ظهرت فجأة عدوى جديدة، ومرض لم تسبق رؤيته من قبل. يتجذر في البشر، ويصبح قابلًا للانتقال بسرعة. ليغير فيروس كورونا لدى البعض ما كان مألوفًا للغاية؛ فهناك عالم مستقر وسريع الحركة. حتى يرمي الفيروس هذا العالم في حالة من الفوضى. وننتظر أن تهزم بعض الأرواح الشجاعة الفيروس، وتعود الأمور إلى طبيعتها. لكن ليس هذا ما يحدث في خيال الروائي، ولا سيما الواقع.
فالأوبئة مثل الحروب والكساد الاقتصادي، اللذين يتزامنان معها غالبًا، لتترك ندوبًا على جسد التاريخ. فلقطات كثيرة من قصة الحضارة كانت حول نضالنا من أجل البقاء قريبين، لكننا اليوم علينا الابتعاد كي لا تنتشر مسببات الأمراض. وهكذا يصبح الأدب تأكيدًا؛ وربما تمردًا، ووسيلة لنقول إننا كنا موجودين ذات مرة، وأن الميكروب والفيروس لا يستطيعان إلغاء أصواتنا. حتى إذا كانت أجسادنا ستذوي لا محالة.
تضامن بشري في مواجهة عالم سخيف
يمكننا القول إنه لا توجد منطقة رئيسة من حياة الإنسان لم تمسها الأمراض الوبائية بعمق. فالأوبئة تنشر الخوف والسلوك غير المنتظم، وبعد فترة طويلة من انتهائها، تظل راسخة في نفس الناجين، غالبًا في شكل حكاية شعبية وسرد أدبي أو تاريخي. ولطالما كان هناك أدب الوباء؛ لأنه كانت هناك دائمًا أوبئة. وما يميز أدب الطاعون والكوليرا والجدري هو السعي لمحاولة الفهم، وإن لم يكن هناك بعض التفسير، على الأقل يبقى هناك معنى من التجربة الأولية للذعر والرعب واليأس. فالسرد هو محاولة لدرء اللامعنى، ومحاولة لوقف النزيف الحضاري، ولو بشكل يائس.
في الأسابيع الأخيرة، ارتفعت مبيعات رواية «الطاعون» لألبير كامو، في أوروبا. حيث يبحث الناس عن معنى في خضم تفشي فيروس كورونا. ويقع «طاعون» ألبير كامو على الساحل الجزائري. وأسفر عن مقتل مئات الأشخاص كل أسبوع ومحاولة بعض السكان لمغادرة المدينة في حالة من الذعر. فقد كان الطاعون قوة شيطانية تفرض إرادتها. وكتب كامو: «كل واحد منا يعاني من الطاعون بداخله؛ لا أحد على وجه الأرض خالٍ منه».
كادت 100 مليون جثة تركها الطاعون في موجاته لتصبح رقمًا لولا ما كتبه ألبير كامو. ربما هي غريزة بشرية للبحث عن المعنى في كل مأساة. سواء كانت طائرة مدنية تم إسقاطها بواسطة صاروخ، أو فيروس قاتل لا يظهر أية رغبة في التراجع. فلا يسعنا إلا أن نسأل «لماذا؟» حتى لو علمنا أنه لا توجد إجابة. وهو بالضبط ما خلص له الراوي، دكتور ريو، بأنه ليس من الأهمية ما إذا كان لهذه الأشياء معنى أم لا؛ كل ما نحتاجه هو الإجابة على سؤال: هل هناك أمل؟
الجواب ليس دائمًا ما نريده. ولكن إذا علمنا كامو أي شيء، فهو أنه حتى عندما تكون المأساة حتمية، فلن يكن أمامنا خيار سوى البحث عن هذا المعنى وإيجاده في بعضنا البعض والتضحية من أجل البقية. ليذهب بما يتمناه لأبطاله بعيدًا عما حدث في الواقع؛ فقد انهارت حضارات بعد الطاعون. وكان على الناجين القلائل، المتناثرين في عالم بدائي، أن يقاتلوا من أجل البقاء. مرددين النظريات الداروينية. فإذا كانت البشرية تنهار انقذ نفسك على الأقل.
كذلك فعل بعض الكتاب المعاصرين لهذا الانهيار، في انتقادهم القاسي للمجتمع الذي نظروا إليه على أنه السبب النهائي لتدمير العالم. فقد أدت الرأسمالية إلى ارتفاع عدد السكان واكتظاظهم، وأدى الاكتظاظ إلى الطاعون. ونتيجة لذلك تُقدم الرأسمالية على أنها السبب النهائي للوباء؛ وبالتالي تنتقد بشدة.
عندما يبدو أن الطاعون سيدمر مدينة وهران بأكملها، ولن يتراجع قبل أن يقتل عددًا لا يحصى من السكان، ويترك خلفه ناجين منهزمين، ليسوا الأكثر حظًا لبقائهم، ولكن سيكونون سعداء لبعض الوقت على أية حال؛ لأنهم عرفوا أن هناك شيئًا واحدًا يمكن أن يتوق إليه المرء في بعض الأحيان، ويصل إليه في بعض الأحيان، فهو حب الإنسان والتضامن معه؛ لأن جميعنا مبتلون، وجميعنا نعاني.
ولأن العزلة الذاتية في رواية كامو خلقت وعيًا قلقًا بقيمة الاتصال البشري والعلاقات بين مواطني مدينة وهران الجزائرية المنكوبة بالطاعون. بالرغم من أن الوباء يختلف عن الكوارث الأخرى التي قد تقضي علينا؛ لأن العدو فيها هو إنسان آخر، أو على الأدق أنفاسه.
كتب ألبير كامو روايته ليس فقط لتحليل أسباب الوباء – التي قد لا تكون حتى غرضها الأساسي – بدلًا عن ذلك، فإن سرده هو تذكير بأن الإنسانية لا تزال موجودة في مكان ما، وأنه إذا لم يكن هناك معنى خارج منطقة الحجر الصحي علينا، فسيكون هناك على الأقل معنى داخل قصصنا المخترعة. وكأن الأدب هو استصلاح ضد ما يمثله المرض، فيصر على أن العالم ليس عالمنا، وسيطرتنا عليه زائفة. أو كما يقول الراوي في «الطاعون»، أنه مع تفشي المرض في مدينة وهران، اكتشفنا تجريد – غير معهود – وعدم واقعية في سوء الحظ. ليكون هذا التجريد قاتلنا. فعندما نواجه عدم منطقية أسباب الكارثة، وقسوة المرض وعشوائيته، يجب علينا أن نتعامل مع حقيقة أننا لسنا سادة هذا العالم.
الدور الحيوي لرواية القصص في وقت الكارثة
يصف جيوفاني بوكاتشيو الوباء وصفًا تفصيليًا ودقيقًا في روايته «الديكاميرون». وصفًا استعاره من بتراركا في مطلع سوناتا بعنوان «الموت»، فيقول: «الحياة تنفلت هاربة، ولا تنتظر ساعة واحدة». ما كان أشبه بترتيلة الموت عندما تجتمع كل الطبقات الاجتماعية في حفلات للرقص والشراب، تلك التي انتشرت في أدب أواخر القرن الرابع عشر. فقد أصاب الطاعون الجميع دون تفرقة؛ رجال ونساء، كبار وصغار، غني ومعدم. وزهق أرواحهم أكثر من أي حرب.
في هذا العام 1348 ميلاديًا، عام الموت، وعام كتابة «الديكاميرون»، وعام بداية أحداثها، تحولت أوروبا بأسرها لمسرح يجتاحه وباء رهيب، لتقرر سبعة نساء وثلاثة شبان أعمارهم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، مغادرة المدينة والهرب. ليبعدوا عن أذهانهم ما رأوه من هلع وموت. والذهاب للعيش في قصر فخم في الريف على مقربة من المدينة.
يتبدل جو الرواية تمامًا بخروج النساء والرجال، وترتفع الضحكات – على الرغم من قسوة الأوصاف في البداية – وينسون الدمامل التي تظهر تحت الإبط، والبقع السوداء المنتشرة في كل أنحاء الأجساد التي شاهدوها في طريقهم. وفي بحثهم عن السلوى تجاهل أبطال الرواية الموت برواية القصص والدخول لعالم النمائم البرجوازية، على أمل النجاة منه. ففي سياق عزلتهم، تتناوب الشخصيات على سرد قصص عن الأخلاق، والحب، والسياسة الجنسية، والتجارة، والقوة. وفي هذه المجموعة من الحكايات يعمل السرد كوسيلة لمناقشة الهياكل الاجتماعية خلال الأيام الأولى من عصر النهضة. ويقدم طرقًا للأبطال لإعادة هيكلة حياتهم اليومية «الطبيعية»، والتي تم تعليقها بسبب الوباء.
كانت النية الخالصة لهؤلاء الشابات والشبان المنفيين ذاتيًا داخل جدران مغلقة هي أن كل شخص مولود في هذا العالم له حق طبيعي في الحفاظ والدفاع عن حياته. وكان الحكي عدوي، تنقيب داخل الدماغ، حتى أصبحت رواية القصص مسكنًا خاصًا بهم لإسكات عويل أولئك الذين يموتون على الجانب الآخر من الجدران الحجرية.
على الجانب الآخر من الجدران الحجرية مات الناس في الشوارع الرئيسة. وانتبه الجيران إلى فقدان بعضهم برائحة الجثث المتعفنة داخل الممرات الضيقة بين الغرف. وانهارات الروابط الاجتماعية. فقد زرع الطاعون رعبًا كبيرًا في قلوب الرجال والنساء لدرجة أن الأخوة تخلوا عن إخوتهم، وأعمامهم، وأبناء أخواتهم، وإخوانهم. ورفض الآباء والأمهات رعاية الأطفال ومساعدتهم. وانسحب الناس إلى منازلهم.
ظلال مختلفة للإنسانية وأخلاق ما بعد نهاية العالم
تأتي كلمة «الحجر الصحي» من الحجر الإيطالي وتعني «أربعين». ونشأت ممارسته قبل وقت طويل من فهم الناس لما كانوا يحاولون بالضبط احتواءه، ولم تكن فترة الأربعين يومًا لأسباب طبية، ولكن لأسباب كتابية، حيث يشير كل من العهدين القديم والجديد إلى إشارات عديدة للرقم أربعين في سياق التطهير.
في رواية ستيفن كينج «الموقف»، لم يكمل العالم 40 يومًا ليتخلص من سكانه، لنرى نهاية العالم الحقيقية، بعد ساعات قضتها البشرية في رعب من كل شخص يسعل في الحافلة. فيتجنب كل مواطن الآخر، ويتجاهل الجميع الجميع؛ لأن الموت الذي لم يتقبلوه من قبل بحكمة وصبر، وكان نادرًا ما يحدث بين دوائرهم، ظهر بوضوح. وكلهم