أخيرا فتح العلماء أبواب امتلاك الآلة لجميع الحواس البشرية بمنحها حاسة الشم، التي كانت من آخر القلاع المستعصية، بعد ابتكار “أنف” اصطناعي يمكن أن يوسع أدوار الروبوتات بشكل كبير ويعزز زحفها على وظائف البشر وحتى الكلاب البوليسية، حين تنتزع وظائف التفتيش عن المخدرات والمتفجرات، وصولا إلى تشخيص الحالات المرضية، إضافة إلى تعزيز الوظائف التي تقوم بها بالفعل مثل اختبار جودة الهواء.
أخيرا تمكن باحثون من تحقيق اختراق كبير في محاكاة حاسة الشم لدى الإنسان وفك شيفراتها المعقدة، بعد أن باءت العشرات من المحاولات السابقة بالفشل، بسبب القدرات الهائلة التي تتمتع بها هذه الحاسة لدى البشر، ناهيك عن الحيوانات الأخرى مثل الكلاب، التي يستخدمها الإنسان للكشف عن المواد المحظورة.
فقد استطاع باحثون من مختبرات “إنتل لابز” وجامعة كورنيل في نيويورك من ابتكار شريحة عصبية بمقدورها التعرّف على روائح عشر مواد كيميائية بمستوى عال من الكفاءة.
ورغم أنها خطوة أولية ستتبعها حتما تطورات أكبر، إلا أن الآلة والروبوتات يمكن أن تنتزع من خلالها الكثير من الوظائف المتعلقة بتلك الروائح وسوف تتمكن من التفوق على البشر في تلك المهام المحددة دون الحاجة إلى القدرات الواسعة والمعقدة للأنف البشري.
من الأدوار التي يمكن أن تنتزعها الروبوتات مستقبلا من خلال ذلك الأنف الإلكتروني، وظائف التفتيش عن الأسلحة والمتفجرات والمخدرات واختبار جودة الهواء ووظائف السلامة والتطبيقات الصناعية، إضافة إلى فتح الأبواب لدور أوسع في تشخيص الحالات المرضية.
قد تتصدّر العين والأذن قائمة الحواس، لكن العلماء يقولون إن قدرات الأنف تتفوّق في خارطة التمييز بين عدد هائل من المثيرات الحسية المختلفة، ممّا يتيح للبشر القدرة على التعرف على تريليون رائحة مختلفة.
رقاقة عصبية خارقة
ورغم تمكّن العلماء من تطوير روبوتات تستطيع محاكاة معظم الحواس البشرية، حيث يمكن القول إنها متفوقة على البشر في النظر والسمع وتحرز تقدما متسارعا في حاسة اللمس، إلا أن تطوير أجهزة إلكترونية تمتلك القدرات المذهلة للأنف الطبيعي، كانت أمرا أشبه بالخيال.
وحدث التحول الكبير حين تمكّن باحثون من شركة إنتل للتكنولوجيا وجامعة كورنيل من قطع تسجيل اختراق هائل، بابتكار رقاقة إلكترونية عصبية بحثية أطلق عليها اسم “لويهي” وهي تتمتع بقدرات فريدة على التعلم والتعرّف على روائح مجموعة متنوعة من المواد الكيميائية الخطرة.
وتؤكد شركة إنتل أن رقاقة “لويهي” هذه تحتوي على أكثر من ملياري ترانزستور و130 ألف خلية عصبية اصطناعية وهي أسرع ألف مرة وأكثر كفاءة بعشرة آلاف مرة من المعالجات التقليدية.
وحسب ما أفاد الباحثون مؤخرا في دورية “نيتشر ماشين إنتليجنس” فإن الذكاء الاصطناعي الجديد يتعلّم التعرّف على الروائح من عينة اختبار واحدة فقط وبشكل أكثر كفاءة وموثوقية مقارنة بأيّ نظام تقليدي للتعرّف، بما في ذلك نظام التعلم العميق، الذي يتطلب حوالي 3000 اختبار لعينات التدريب للوصول إلى نفس المستوى من الدقة والكفاءة. ويمكن لهذا النظام التعلم والتعرف على كل مادة كيميائية على أساس رائحتها من دون تعطيل الذاكرة للروائح التي تمّ تعلمها مسبقا.
ومفتاح نجاح البرنامج وفقا لمطوّريه يكمن في هيكله العصبي الذي يشبه إلى حد كبير الدوائر العصبية في أدمغة الثدييات، حيث يعمل بنفس المبادئ الحسابية لتحليل الرائحة مثل العقول البيولوجية في البشر والحيوانات.
وقال نبيل إمام كبير الباحثين في مختبرات “إنتل لابز” والحاصل على الدكتوراه في الحوسبة العصبية “نعمل على تطوير خوارزميات عصبية في رقاقة “لويهي” تحاكي ما يحدث في دماغك عندما تشمّ رائحة شيء ما”.
وقام إمام مع توماس كليلاند من جامعة كورنيل في نيويورك بإنشاء منظومة ذكاء اصطناعي قائمة على البصلة الشمية في الثدييات، وهي بنية عصبية في الدماغ الأمامي، معنية بمعالجة وإدراك الروائح. وتحاكي الخوارزمية التي تمّ تطويرها جزءا من هذه المنطقة وتميز بين الروائح المختلفة، التي عادة ما تكون موجودة كمزيج من المركبات في الهواء.
وتحتوي البصلة الشميّة على نوعين رئيسيين من الخلايا العصبية، الخلايا التاجية التي تنشط عند وجود الرائحة لكنها لا تحددها، والخلايا الحبيبية التي تتعلم كيف تصبح متخصصة وتلتقط المواد الكيميائية في الرائحة.
محاكاة الدماغ
يقول نبيل إمام إن فريق البحث “يدرس نظام حاسة الشم البيولوجية في الحيوانات ويقيس النشاط الكهربائي في أدمغتها عند شم الروائح، وبناء على مخططات الدوائر والنبضات الكهربائية طورنا مجموعة من الخوارزميات وقمنا بتكوينها على السيليكون العصبي”. وتعد حاسة الشم من أعقد الحواس لدى البشر، فعندما يشمّ الشخص فاكهة على سبيل المثال، تحفّز جزيئات الفاكهة الخلايا الشمية في الأنف والتي ترسل بدورها إشارات إلى نظام حاسة الشم في الدماغ، حيث تولد النبضات الكهربائية داخل مجموعة مترابطة من الخلايا العصبية إحساسا فريدا بتلك الرائحة.
وتمكّن الباحثون من إعادة بناء العملية برمتها في شريحة “لويهي” باستعمال 72 مجسا كيميائيا. حيث تم نقل استجابات المجسّات للروائح الفردية إلى الشريحة حيث تقوم دوائر السيليكون بمحاكاة دوائر الدماغ الكامنة وراء حاسة الشم.
وتمكّن الذكاء الاصطناعي من التعلم بسرعة وأظهر في نهاية المطاف طفرات نشاط خاص بكل رائحة من الروائح العشر التي تم تدريبه عليها، ومنها الأسيتون والأمونيا والميثان وأول أكسيد الكربون.
ثم قام الباحثون باختبار قدرة الذكاء الاصطناعي على “شم” الروائح من بين روائح أخرى لم يتم تدريبه على اكتشافها. وتمكن من تسجيل نجاح بنسبة 100 في المئة تقريبا لثماني روائح و90 بالمئة للباقيتين.
وتستخدم كاشفات الدخان وأول أكسيد الكربون في المباني والمنازل أجهزة استشعار لاكتشاف الروائح والجزيئات الضارة في الهواء، لكنها لا تستطيع التمييز بينها، وغير قادرة على تصنيفها بطرق ذكية.
ويقول إمام إن مجتمع الاستشعار الكيميائي ظل يبحث لسنوات عن أنظمة معالجة حسية كيميائية ذكية وموثوقة وسريعة الاستجابة، والتي يطلق عليها “أنظمة الأنف الإلكترونية”.
أكد إمام أن هذا التطور التكنولوجي يفتح الباب أمام إمكانية تطوير روبوتات مجهزة برقائق عصبية للمراقبة البيئية والكشف عن المواد الخطرة أو لأعمال مراقبة الجودة في المصانع. كما يمكن استخدامها في التشخيص الطبّي حيث تنبعث من بعض الأمراض روائح معينة.
(العرب اللندنية)