2024-11-25 02:33 م

كشف حساب شامل لفترة حكم مبارك

2020-02-27
ما الصورة التي ستظل راسخة أكثر في عقول المصريين لمبارك بعد رحيله؛ هل لقب «رجل الحرب والسلام»، الذي استخدمته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عنوان تغطيتها لخبر وفاته، أم وصمة «المستبد المصري الذي أزاحته انتفاضة شعبية» التي رأتها صحيفة وول ستريت جورنال أنسب في مقام تشييعه إلى مثواه الأخير؟

مثلما اختلف المراقبون في الخارج والمصريون في الداخل حول تقييم فترة حكم مبارك في حياته، فإنهم اليوم أكثر اختلافًا حول إرثه بعد وفاته؛ لذلك ستنحي السطور التالية الانطباعات الشخصية جانبًا، وتستند بدلًا من ذلك إلى الإحصائيات الاقتصادية، والمؤشرات الدولية، واستطلاعات الرأي الشعبية والوثائق المسربة، وآراء المؤرخين والمحللين في مصر وخارجها، في محاولةٍ لتقديم تقييم موضوعي قدر الإمكان للإرث التي تركه مبارك للمصريين. 

سيعود التقرير إلى البدايات، ليرصد ما حدث لـ«النواة الأساسية لنهضة مصر الصناعية» في عهد مبارك، وكيف أثرت سياسته «الاقتصادية النيوليبرالية» في العقد الاجتماعي في مصر. وإذا كانت حكومة مبارك ما فتئت تتفاخر بالنمو الاقتصادي، فلا بد من البحث عن الجزء الآخر من المعادلة: مستوى رخاء المواطنين في مصر، مقارنة بدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن منظور الفرص المتكافئة، من كان المستفيد الأكبر في «دولة مبارك»؟ وكيف نقرأ ارتفاع الناتج المحلي خلال عهده في ظل ارتفاع معدلات البطالة والتضخم؟ وكيف كان حجم الفساد في آخر عهده مقارنة بدول المنطقة والعالم؟

وبتحديد موقع مصر على خارطة التنافسية الدولية، هل يمكن القول إن الثورة حقًّا كانت أكثر ضررًا من مبارك؟ وأي الصورتين ستترسخ في أذهان المصريين عن مبارك: «أب سخيّ» أم «حارس سجن»؟ وهو السؤال الذي يقودنا إلى تتبع وضع مصر في ظل قانون الطوارئ الذي صحب مبارك من بداية رئاسته وصولًا إلى عزله؟ وهل كان المصريون راضين عن مستوى الخدمات التي تقدمها دولة مبارك؟ قبل أن نختم بالملف الذي ربما يكون أكثر أهمية لمستقبل مصر: ماذا فعل مبارك بأمن مصر المائي في 30 عامًا؟
ماذا حدث لـ«النواة الأساسية لنهضة مصر الصناعية» في عهد مبارك؟

استلم مبارك مصر وهي تمتلك ما يمكن تسميه «نواة أساسية لنهضة صناعية»، إذ تراوح معدل نمو الصناعة في السنوات الخمس الأخيرة من عهد السادات بين 5.5% و7.9% سنويًّا، بينما تفاوت أداء الصناعة في عهد مبارك من فترة لأخرى، ففي السنوات العشر الأولى من حكمه «1981- 1990» كان أداء الصناعة قريبًا مما كان في عصر السادات، ولكنه تدهور بشدة في الخمسة عشر عامًا التالية، فأصبح معدل نمو الصناعة التحويلية في النصف الأول من التسعينيات نحو نصف معدله في النصف الثاني من الثمانينيات «5% و10% على التوالي» ثم استمر التدهور بعد ذلك حتى تراوح هذا المعدل بين 3% و4% في السنوات الأخيرة. 
لم يقف الأمر عند ضعف النمو الصناعي، إذ شهدت الخمس عشرة سنة الأخيرة من عهد مبارك اتجاهًا متسارعًا لبيع المصانع، ورغم أن الحديث عن الخصخصة بدأ على استحياء في السبعينيات، فإنها لم تبدأ بجدية إلا في التسعينيات حين زادت ضغوط صندوق النقد الدولي والإدارة الأمريكية بعد توقيع مصر لاتفاقية مع الصندوق في مايو (أيار) 1991، ومع البنك الدولي في نوفمبر (تشرين الثاني) 1991. 

«ورأى صندوق النقد والإدارة الأمريكية، في سنة 2004، أن الخصخصة لا بد أن تسير بسرعة أكبر بكثير؛ فجلبا إلى الحكم حكومة من نوع جديد، أبرز وزرائها من أكبر المتحمسين لبيع القطاع العام»، كما يذكر جلال أمين، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في كتابه «قصة الاقتصاد المصري.. من عهد محمد علي إلى عهد مبارك».
سياسة مبارك الاقتصادية النيوليبرالية.. كيف أثرت في العقد الاجتماعي؟

في بداية فترة مبارك كانت مصر تعاني من وضع اقتصادي سيئ، وورث مبارك مشكلات اقتصادية متراكمة بالفعل، وعلى سبيل المثال، بلغ حجم الدين الخارجي مع وفاة السادات نحو 14.3 مليار دولار، فنظم مبارك مؤتمرًا اقتصاديًّا كبيرًا في فبراير (شباط) 1982، لتحديد من أين وكيف تبدأ مسيرة التنمية في مصر، وجرى الاتفاق فيه على اتباع استراتيجية طموحة من خلال خطط خمسية للتنمية بدأت الخطة الخمسية الأولى منها عام 1982، حسبما ورد في الدراسة الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان‎ «النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في الدول العربية.. سياسات التنمية وفرص العمل: دراسات قُطرية».

 وكانت الخلاصة التي توصل إليها المؤتمر في بيانه الختامي هي: العودة للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي، وتبديل سياسة الانفتاح بسياسة الإنتاج وترشيد الاستهلاك، غير أن ما حدث خلال فترة مبارك كان عكس التوصيات التي خرج بها المؤتمر؛ إذ اتجه إلى اتباع نهج الاقتصاد «النيوليبرالي» والحرية الاقتصادية المفرطة، والتوجه نحو الخصخصة والاستثمارات الأجنبية المباشرة في كل القطاعات، إضافة إلى تمكين رجال الأعمال على حساب العمال ومحدودي الدخل، كما خلص المؤلف سامر سليمان في كتابه «النظام القوي والدولة الضعيفة.. إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك».

وفي هذا السياق، يقول جلال أمين: إن مبارك «الليبرالي الجديد» سارع في إكمال خطة الانفتاح الاقتصادي التي أطلقها السادات، ويصفها بأنها العملية التي مهدت الطريق لتفكيك العقد الاجتماعي الذي كان مستمرًّا في ظل اقتصاد شديد المركزية خلال فترة جمال عبد الناصر. مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن الفساد والرشوة أصبحا نمطًا من الحياة اليومية التي حاصرت مصر وأدخلتها في حلقة مفرغة، حيث «ضعف الدولة يشجع الفساد، وانتشار الفساد يضعف الدولة أكثر». 

وفي كتاب «الاقتصاد المصري من تجربة يوليو (1952) إلى نموذج المستقبل»، يقارن الباحث الاقتصادي أحمد السيد النجار بين مصر عام 1952 ومصر قبل خلع مبارك قائلًا: «إن ثورة 1952 وضعت 18 قرشًا حدًّا أدنى للأجر يوميًّا، موضحًا أن المبلغ كان يشتري نحو 1.5 كيلوجرام من اللحم في الريف ونحو 1.2 كيلوجرام من اللحم في المدن، مضيفًا أن العامل – بافتراض أنه يعمل 25 يومًا في الشهر – كان دخله الشهري 34 كيلوجرامًا من اللحم أي أكثر من 2000 جنيه، وفقًا لمعدل الأسعار في آخر أعوام حكم مبارك التي كان الحد الأدنى للأجور يبلغ فيها على أرض الواقع 118 جنيهًا فقط. 

ويخلص الكتاب إلى جملة استنتاجات منها اضمحلال شريحة الطبقة الوسطى التي تضم نخبة المتعلمين في المجتمع، ووقوع الكثير منهم في براثن الفقر والبطالة.

وإذا كان هذا هو حال الحاضر آنذاك، فإن ملف الديون كان يوفر إطلالة مبكرة على آفاق المستقبل؛ إذ اعتمد مبارك سياسة التوسع في الاقتراض الخارجي بمرور السنين، حتى تفاقم الدين الخارجي بشكل كبير ووصل إلى 47.6 مليار دولار مع بداية عام 1990. صحيح أن إرسال مبارك قوات للمشاركة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في حرب الخليج، توِّج بتنازل الدول الخليجية عن جزء كبير من مديونياتها لمصر، ومهد لاتفاق عقدته القاهرة مع البنك الدولي لتخفيض 50% من ديون مصر الخارجية، حتى استقر الدين الخارجي لمصر مع منتصف التسعينيات عند قرابة 27 مليار دولار، لكن بحلول نهاية فترة مبارك، بلغ الدين المحلي 888.7 مليار جنيه، فيما وصل الدين الخارجي إلى 33.6 مليار دولار، وهو ما كان يعادل قيمة الاحتياطي النقدي حينئذٍ، ليصل الدين العام إلى نحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي.

نمو اقتصادي بدون رخاء للمواطنين.. كيف كان حال مصر مقارنة بجيرانها؟

على الرغم من أن إجمالي الناتج المحلي في مصر ارتفع بنسبة 5% تقريبًا في عام 2010، بحسب تقرير البنك الدولي، فإن خُمس المصريين الذين شملهم استطلاع جالوب عام 2009 هم فقط من كانوا يعتقدون أن الظروف الاقتصادية تتحسن، مقارنة بمتوسط