2024-11-27 12:34 م

«الكرنتينا».. مناطق الحجر الصحي التي أصبحت شاهدة على مآسي العرب

2020-04-03
نهاد زكي

في كل دولة من دول العالم تقريبًا، كان هناك حي غالبًا ما يكون قريبًا من موانئ التجارة القديمة أو حدود المدن الكبرى والعاصمة؛ يعرف باسم «الكرنتينا»، والتي كانت كلمة مشتقة من الإيطالية تعني «40 يومًا»، وكانت تشير إلى الفترة الخاصة بـ«الحجر الصحي». نشأ «حي الكرنتينا» في القرن الرابع عشر الميلادي، وذلك في محاولة لحماية المدن الساحلية من وباء الطاعون؛ إذ كان على السفن القادمة إلى ميناء البندقية من المدن المصابة أن تنعزل عند المرسى مدة 40 يومًا، حتى التأكد من سلامتهم. 

على الرغم من ذلك، شهد حي «الكرنتينا» على مدار القرون الفائتة تغيرات ديموغرافية واجتماعية كبيرة؛ إذ أصبح يعد من مخيمات اللاجئين في بعض البلدان، ومن الأحياء الشعبية الأكثر بؤسًا في أخرى؛ كما ارتبط اسمه بانتشار الجرائم والدعارة والمخدرات. وفي السطور التالية سنتتبع سيرة هذا الحي عبر الزمن، والتغيرات الجوهرية التي شهدها، وذلك من خلال ثلاثة أحياء لثلاثة دول مختلفة.

«كرنتينا» الإسكندرية.. عالم سفلي لمدينة جميلة

جعل الروائي نائل الطوخي في روايته «نساء الكرنتينا»، حي الكرنتينا بالإسكندرية، يبدو وكأنه تمثيل للعالم السفلي في المجتمع المصري. الوجه الآخر لمدينة قسطنطين كفافيس الجميلة، وهي غارقة في الجريمة والدعارة وسحب الدخان الأزرق.

قال كفافيس قبل قرن من الزمان: «وودع الإسكندرية التي تفقدها». وهو الأمر ذاته الذي فعله الطوخي برؤية كابوسية خلال روايته لتمرد المهمشين على السلطة، وتكوين عالم خاص مستقل. موحل؛ إلا أنهم اختاروه بأنفسهم. تاريخ شعبي في مواجهة التاريخ الرسمي. وقد اختار الطوخي هذا الحي الأكثر بؤسًا بالتحديد، والذي أزالته الحكومة في أواخر التسعينيات، ليكون مسرحًا للرواية، لما له من تاريخ طويل «موصوم» بالمرض والأوبئة وأخيرًا الجريمة.

يشير جوزيف بيرن في كتابه «الموت الأسود» إلى أن «جائحة الطاعون» كانت السبب الرئيسي وراء اتجاه المسؤولين نحو إنشاء أماكن خاصة للحجر الصحي و«العزل»، والتي كانت عبارة عن أكواخ تقع خارج أسوار المدن.

أما حي «الكرنتينا» في الإسكندرية، فله قصة أخرى، تذكرها الباحثة لافيرن كونكه في كتابها «الصحة العامة في مصر القرن التاسع عشر»؛ إذ تشير إلى أن إقامة «الكرنتيلات» في الإسكندرية يعود إلى زمن الكوليرا في عصر محمد علي عام 1831، والذي كان أكثر الأوبئة فتكًا في تاريخ مصر، ففي غضون شهرين أودى المرض بحياة 150 ألف من مجموع السكان البالغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة.


في ذلك الوقت اقترح محمد علي على القنصليات الأوروبية تنظيم مجلس لحماية المدينة الساحلية من الوباء، وذلك وفقًا لما ذكرته الباحثة كونكه من تقارير القناصل. واجتمع 17 من ممثلي القناصل وعينوا لجنة من خمسة رجال ليكونوا أول «مجلس حجر صحي» بالإسكندرية. وقد تمثلت الخطوة الأولى في تطويق المدينة ونشر الأطباء. أما الجبرتي، فيشير في كتابه «مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس» إلى أن بلاد الغرب قد اعتمدوا فعل «الكرنتيلة» أي الحجر الصحي وذلك لحماية جنودهم من الطاعون، وهو ما فعله نابليون بونابرت حين دخل مصر؛ إذ كانوا يشددون في أمر الحجر الصحي خاصةً على موانئ الإسكندرية. رغم ذلك لم تشهد البلاد الحجر الصحي بمفهومه الحديث إلا في عهد محمد علي باشا.

بنى محمد علي عدة «كرنتينات» في أنحاء مصر، وهي مكاتب خاصة بالحجر الصحي في المناطق الحيوية التي تطل على الموانئ البحرية، وذلك لعزل القادمين إلى البلاد أربعين يومًا، لحين التأكد من سلامتهم، وقد كان من بينهم «كرنتينا» الإسكندرية، الواقعة بالقرب من الميناء. كما كانت «لازاريت» وهو حي الأزاريطة بالشاطبي يمثل أول «محجر صحي» على غرار المعازل الأوروبية. وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى أول محجر صحي في فرنسا، والذي كان يستخدم لحجز المجذومين.

لم تكن الإسكندرية هي المدينة الوحيدة التي شهدت أحياء للحجر الصحي؛ إذ أقام الباشا كرنتيلة -وهو اللفظ المحرف الذي استخدمه الجبرتي- أخرى بالجيزة؛ إذ نودي على الأهالي ممن يملك قوته وقوت عياله مدة 60 يومًا ألا يخرج من البلدة، وأعطاهم محرم بك ثلاثة أيام لقضاء احتياجاتهم.


في لبنان.. «مجزرة الكرنتينا»

يقولون عنه: «مخيم الكرنتينا في بيروت الغربية»، وهو الحي الذي كان شاهدًا على الحرب الأهلية والكثير من مآسيها. ففي كتاب «شتات بيروت: مذكرات حرب 1975-1990» تروي الباحثة جين سعيد المقدسي، قصة منطقة «الكرنتينا» في بيروت، منذ أن كانت في الماضي محطة للحجر الصحي الملحق بمرفأ بيروت، وكيف أصبحت مركزًا للاجئين، وآلاف من الفقراء العائشين في العاصمة، وذلك حتى «مجزرة الكرنتينا»، وفرار أهل الحي المعدمين.

كان محجر الكرنتينا قبل عشرات السنين مرافقًا لمرفأ بيروت وقد كانت الغاية منه استقبال ركاب السفن «الملوحة بشارةٍ صفراء»، إشارة إلى احتمالية وجود مصابين بوباء فتاك. في الحي تجد المشفى الخاص بالحجر الصحي وقد دون اسمه «مستشفى بيروت الحكومي ـ الكرنتينا»، إلا أنه تنازل عن مهامه في الثمانينيات بعد تراجع الأوبئة وتقدم الحرب الأهلية.

عن حي الكرنتينا يقول علي فاعور في كتابه «بيروت: التحولات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية» أنه أحد أقدم أكواخ البؤس في العالم؛ إذ نشأ في عهد الانتداب الفرنسي عام 1922، إثر قدوم اللاجئين الأرمن من كيليكيا جنوب الأناضول، وقد انضم إليهم فيما بعد اللاجئين الفلسطينيين والأكراد والعمال السوريين، وبحلول عام 1959 تحولت «الكرنتينا» إلى تجمع سكني ضخم تميز باستقبال اللاجئين والمشردين من اللبنانيين والعرب وغيرهم. وقد تكونت أكواخ الكرنتينا على مدار نصف قرن من 1922 وحتى 1975.



أما مجزرة الكرنتينا، فتعود أحداثها إلى أولى سنوات الحرب، تحديدًا 1975-1976؛ وذلك عندما اختلط الدم بالبؤس أمام العدسات الإخبارية العالمية، كأحد حلقات الحرب والقتل والتخويف. وصف إعلام اليمين «اقتحام الكرنتينا» من قبل الميليشيات المسيحية المسلحة بـ«سبت النور» وتحرير للمنطقة من المجرمين والمخربين، إذ جرى حصار الكرنتينا وتهجير السكان وتدمير الأكواخ وإزالة المساكن؛ وتشير المقدسي إلى أن يناير (كانون الثاني) 1976، جرت أول مجزرة، تبعها فرار ما تبقى من السكان المذعورين، وهدمت بيوتهم بالجرافات.

قيل عن الشباب الذي ارتكب المجزرة بأنهم كانوا يحملون حول أعناقهم صلبان كبيرة، وقد بدوا وكأنهم تحت تأثير المخدرات، في الوقت ذاته يشير أحمد زكي في كتابه «اغتيال رفيق الحريري» إلى أن مقاتلي الكتائب المسيحية قد ذبحوا سكان الكرنتينا من الفلسطينيين السُنة، وهجروا سكانه من المسلمين اللبنانيين.

في جدة.. حي «المحجر الصحي» سابقًا والعمالة السائبة حاليًا

عرفت جدة إجراءات الحجر الصحي منذ القدم، وذلك عندما انتشرت «الكرنتينات» على ساحل البحر الأحمر وميناء جدة، والتي كانت مهمتها استقبال الحجاج القادمين بالسفن، وحجر المصابين وتقديم الرعاية الطبية لهم. وأن «الكرنتينا» كانت تطلق في مدينة جدة على منطقة الحجر الصحي بجوار ميناء جدة الإسلامي. وكان المحجر الصحي يتألف من جزيرتي أبي سعد والواسطة الواقعتين إلى الجنوب من جدة.

أما عن تحول «حي الكرنتينا» ليصبح من الأحياء السكنية، فيشير أحمد الهجاري، رئيس مجموعة الحفاظ على التراث العمراني، إلى أنه بعد انتقال الكرنتينا إلى مستشفى المحجر الصحي عام 1955، تحول موقعها القديم بمرور الأيام إلى حي سكني. وقد وصف هذا الحي الذي يعتبر حاليًا من أحياء جدة القديمة، بأنه قد جمع داخله خليط مختلف من التركيبة السكانية، حتى أصبح واحدًا من الأحياء العشوائية، الذي يكتظ بالمخالفات والعمالة السائبة، بحسب ما ورد في صحيفة «عكاظ» السعودية عام 2013.
يقول أحمد العقيلي، الصحافي في جريدة عكاظ، عن الحي: «أنت في الكرنتينا غريب، حتى تغادر»؛ إذ قام بعمل جولة بين كبار السن من ساكني الحي ليخبروه عن أسرار المنطقة وخباياها، ويتميز الحي بمجموعة من السكان الأفارقة، والذين يشير كبار السن إلى أن وجودهم يعود إلى الحجاج الأفارقة المرضى الذين قدموا منذ 60 عامًا، وحجزوا في المحجر الصحي الواقع في «الكرنتينا»، وبعد تعافيهم نقلوا إلى المساكن التابعة للمحجر، وقد كون سكان الحي مجتمعًا خاصًا بهم، يوفر لهم احتياجاتهم الأساسية.

يتكون الحي من مربعات سكنية تختلف كل واحدة عن الأخرى، وينتشر فيه المتسولون وتدار داخل منازله البسيطة عمليات التزوير، بحسب العقيلي، ويعج بالمخالفات الأمنية والبلدية والعمالية وأوكار الدعارة. رغم ذلك يشير منصور الحاج، إلى أن سكان الكرنتينا ليسوا شياطين كما يصورهم الإعلام السعودي، وأنما بشر مثلنا فشلت الدولة في توفير أبسط مقومات الحياة لهم، فوقعوا في براثن العنف والجريمة.

ساسة بوست