العمل، والخروج مع الأصدقاء، وأداء الواجبات الاجتماعية، والعديد من النشاطات الأخرى التي يمارسها شركاء الحياة بمفردهم، كانت تمنحهم وقتًا محددًا وربما ضيقًا يقضونه سويًّا خلال ساعات اليوم. حتى إن بعض الأزواج تعودوا على عدم وجود وقت خاص بهما، إلا في الإجازات الأسبوعية. الأمر الذي يبدو وكأنه تباعد قسري بسبب مشاغل الحياة بين الزوجين، إلا أن هذا الانشغال الذي لا يسمح بالكثير من التواصل فيما بينهما؛ له وجه آخر إيجابي. فهذا التباعد لا يمنح الأزواج الوقت الكافي لافتعال المشكلات، أو التركيز على عيوب الطرف الآخر. لكن الآن، وبعد أن فرضت الحكومات الحجر المنزلي على مواطنيها، وطلبت من الناس التزام منازلهم؛ صارت ساعات التقاء الأزواج، طويلة وممتدة، ما أثر في العلاقة بين شركاء الحياة.
فهل ساعد الحجر الصحي على تحسين العلاقة بين الشركاء؟ أم أن الحجر المنزلي أصبح مجهرًا إلكترونيًّا مصوبًا باتجاه مشكلات العلاقة التي كانت مختبئة في زحام الحياة؟
عبر تجارب حياتية، ومن خلال الحديث مع الطبيب محمد مراد، إخصائي الطب النفسي وعلاج الإدمان؛ نحاول الإجابة عن سؤال: هل ساعدنا الحجر المنزلي في اكتشاف شركاء الحياة من جديد؟
«يا هقتله يا هطلق»
لم تكن العلاقة بينهما في أفضل حال قبل الحجر المنزلي، لكن العزل المنزلي لم يساهم أيضًا في حل المشكلات التي كانت توجد قبل الحجر الإجباري في المنزل، بل كان بمثابة المرآة التي أظهرت كل التفاصيل والاختلافات التي عانيا منها من قبل، وكان العمل والأصدقاء يخففون من وطأتها.
«يا هقتله يا هطلق»، «لولا التدخين كنّا تطلقنا»، خالد ومنال – أسماء مستعارة – شابان تزوجا منذ عامين فقط، وكانت منال تواجه مشكلات تتعلق بنظافة المنزل مع خالد، فهي منظمة تحب أن يكون المنزل نظيفًا طوال الوقت، بينما خالد لا يشغل باله بتلك الأمور.
وبما أن منال تعمل من المنزل الآن، وحصل خالد على إجازة من عمله، بدأت وطأة الخلاف تشتد، فمنال تريد المنزل نظيفًا ومهيئًا نفسيًّا للعمل، بينما خالد لا يلقى بالًا للنظافة والترتيب، بل إن عادته اليومية كما تصفها منال هي: «الإهمال».
يغضب خالد من انتقاد منال الدائم لعاداته اليومية التي يراها طبيعية، ويطلب منها أن تتوقف عن التنظيف إذا كانت ستعنفه بدعوى المجهود الذي تبذله، لكن النظافة ليست الأمر الوحيد الذي يجعل منال «تكره» قضاء الحجر المنزلي مع زوجها، بل عدم مراعاته لكونها تعمل من المنزل، بينما هو في إجازة من عمله؛ إذ يجلس بجوار مكتبها ويشاهد التلفاز عاليًا، ويشتتها عن عملها.
عن تلك الحالة يقول الطبيب النفسي محمد مراد إن تلك المشكلات يمكن حلها بسهولة بفصل المنزل إلى قسمين، أو العزلة لمدة طويلة من اليوم بين الطرفين، فتلك العلاقة إذا كانت ناجحة قبل الحجر ولم يكن هناك مشكلات تثار قبلها، فالحجر هو السبب، وعليهما أن يمنحا بعضهما بعضًا المساحة الكافية التي اعتادا عليها قبل الحجر.
أما إذا كانت تلك المشكلات تؤرق كل منهما من قبل الحجر، ولكن لم يجدا الوقت لمناقشتها بسبب الانشغال في العمل وزحام الروتين اليومي، فهذا هو الوقت المناسب لإلقاء الضوء والحديث بالعقل والمنطق عن تلك المشكلات، والوصول إلى منطقة وسط تريح الطرفين.
وإلا – يحذر مراد – بعد انتهاء الحجر المنزلي لن تُحَل المشكلة، بل سيتضخم الأمر لدى الزوجين؛ لأن الحجر المنزلي والعزلة سلطا الضوء بالفعل على المشكلات التي تعاني منها العلاقة، وينصح مراد الزوجين بالاستفادة من الحجر الصحي، إذ إنه فرصة جيدة لمناقشة الأمور التي تُغضِب كل طرف من الآخر، حتى وإن كانت تلك المناقشة ستسفر عن بعض الشجارات، لكن في النهاية، وإذا كان الطرفان يأملان في نجاح تلك العلاقة؛ سيصل كل طرف إلى منطقة وسط مريحة، وبهذا الشكل يكونا قد استغلا الحجر الصحي في صالح العلاقة وليس العكس.
«ما أجمل الحجر المنزلي»
الحجر المنزلي لم يكن سيئًا لتلك الدرجة على زينب وأحمد – أسماء مستعارة – تخبر زينب «ساسة بوست» بأن هذا الحجر جاء لصالحها تمامًا ولصالح علاقتها بزوجها؛ فهي قبل الحجر كانت تواجه مشكلات كثيرة مع أحمد بسبب عصبيته الزائدة، والناتجة عن ضغط العمل الذي كان واقعًا تحت وطأته.
فهو يعمل ويدرس في الوقت نفسه للترقي في عمله، وكان لهذا أثر سلبي في علاقتهما العاطفية والجنسية، فقلما كانت تسمع منه «كلمة حلوة»، وكادت الممارسة الحميمية بينهما أن تنعدم بسبب مزاجه السيئ، وإرهاقه المتواصل من المذاكرة والعمل.
لكن بعد العزل المنزلي، وحصول الاثنين على إجازة من العمل، أصبح هناك مساحة كافية من الوقت للتواصل بينهما، والخوف من مخاطر فيروس كورونا جعلتهما يتحدان، وأصبح لديهما عادات يومية يتشاركان فيها؛ مثل تطهير المنزل وتعقيمه لحماية أنفسهما من الفيروس.
إلى جانب وقت الفراغ الذي سمح لهما بممارسة المزيد من العلاقة الحميمية، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات المفضلة للطرفين، وفي الوقت نفسه، ورغم هذا التواصل الذي وصفته زينب بالرائع، يمنح كل واحد منهما الآخر مساحة شخصية في اليوم، عندما يجلس كل منهما في غرفته يتحدث مع أصدقائه في محادثات مصورة، أو هاتفية، أو حتى القراءة وممارسة الأنشطة الفردية، ما يمنح الطرفين فترة تجعلهما يفتقدان بعضهما بعضًا، وفي نهاية اليوم يجتمعان في فراش واحد يشاهدان مسلسلات مضحكة أو مثيرة ترفه عنهما، وتبعد عنهما الخوف من الأحداث الجارية خارج المنزل من مرض وموت.
يعلق مراد على تلك الحالة، بأن الطرفين لم يكن بينهما مشكلة من قبل، لكن ظروف العمل القاسية كانت المحفز الأساسي للخلافات بين الزوجين، وينصح مراد؛ زينب وأحمد بعد الحجر المنزلي بالحفاظ على هذا الروتين؛ حتى لا تعود المشكلات بينهما مرة أخرى، ويجب أن يمارسا النشاطات نفسها بعد الحجر، وألا يهملا العلاقة الحميمية بسبب العمل والدراسة؛ فهذا عامل مؤثر في العلاقة، ويكون إيجابيًّا عندما يتواصل الزوجان جنسيًّا بمعدل صحي.
محاربة «العدو المشترك» وسيلة إلهاء فعالة
حينما تحدثنا مع أكثر من زوجين، اكتشفنا أن معظم العلاقات ترى العزل المنزلي من المنظور السلبي، مثل حالة منال وخالد، فالصراعات والنزاعات تحتدم في منازلهما يوميًّا بسبب مكوثهما معًا فترة طويلة، فما الحل في هذا الشأن؟ هذا ما يخبرنا به الطبيب النفسي محمد مراد.
«العدو المشترك»؛ هكذا يخبر مراد «ساسة بوست» عن الحل لكل مشكلات الأزواج الذين يعانون من شعورهم بالضغط النفسي لوجودهما طوال الوقت في المنزل، وأن هذا العدو المشترك يجب أن يكون فيروس كورونا.
فيجب عليهما ألا ينسيا أن السبب الرئيسي للحجر الصحي هو الوباء الذي يهدد العالم، فعليهما أن يتحدا سويًّا ضد هذا الوباء، لافتًا إلى أن توزيع المهام الخاصة بتطهير المنزل وتطهير المشتريات وغيرها؛ سيخلق بينهما نوعًا من التعاون وسيكون عامل إلهاء عن المشكلات التي قد تحدث بينهما.
أما إذا كان هناك طرف منهما يعمل من المنزل، فعلى الطرف الآخر أن يهيئ له الجو العام المناسب لذلك؛ لأن في هذا الوضع الصعب، يكون الطرف العامل منهما هو الطرف المعيل للمنزل، ومن حقه أن يجد الوقت والأجواء الصالحة لممارسة العمل دون إزعاج.
وينصح مراد الطرف الآخر بأن بعض التصرفات البسيطة قد تزيد من الود والعرفان بينهما، مثل تقديم مشروب ساخن للطرف العامل أثناء أداء عمله، أو تقديم وجبة خفيفة له، وأن كل تلك التفاصيل الصغيرة – بحسب مراد – ستجعل من العزل المنزلي نزهة قصيرة للطرفين، لا سجنًا مليئًا بالطاقة السلبية والشجارات.
الحجر المنزلي «فرصة لن تعوض»
«يرى الكثير من مرضاي الآن أن الحجر المنزلي نقمة وليس نعمة»
هكذا يخبر مراد «ساسة بوست»، لكن ما يقوله مراد لمرضاه وللقراء عكس ذلك، فهو يرى أن الحجر الصحي «فرصة لن تعوض» من أجل العمل على العلاقة الزوجية بين الشريكين، وتصحيح المشكلات التي تقف عائقًا أمام استقرار العلاقة.
تلك المشكلات التي لا يسمح العمل أو سرعة إيقاع الحياة، بالوقوف للحظة لمناقشتها بالعقل؛ لأن تلك المناقشات تتطلب وقتًا وهدوءًا كافيًا، وهو الأمر الذي يمنحه لنا الحجر المنزلي، فلماذا – يتساءل مراد – لا يستغل كل زوجين تلك الفرصة لمناقشة التصرفات أو الصفات التي تسبب الخلاف في كل طرف؟
وينصح مراد بكتابة خطابات بشكل منفصل، ومن ثم قراءتها أمام الطرف الآخر، وفي هذا الخطاب على كل طرف أن يفتح قلبه للطرف الآخر، دون استخدام أي كلمات مستفزة أو مهينة، فهي ليست «خناقة» – يوضح مراد – بل هي جلسة «فتح قلب»؛ فيجب أن تكون لغة كتابة الخطابات حنونة وبأرق الأساليب.
وفي المقابل، حينما يسمع كل طرف خطاب الآخر، عليه أن يتقبل وجهة نظره بهدوء ودون شجار، وعليه أن يتقبل أنه، كأي إنسان آخر، قد تكون لديه تصرفات مزعجة لشريكه، وعليه أن يعمل على التخلص منها، أو على الأقل تحييدها.
ضحك ولعب وجد أيضًا.. «الأنشطة المشتركة مُهمة»
قد يظن المرء أن الألعاب أمر تافه، أو يخص الأطفال فقط، ولكن ما يؤكده مراد لـ«ساسة بوست» أن ممارسة النشاطات المشتركة أمر مهم في فترة الحجر المنزلي، ومن أهم تلك النشاطات ممارسة الألعاب المشتركة سويًّا، فهي تخفف من وطأة الوحدة التي يشعر بها الأزواج، إلى جانب أنها تضيف جوًّا من المرح والترفيه في تلك اللحظات الحرجة.
فالجلوس في المنزل فترة طويلة، وعدم ممارسة النشاطات الجسدية من أخطر الأمور على العلاقة الزوجية في فترة الحجر المنزلي، فكل منهما يحتفظ بطاقته الجسدية كاملة، ما قد يعرضهما إلى نوبات غضب أو قلق. ولذلك فإن ممارسة الرياضة سويًّا من أهم النصائح التي يقدمها مراد للأزواج في فترة الحجر الصحي؛ لأنها تساعد على تفريغ الطاقة السلبية، بجانب خلق جوٍّ من المنافسة والمرح بين الأزواج، إذا تنافسوا على أعداد التمرينات على سبيل المثال.
في النهاية يؤكد مراد أن من الطبيعي أن تحدث شجارات بين الأزواج في فترة الحجر المنزلي، فالضغط النفسي، والخوف من الفيروس، والملل والشعور بالتقييد؛ يدفع أي شخص للبحث عن الشجارات دون وعي، ولكن على الأزواج التفريق بين المشكلات الصغيرة التي يجب أن يتغاضوا عنها ويدركون أنها ستنتهي بعد الحجر، وبين المشكلات التي كان للحجر الفضل في إلقاء الضوء عليها، ووقتها على الزوجين أن يتحدثا عنها كما ذكرنا سابقًا.
(ساسة بوست)