و"الاعتراف بالآخر".
"صفقة القرن": التطبيع كمشروع استراتيجي
لقد ساهمت الأجواء التي رافقت الفوضى في العالم العربي منذ العام 2011 وحتى اليوم، بانشغال العديد من الدول العربية المهمة بقضاياها الداخلية، ومهّدت آثار ما سمي بـ"الربيع العربي" لموجة أخرى من التطبيع، بسبب الأزمات السياسية والأمنية التي عصفت بعدد من الدول العربية، فتراجع التركيز والاهتمام بالقضية الفلسطينية، إلا من حركات المقاومة وبعض الدول القليلة التي بقيت على حماسها ومناهضتها للخيارات الاستسلامية، حتى في أحلك ظروفها.
وتمكّنت "إسرائيل" خلال هذه المرحلة من إحداث خروقات تطبيعية في السودان وعمان، وفي بعض دول الخليج العربية، ولا سيما ما كشفته السنوات الأخيرة عن العلاقة المتصاعدة بين المملكة العربية السعودية والكيان الصهيوني، والتي أدى ظهور معالمها إلى العلن إلى تطورٍ بارز تتباهى به "إسرائيل"، ويحسبه نتنياهو إنجازاً من إنجازات إدارته لهذا الملف.
ثم جاءت "صفقة القرن" كنتيجةٍ لمسار طويل من التخلي العربي عن الحقوق العربية والسير خلف أوهام السلام، فبعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منح الأخير القدس المحتلة للصهاينة، متجاوزاً "الشرعية الدولية" و"حلّ الدولتين"، فأخرج بذلك المطبعين من موقف المؤمن بالسلام إلى موقع المستسلم للهزيمة بصورةٍ لا تقبل الشكّ.
لقد فرضت "صفقة القرن" على الدول العربية التي كانت، ولا تزال، تتعاطى مع العلاقات مع "إسرائيل" بخفر واستحياء، إظهار تفاصيل العلاقة إلى العلن.
وحين كانت الدول العربية المطبّعة تخشى ردود أفعال الشارع من الكشف عن ذلك، كانت الصحافة الإسرائيلية أو الصحافة الغربية تنشر تفاصيل اللقاءات والزيارات، وذلك في سبيل إحراج تلك الدول العربية ومنعها من التراجع، واستغلال هذه الأحداث في الداخل الإسرائيلي وعلى المستوى العالمي، كدعاية سياسية لنجاح الدبلوماسية الإسرائيلية في إحداث اختراقاتٍ تاريخية للمواقف العربية التي كانت صامدة في وجه "إسرائيل"، ولإفهام العالم بأن الأخيرة "دولة" طبيعية في محيطها، وهي مقبولة من الشعوب قبل الحكام، وبالتالي نزع الشرعية عن الأعمال المقاومة التي ترفض التنازل عن الحقوق، والتي ترفض التطبيع، فتصبح الحالة المقاومة هي الحالة الخارجة عن الطبيعة، بدلاً من الاحتلال وجرائمه.
ولا شكَّ في أنَّ "صفقة القرن" تحاول من خلال دعم المسار التطبيعي بين الكيان والدول العربية أن تحرف أنظار هذه الدول عن خطر "إسرائيل"، وتستبدل به إفهام هؤلاء بأن الخطر يكمن في إيران، التي تشكل للمفارقة أبرز داعمي حركات المقاومة العربية من بين كل دول العالم التي تتعاطف مع قضايا العرب. كما تحاول نسج علاقة تحالف، تحت المظلة الأميركية، بين "إسرائيل" والدول العربية، على أن توجّه هذا التحالف ضد محور المقاومة في المنطقة.
ولم يكن رفض السلطة الفلسطينية والأردن لـ"صفقة القرن" إلا من باب مجاهرتها بسقف شاهق لا يمكن القبول به، فهي تتضمن تخلياً فجاً ووقحاً عن أساسيات المطالب الفلسطينية والعربية، وفي طليعتها حق العودة، والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة فلسطين.
وقد جاءت الصفقة لتبتلع حتى عبارة "القدس الشرقية"، التي لطالما ترسخت في الاتفاقيات التي رعتها القوى الدولية خلال العقود الأخيرة.
لكن خرائط المنطقة المتغيرة، وإن كانت تحمل في طياتها مخاطر حقيقية على القضية الفلسطينية، وعلى حقوق الشعب الفلسطيني، فإنها تبرز أيضاً آمالاً للشعوب العربية، وخصوصاً أن القوى الحية داخل المجتمعات العربية تمكنت من الحفاظ على العداء لـ"إسرائيل" كمعطى سياسي واجتماعي وسيكولوجي راسخ، على الرغم من كل جهود التطبيع التي صرفت عليها مليارات الدولارات، وخصّصت لأجلها موازنات باهظة في "إسرائيل"، وفي أميركا أيضاً، وأينما حلّ اللوبي الصّهيوني حول العالم.
وتشير الخرائط المتغيّرة هذه إلى انتصار حققه محور المقاومة في أعتى الحروب التي شهدتها المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، فهذا المحور الذي يشكل اليوم الرافعة المعنوية والعسكرية والسياسية والثقافية للقضية الفلسطينية، ولفكرة المقاومة بصورةٍ عامة حول العالم، تمكّن في السنوات القليلة الماضية من الانتصار في حربٍ عالمية حدثت فعلاً، وكان الشرق الأوسط مسرحاً لها.
ولعل الوسائل التي استخدمت في هذه الحرب برزت من أعتى الجيوش الإرهابية المسلحة بأهم منتجات التكنولوجيا العسكرية، إضافة إلى أدهى الحيل المخابراتية والأمنية. والأخطر من ذلك كله، هو تسلّحها بأكثر العقائد تأثيراً بأهل المنطقة، وبإيمانهم الديني الذي لطالما كان متسامحاً، قبل أن تجتاحه أفكار محرّفة عن الديانة الإسلامية، وتحاول من خلال الإيمان الإسلامي اقتلاع قضايا أهل المنطقة المحقة. لقد أفشل محور المقاومة هذه الحرب، وشكّلت هزيمة المشروع الأميركي في المنطقة، وخصوصاً في سوريا، بارقة أملٍ لمناهضي التطبيع، وللشعوب العربية المتمسكة بحقوقها، وخصوصاً الشعب الفلسطيني.
الوجه المشرق من الحقيقة
إنَّ المتمسّكين بخيار المقاومة اليوم، الذي أثبت نجاحه في فرض تحرير الأرض وتحقيق الردع، يرون حتمية فشل التطبيع، بسبب عدم وجود المواد الأولية لقبول "إسرائيل" في المنطقة، وبسبب تطور الخيار الرافض، ونموه المستمر، وتوارثه، وخروج حركة مقاومة أكثر رفضاً من رحم كل حركة مقاومة تنهكها السنوات والمؤامرات ولعبة الأمم.
إنّه سباق تتابع يسلّم فيه كل مقاوم الشعلة إلى مقاومٍ آخر مفعم بالنشاط، وأكثر نضارة، وأشد ضراوة، وأكثر حماساً، وأعمق أملاً، فيما تبهت قضية الاحتلال في عيون الأجيال الإسرائيلية التي تتجه في مسارٍ انحداري لناحية التمسك بالعيش في الكيان، الذي ارتفعت كلفته على مستقبل هؤلاء وأعصابهم وأمنهم وتطلعاتهم.
وإلى جانب ذلك، فإنّ قضية الفلسطينيين تكسب يومياً تعاطفاً متزايداً على المستوى العالمي، مع مساعدة وسائط الإعلام الجديد على إظهار الجرائم الإسرائيلية لحظةً بلحظة، وعلى إظهار مظلومية الشعب الفلسطيني، فحركة مقاطعة "إسرائيل" وبضائعها ومنتجات مستوطناتها، تتوسع وتكتسب مزيداً من الجماهير المؤمنة بها في أوروبا والغرب عموماً.
وقد فهم الأوروبيّون، أو قسم كبير منهم، أن أكذوبة الإسرائيلي المظلوم المتعرض لإرهاب العرب لا يمكن أن تنطلي بعد الآن. في السابق، ومع احتكار الشاشات المؤدلجة والوكالات الموجهة للخبر الفلسطيني، كان الأوروبيون يعرفون عن قضايا الفلسطينيين والعرب أقل مما يعرفونه اليوم، أقل كماً، وأنقص حقيقةً، بل إن معرفتهم كانت بنسبة عالية مضلَّلة.
أما الآن، فإن جرائم "إسرائيل" اليومية باتت أكيدة الوقع في أوروبا، ويرفض الأوروبيون تطبيع سلوكهم مع ما ينتجه الكيان من منتجات على الأراضي المسروقة ومنها.
إن رفض التطبيع مع الكيان ينتقل من حالةٍ عربية، ليكون حالة وعي عالمية؛ حالة يتجه إليها الغربيون، ويعود منها بعض العرب.
الميادين نت