لا شيء واضح، لا شيء متوقع، البشرية تتعرف إلى كوفيد-19 للمرة الأولى. جولة أولى جمعت البشرية بالفيروس القاتل، النصر في الجولة حتى الآن للوافد الجديد من سلالة «كورونا». لكن أيعني وصف الجولة بـ«الأولى» أنه سوف يكون هناك ثانية؟ الإجابة: لا شيء واضح. أو أيعني ترتيب الجولات عامةً أن ما نشهده حاليًا لن يكون الجولة الوحيدة؟ الإجابة أيضًا: لا شيء متوقع.
تخرج الدراسات والأبحاث كل يوم بمعلومات جديدة عن سلالة فيروس كورونا المستجد. ما زالت صفحة كوفيد-19 فارغة ويُوضع فيها كل يوم بضع كلمات عن أعراضه أو طرق انتقاله. كما تُعدَّل أرقام الوفَيَات والمصابين في تلك الصفحة كل لحظة، لدرجة تجعل من غير المنطقي وضع رقم للمصابين أو الوفيات في هذا التقرير.
في آخر الصفحة يوجد سؤال مكتوب بخطٍ أسود كثيف، تشاركك البشرية جميعًا الانتظار والترقب لإجابته، «كيف تغلبت البشرية على جائحة عام 2020 لفيروس كورونا المعروف علميًّا بكوفيد-19»؟
لا توجد إجابة حتى لحظة نشر هذا التقرير عن هذا السؤال؛ لأنه لا شيء واضح، لا شيء متوقع. لكن قياس الجائحة الوبائية على مثيلاتها من الأوبئة السابقة التي تفشت في القرن الواحد والعشرين، يمكن أن يعطي صورةً تقريبية للنهاية المُحتملة للوباء الحالي. فكما يقول هيجل: «الأحداث التاريخية الكبرى تعيد نفسها مرتين». وبرغم تعقيب كارل ماركس على تلك المقولة بعد تأكيدها، بأن «التاريخ حين يعيد نفسه فإن المرة الأولى غالبًا ما تكون مأساةً، أما الثانية فتكون مهزلة»؛ فإنه في حالة الأوبئة التي عرفها البشر، فكل مرة إعادة، هي لا شك مأساة جديدة.
فيروس موسمي.. «سارس» اختفى لكن لم يمت
في عام 2003 مات 800 شخص حول العالم، وأصيب 8 آلاف آخرون. الفيروس الذي كان في حلبة الصراع مع البشرية هذه المرة هو «سارس»، أو وباء متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد. بدأ «سارس» من أسواق الحيوانات في الصين، ثم حط رحاله في دول جنوب شرقي آسيا، تايلاند وكمبوديا، ثم صار تهديدًا لكل البشر.
احتواء «سارس» حدث بإغلاق أسواق الحيوانات الصينية المشتبه في نشأته منها. إجراء يبدو بسيطًا وغير كافٍ لإيقاف سلسلة الانتشار التي بدأت بالفعل. لكن الإجراء كان إجراءً بشريًّا كافيًّا لوقف المنبع الذي يخرج منه الفيروس، وتكفلت طبيعة «سارس» بالباقي.
يتشابه «سارس» مع كوفيد-19 في تركيبهما الوراثي بنسبة 90%. لكن يختلف «سارس» عن سلالة كوفيد-19 في أن المُصاب بالأول لا ينقل العدوى للآخرين إلا بعد ظهور الأعراض عليه. وبمجرد ظهور الأعراض يجري عزل المريض واحتواؤه، ما ساهم في كسر سلسلة انتشار المرض. لكن ما بين ظهور الأعراض والعزل، ألا تنتقل العدوى من المصاب إلى آخرين؟ حتى لو انتقلت العدوى فإن «سارس» كان أقل عدوانيةً من كوفيد-19.
أيضًا التزم «سارس» بتعريفه كفيروس تنفسيّ موسمي، فظهر في فصل الشتاء، وتوقف عن الانتشار في أوائل الربيع. هدنة ثمينة منحها «سارس» للبشرية كي تعالج المصابين به، وتتخلص من الحيوانات المشتبه في إصابتها، وتكسر سلسلة العدوى. لكن لا إجابة للسؤال الذي يدور الآن في ذهنك، لا أحد يعرف كيف تنتقل العدوى من الحيوان للإنسان، ولم تتوصل البشرية للقاح فعال يقضي على الفيروس حال انتشر – وهو ما نأمل ألا يحدث – مرةً أخرى.
«إتش1 إن1» و«ميرس».. أوبئة قابلة للعودة في أي وقت
بعد «سارس» بستة أعوام، دخل حلبة الصراع لاعب جديد، فيروس إنفلونزا الخنازير أو «إتش1 إن1». أول انتشاره كان في المكسيك عام 2009، وأصاب قرابة 60 مليون شخص في الولايات المتحدة. عُرف هذا الفيروس باسم إنفلونزا الخنازير؛ لأن العلماء اشتبهوا أن انتقاله بدأ من الخنازير إلى الإنسان.
تقديرات الضحايا الذين فتك بهم الفيروس تراوحت بين 151 ألف إنسان إلى 575 ألفًا. حذرت منظمة الصحة العالمية من ذلك الفيروس تحديدًا؛ لقدرته الكبيرة على التحور ومقاومة الأدوية التي يتناولها المصابون.
انتهى تفشي الفيروس عام 2010 بإعداد لقاح له، لكنّه كان قد حصد – في المتوسط – أرواح 250 ألف إنسان على مستوى العالم، من ضمنهم ألف مواطن عربي من مختلف الدول العربية. وجود لقاح لهذا الفيروس لا يعني وجود وسيلة فعالة للقضاء النهائي عليه؛ فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن بإمكان هذا الفيروس التحوّر كل ثلاث سنوات، لذا ففي حالة تفشيه مرة أخرى ربما يكون اللقاح المضاد له الموجود حاليًا، بلا قيمة.
لم يكد العالم يلتقط الأنفاس من انتهاء تفشي إنفلونزا الخنازير، حتى ظهر «ميرس». متلازمة الشرق الأوسط التنفسيّة التي أصابت أكثر من 2500 فرد من دول الشرق الأوسط، بعدما اكتُشفت لأول مرة في المملكة العربية السعودية عام 2012. يتشابه «ميرس» مع كوفيد-19 في تأثيره على الجهاز التنفسي وأعراض الحمى والسعال. لكن يختلف في أن «ميرس» لا ينتقل بين البشر بسهولة مثلما يفعل الوباء العالمي الراهن.
الحالات الأخرى التي لا ينتقل فيها «ميرس» من إنسان لإنسان، تنحصر في انتقاله من الإبل للإنسان. صعوبة انتقال الفيروس من إنسان لآخر، وحصرية انتقاله من الإبل للبشر، جعل سلسلة العدوى لهذا الفيروس قصيرة. وبمجرد حصار تلك السلسلة بعزل المصدر أو حامل العدوى، فإن الفيروس يتوقف عن الانتشار بعدها. وبذلك خمدت نار «ميرس» دون التوصل إلى علاج له، لكن تظل جذوة الفيروس مشتعلةً في مكانٍ ما في العالم.
«إيبولا».. المأساة الأفريقية المتكررة
حمى مصحوبة بنزيف قاتل، هذا ملخص «إيبولا»، وهكذا قتل 11 ألف إنسان على مدى عامين من 2014 حتى 2016. على الرغم من أن اسم «إيبولا» يبدو مألوفًا لك أكثر من اسم «كورونا»، لكن السيطرة على «إيبولا» كانت أسهل مقارنةً بمحاولات السيطرة على الجائحة الراهنة. أول أسباب إمكانية تحجيم «إيبولا» هو أنه ينتقل بالاتصال المباشر مع حاملي الفيروس، وليس بالرذاذ مثلما يحدث مع كوفيد-19.
بالعودة إلى سجلات «إيبولا» نجده قد تفشى للمرة الأولى في زائير والسودان عام 1976. ويُعد الغوريلا، والشمبانزي، والظباء النواقل الأساسية للفيروس، وانتقال العدوى منها للإنسان يحدث عن طريق التعامل مع لحومها المصابة، سواء لمسها أو التهامها، خاصةً إذا لم تكن مطهوةً جيدًا.
لكن «إيبولا» الذي سُمِّي نسبةً لنهر قريب من قرية صغيرة في غينيا، موقع ظهور المرض لأول مرة، ويُصنف على أنه سلاح بيولوجي عالي التهديد؛ كلفت مقاومته 4.3 مليار دولار، أنهكت الدول الثلاث الفقيرة التي نشأ فيها ومات فيها؛ غينيا وليبيريا وسيراليون.
يزيد من تهديده أن انحسار انتشاره حدث بطرق العزل لا باكتشاف لقاح. لذا عاد الفيروس للظهور مرة أخرى في الكونغو الديمقراطية عام 2018، واستقبلته منظمة الصحة العالمية ومنظمة أطباء بلا حدود آنذاك سريعًا، لكنه وبرغم ذلك سبقهم بحصد ألفي حياة.
كورونا والاحتمالات الثلاث!
بينما تُرفق أسماء الفيروسات السابقة برقم عامٍ من الأعوام دلالةً على فترة انتشارها، فإن الأمر يبدو حلمًا بعيدًا مع «كوفيد-19». وُضع رقم 19 ضمن اسمه العلمي دلالةً على عام اكتشافه، لكن نأمل أننا قريبًا سوف نكتبه «كوفيد-19/ 20» دلالةً على انتهائه، سواء بانحسار مفاجئ بسبب معلوم أو غير معلوم، أو باكتشاف لقاح له.
على جانب آخر، يخبرنا روبرت بيكهام، أستاذ تاريخ الأوبئة في هونج كونج، بأن علينا تصحيح نظرتنا إلى الأوبئة. فنعم يمكن القول إن الوباء انتهى حين يصبح عدّاد الحالات الجديدة صفرًا، لكن ذلك لا يعني زوال التهديد، فاحتمالية تفشي الأوبئة مرة أخرى في المستقبل أمر معلوم بالضرورة.
يوافقه الرأي في ذلك جوناثان كويك، مؤلف كتاب «نهاية الأوبئة: التهديد الوشيك للإنسانية وكيفية إيقافه»، والذي يضع في كتابه ثلاثة احتمالات لنهاية أي وباء. أولها أن تتضافر جهود ذوي المال وذوي العلم للقضاء على المرض، مثلما حدث مع الجدري عام 1980. وكلمة القضاء على المرض تعني عند كوك أن يصبح عدد الحالات المكتشفة صفرًا خلال سنوات طويلة متتابعة.
الاحتمال الثاني أن يبقى الفيروس المسبب للمرض موجودًا، لكن يجري التوصل إلى لقاح فعال له، ومع كل إصابة جديدة في منطقة ما يتم حقن السكان بالكامل بذلك اللقاح. أما الاحتمال الثالث، وهو الأقرب في حالة كوفيد-19، أن يصبح الفيروس متوطنًا. أي بعد أن ينتشر بشكل هائل في مختلف دول العالم؛ يجد الفيروس بعض المناطق تناسبه دون غيرها. وبالطبع لا معيار محدد لهذه المناطق التي سوف يستوطنها الفيروس، لكنه سيبقى موجودًا فيها، ويُصيب أهلها بانتظام وبشكل مستمر.
في الحالة الأخيرة، يُنزع تصنيف وباء عن الفيروس؛ لأن الوباء تصنيف يُعطى للفيروس الذي يُسبب قفزةً عالية غير متوقعة في عدد حالات الإصابة به. ويمنح توطن الفيروس في مكان واحد العلماء وقتًا ثمينًا لاكتشاف لقاحات له، كما يمكن للأفراد المتعرضين له تطوير أجسام مضادة له، فتصبح أجسادهم أو أجساد الأجيال التالية لهم، قادرة بمفردها على مواجهة الفيروس والقضاء عليه.
ربما ستكون تلك هي النهاية الواقعية لمعظم الأوبئة التي سوف تظهر لاحقًا، رغم أنها ليست نهاية سعيدة مقارنةً بالنهاية التي يكتشف فيها العلماء اللقاح المناسب للقضاء على أي فيروس. ومن اللافت أن البشرية في القرن الحادي والعشرين المميز بالطفرة التكنولوجية ما تزال رغمًا عنها، تواجه الأوبئة بتقنيَّات القرن التاسع عشر غير التكنولوجية، من حجر وعزل وإغلاق حدود، ومحاولة تخفيف الأعراض حتى يموت المصابون أو يموت المرض.
(دار الحكمة)