طالعنا الصحف يوميا بأخبار عن تطوير لقاحات جديدة ضد فيروس كورونا المستجد أو توسيع نطاق الفحوصات المخبرية للكشف عن الإصابة بفيروس كورونا حول العالم. ويتطلع المتفائلون إلى تخفيف القيود على حركة المواطنين في أوروبا والولايات المتحدة أسوة بنيوزيلندا وأستراليا.
وأثار إخفاق المملكة المتحدة في وضع خطة واضحة للخروج من الأزمة انتقادات واسعة. وفي الوقت نفسه، يعلق البعض آمالا على فحوصات الأجسام المضادة. لكن هل يمكن السماح للناس بالعودة إلى أعمالهم بأمان إذا أثبتت نتائج الفحوصات والاختبارات أنهم أصيبوا بالمرض وتعافوا منه واكتسبوا مناعة ضد الفيروس تحصنهم من الإصابة به مجددا؟
ربما تتوقف الإجابة على هذا السؤال على عوامل عديدة، منها تطوير فحص دقيق ومعتمد للأجسام المضادة.
وتعرف الأجسام المضادة بأنها بروتينيات ينتجها الجهاز المناعي استجابة لهجوم فيروسي أو بكتيري أو أي مسبب آخر للمرض. وتدمر الأجسام المضادة مسببات المرض التي تغزو الجسم عن طريق الارتباط بها لتصبح غير مضرة، أو بتمييزها لهذه الخلايا حتى يسهل القضاء عليها. وتظل الأجسام المضادة في مجرى الدم بعد الإصابة بالعدوى تحسبا لعودة الفيروس.
وإذا عاد الفيروس تكون الأجسام المضادة مستعدة لمهاجمته ومن ثم يستحث الفيروس استجابة مناعية سريعة إلى حد أننا قد نظن أنها نفس العدوى. ولهذا فمن المعروف أن المريض في طور النقاهة يكتسب مناعة ضد الفيروس تحول دون تجدد الإصابة به.
لكن ماريا فان كيرخوف، من منظمة الصحة العالمية، حذرت في عطلة الأسبوع الماضي من أن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن هذا الفيروس لم يدخل جسما بشريا إلا في نهاية العام الماضي.
وتقول كاترينا بولوك، كبيرة الباحثين في علم اللقاحات بجامعة إمبريال كوليدج بلندن، إن العلماء لا يزالون يدرسون سلوك هذا الفيروس داخل العائل والمرض الذي يسببه للبشر.
وتقول بولوك إن الجهاز المناعي يستجيب سريعا للعدوى الفيروسية بمقاومة الفيروس الذي لم تسبق الإصابة به من قبل. لكن هذه الاستجابة المناعية الفورية تكون غير متخصصة، أي لا تستهدف ميكروبا معينا.
وتتوقف قوة الاستجابة المناعية الفطرية على كمية الميكروبات التي دخلت إلى الجسم، والتاريخ الوراثي ومدى استعداد الجهاز المناعي للاستجابة بناء على الإصابات السابقة.
وتؤثر الحالة الصحية والعمر أيضا على مدى حدة المرض الذي يسببه فيروس كورونا المستجد.
وتظهر أثناء الاستجابة المناعية الفطرية للعدوى التنفسية أعراض شبيهة بأعراض الأنفلونزا، إذ يوظف جهاز المناعة الحمى وآلام الجسم والتعب لتحييد الفيروس بحيث يصبح غير معد. ويساهم رفع درجة حرارة الجسم ونشاط الخلايا التي تلتهم الفيروسات في تحويل الجسم إلى بيئة طاردة للفيروسيات.
وتقول بولوك إن جزءا من الجهاز المناعي يتكيف تدريجيا لتصبح استجابته أكثر تخصصا، بحيث تستهدف مسبب المرض الذي تعرض له جهاز المناعة في الاستجابة الفطرية. وهذه الاستجابة المتخصصة تنجح في معظم الأحيان في طرد العدوى. ويطلق عليها الاستجابة المناعية التكيفية المكتسبة.
وتلعب الخلايا التائية والبائية دورا محوريا في الاستجابة المناعية التكيفية. إذ تنتج الخلايا البائية، وهي المسؤولة عن الذاكرة، أجساما مضادة متخصصة تستهدف فيروسا أو ميكروبا معينا، وهذا يساعدها في الارتباط سريعا بسطح الفيروس لمنع تكاثره. أما الخلايا التائية فتدمر الخلايا المصابة بالفيروس كليا.
ولهذا عند الإصابة بالعدوى للمرة الأولى، يستغرق إطلاق الأجسام المضادة المتخصصة فترة من الوقت، لكن نظريا، إذ أصبت بالعدوى مرة ثانية يكون الجسم مستعدا لمحاربتها.
غير أننا لا نعرف بعد كيف سيتفاعل الجسم مع فيروس كورونا المستجد في حالة الإصابة به مجددا. إذ أشارت دراسة أجريت مؤخراإلى أن القرود التي تعافت من الفيروس، لم تصب به مرة أخرى، رغم أن جرعة الفيروسات التي تلقتها القرود في هذه الدراسة كانت محددة سلفا.
لكن في الواقع، تتفاوت جرعة الفيروسات التي تدخل إلى جسم المصاب وفقا لعوامل عديدة، منها الطريقة التي تدخل بها إلى الجسم، مثل استنشاق جسيمات عالقة في الهواء أو لمس سطح ملوث ثم لمس العينين، أو مدى قربك من الشخص المصاب أو مدة بقاء الفيروس الذي لمسته خارج جسم العائل.
وإذا تعرض الشخص لجرعة بسيطة من الفيروسات في المرة الأولى، فقد تختلف استجابة جهازه المناعي في المرة الثانية إذا تعرض لجرعة أكبر.
ويقول أيكيكو أيواساكي، أستاذ بيولوجيا الجهاز المناعي وعلم الأحياء الجزيئي والخلوي والنمائي بجامعة ييل، إن معدل التعرض للفيروسات قد يفسر تباين شدة أعراض المرض من شخص لآخر. إذ لاحظنا في بعض الأبحاث أن الفئران التي تعرضت لنحو 10 جسيمات فيروسية فقط لم تظهر عليها أعراض الإنفلونزا، ولم تكتسب مناعة ضد الفيروس. في حين أن التعرض لما يصل إلى مليون جسيم فيروسي استحث إنتاج أجسام مضادة لدى الفئران ومن ثم اكتسبت مناعة ضد الفيروس.
ولكي يكتسب الجسم مناعة ضد المرض يجب أن يكون جهازه المناعي قد أنتج أجساما مضادة متخصصة لمقاومة فيروس كورونا المستجد لمحاربة العدوى الثانوية.
وتعالج بعض حالات العدوى الشديدة بنقل البلازما، إذ تجمع كمية قليلة من الدم من أشخاص تماثلوا للشفاء، ثم يستخلص منها المصل الذي يحتوي على الأجسام المضادة التي تكون فعالة في مقاومة الفيروس.
وتجرى الآن تجارب سريرية في المملكة المتحدة على عمليات نقل البلازما من أشخاص تماثلوا للشفاء من فيروس كورونا المستجد.
غير أن العلاج بنقل البلازما لا يمكن التعويل عليه على المدى الطويل، لأنه لن يكفي لعلاج جميع المصابين. فقد يتبرع المريض بما يتراوح بين 200 و500 ملليلتر من البلازما. وينصح بجمع البلازما من الأشخاص الذين يتحملون هذه العملية الشاقة والمجهدة، التي قد يستغرق المريض وقتا للتعافي منها.
ويقول أيواساكي إن المريض الواحد قد يتبرع بالبلازما لشخصين فقط، وينخفض عدد الأجسام المضادة في المصل مع مرور الوقت.
وهذا العلاج يصلح في المستشفيات التي تضم عددا كبيرا من المتبرعين المحتملين، لكن من الصعب إعطاؤه للمرضى في المناطق البعيدة أو الذين يتلقون علاجا خارج المستشفيات.
وقد لا تدوم المناعة التي يكتسبها المريض بعد التعافي من الفيروس لفترة طويلة. إذ يُنصح بالحصول على تطعيم الإنفلونزا الموسمية على سبيل المثال، سنويا، لأن عدد الأجسام المضادة للفيروس ينخفض مع مرور الوقت.
ويتعرض معظمنا للفيروسات المسببة لنزلات البرد بين الحين والآخر، مما يساعد على تعويض النقص في عدد الأجسام المضادة سنويا.
وفي حال لم نتعرض لهذه الفيروسات لفترة طويلة أو إذا ضعف جهازنا المناعي، سنشعر بأعراض البرد المعتادة.
ومن المرجح أن ينطبق الأمر نفسه على فيروس كورونا المستجد، أي أن الجسم سيتخلص منه إذا كان عدد الأجسام المضادة مرتفعا بعد فترة قصيرة من الإصابة الأولى، لكن إذا انخفض عدد الأجسام المضادة للفيروس بعد فترة طويلة من الإصابة به ستظهر أعراض المرض.
لكن بعض العلماء يعتقدون أن هذا النوع من المناعة ضد فيروس كورونا المستجد قد يكتسبه الناس على مدى سنوات. وأشار بحث نشر في مجلة "ساينس" إلى أن التباعد الاجتماعي قد يكون ضروريا حتى عام 2022.
وبالنظر إلى الأوبئة السابقة الناتجة عن فيروسات كورونا، لا يوجد حتى الآن لقاح فعال لفيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية أو فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الالتهاب التنفسي الحاد والوخيم. وفي المقابل وضعت تدابير صارمة لاحتواء تفشي الفيروسات.
لكن هل يمكن أن يعود المريض بعد التعافي من فيروس كورونا المستجد إلى عمله؟ تقول بولوك إن هذا يتوقف على نتائج الفحوصات والاختبارات التي تثبت خلو المريض من الفيروس، ومن ثم لم يعد ناقلا للعدوى.
وفي جميع الأحوال، تظل نتائج الفحوصات إيجابية بعد التعافي بفترة قصيرة. ثم سرعان ما تدمر الخلايا المناعية الفيروسات الميتة المتبقية وتطردها من الجسم.
ولا يمكن الاعتماد أيضا على الأعراض، إذ أشارت دراسة في مجلة "نيتشر" إلى أن المرضى ينقلون العدوى حتى بعد زوال أعراض المرض.
ويعد اختبار البوليمراز المتسلسل، الذي يكشف عن المادة الوراثية للفيروس، هو أفضل طريقة لتمييز الشخص المصاب أو الذي تعافى من المرض مؤخرا من الشخص الذي لم يصب بالمرض.
لكن إيواساكي يقول إن فحوص الأجسام المضادة لا يعول عليها لأسباب عديدة، منها أن الاختبارات قد لا تكون دقيقة ومن ثم تظهر نتائج سلبية، فضلا عن أن 30 في المئة من المرضى لا تنتج أجهزتهم المناعية أجساما مضادة استجابة للعدوى. ويرى أن عدد الأجسام المضادة في الجسم ليس مؤشرا يعتد به على اكتساب مناعة ضد الفيروس، لكنه يدل فقط على حدوث استجابة مناعية.
وتشدد بولوك على أن الأبحاث تجرى في نفس الوقت الذي يتفشى فيه الوباء، وليس من الممكن الإجابة على جميع الأسئلة التي يطرحها الناس على الفور.
المصدر: BBC