2024-11-30 03:56 ص

اغتيال سليماني… كرة اللهب تتدحرج على خريطة مكشوفة

2020-01-05
وسام متى
ما قبل اغتيال قاسم سليماني لن يكون كما بعده. تلك مسلّمة بديهية لا يختلف عليها اثنان، لا في ايران ولا في الولايات المتحدة، وإن اختلفت التوقعات حول سيناريوهات "ما بعده"، لجهة الرد والرد على الرد... إلى آخر تلك الثنائية التي من شأنها أن تضاعف حجم كرة اللهب وتُدحرجها  على خريطة الشرق الأوسط، وربما العالم أجمع.

لا شك في أن اغتيال قائد “فيلق القدس” يكرّس تغييراً كبيراً في قواعد اللعبة. يصعب تخيّل أن إيران لن تثأر لمقتل مهندس استراتيجيتها الإقليمية، ومنفّذ تكتيكاتها على حد سواء، وهي ميزة قلّما نجح شخص واحد في امتلاكها.

في المقابل، لا يمكن افتراض أن قرار اغتيال سليماني لم يأخذ في الحسبان سيناريوهات الرد المحتملة، وبطبيعة الحال الخطوة التالية التي يمكن القيام بها لتجنب حرب إقليمية، أو على الأقل لعدم تكرار مشهد الصناديق الخشبية الملفوفة بالعلم الأميركي العائدة من العراق… أو  أماكن أخرى في العالم.

ولكن  عملية الاغتيال، التي أمر بها دونالد ترامب تحت ذريعة اتخاذ ” إجراءات دفاعية حاسمة لحماية الأفراد الأميركيين في الخارج”، تعيد مجدداً طرح الأسئلة حول مقاربة الرئيس الأميركي للملف الإيراني بشكل خاص، وملف الشرق الأوسط بشكل عام.

يجد دونالد ترامب نفسه وسط تناقضات حادة، قبل 11 شهراً على “الثلاثاء الكبير”، الذي ستقول فيه أصوات الناخبين كلمتها. هو تناقض تختزله تغريدتان، استعادها مناصرو الرئيس الأميركي وخصومه على حدّ سواء: الأولى، يعود تاريخها إلى 29 تشرين الثاني عام 2011، وكتب فيها “من أجل إعادة انتخابه، سيطلق باراك أوباما حرباً مع إيران”، وهو الخطاب الذي دأب على اعتماده كشعار انتخابي إلى أن حلَّ في البيت الأبيض بعد خمس سنوات؛ وأما الثانية، فكانت عشية السنة الجديدة، وتضمنت “تهديداً” لا “تحذيراً”، كما أوضح ترامب، وجاء فيها أن “إيران ستتحمل المسؤولية الكاملة عن أية خسارة في الأرواح، أو أية أضرار في منشآتنا… سيدفعون ثمناً كبيراً”، وقد بدا حريصا ً على كتابة الكلمتين الأخيرتين بالأحرف الكبيرة.

هكذا، لم يجد ترامب ما يغرّد به، للتعليق على عملية الاغتيال، سوى نشر علم الولايات المتحدة، إلى أن يكتب مستشاروه، الخطاب الرسمي حول التطوّرات وتداعياتها المحتملة، بعد أن يصيغوا عباراته بعناية شديدة، على نحو يبرر اتخاذه، وعن سابق تصوّر وتصميم، قرار أحجم عن اتخاذه سلفاه جورج بوش وباراك أوباما ، خشية أن يؤدي إلى حرب بين الولايات المتحدة وإيران.

ولكنّ الأهم أن ثمة حاجة إلى تبرير يقارب اغتيال سليماني على نحوٍ يجنّب ترامب مزيداً من المشاكل الداخلية، إن أمام ناخبيه، الذين طالما توجه إليهم بشعار الرغبة في إخراج الولايات المتحدة من الحروب الباهظة الثمن في الشرق الأوسط، وهو الشعار ذاته الذي رفعه حين احجم عن فتح جبهات الحرب في سوريا، كما وإيران؛ أو امام الكونغرس، الذي يتجدّد مشهد انقسامه بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي،  كامتداد لمعركة “العزل” المستعرة.

وسريعاً تبدّى الانقسام بين المشرّعين الأميركيين تجاه ما حدث في مطار بغداد، وذلك على أسس حزبية  بشكل خاص – مع بعض الاستثناءات – حيث هلل الجمهوريون لاعتماد رئيسهم “نهجاً حاسماً” ضد إيران، فيما حذر الديموقراطيون من مغامرة قد تؤدي إلى “تصعيدٍ لا مفر منه” و”رد فعل عنيف خطير للغاية”.

هذا الجدل يفاقمه شعور مؤكد بأنّ الرد الإيراني آتٍ لا محال، ولكنّ أحداً لا يمكن أن يتكهّن أين ستكون نقطته على خريطة الصراع الأميركي – الإيراني المكشوفة، خصوصاً أن لا عمل استفزازياً يمكن القيام به في وجه الجمهورية الإسلامية أكثر من اغتيال رجل مثل قاسم سليماني، الذي يحظى دوره باجماع في الداخل الايراني، والأهم انه الرجل الأول في ادارة الصراع الإقليمي، ما يجعل الكثيرين يعتقدون أن إدارة ترامب قد اعلنت فجر اليوم الحرب على إيران، حتى وإن كانت لا تريدها!
على هذا الأساس يتعامل الأميركيون مع حقيقة أن لا خيار أمام ايران الا الرد بقوة، عسكرياً، عبر استهداف المصالح الاميركية، وربما سياسياً، من بوابة الاتفاق النووي. ولكن السؤال الذي لا يجد اجابة حتى الآن هو: متى؟ وكيف؟

جوهر السؤال لا يقتصر على طبيعة الخطيئة القاتلة التي اقترفها الرئيس الأميركي، بل في ما سيرتبه تجاوزُ كل الخطوط الحمراء مع الحرس الثوري، ذي الحضور الفاعل في كافة مسارح الصراع، من الشرق الأوسط، وصولاً الى الولايات المتحدة نفسها.

بالدرجة الأولى، يتحسب الاميركيون لرد أولي مباشر على الأرض العراقية، حيث امضت إيران أكثر من 15 عاماً في بناء شبكات واسعة بين مجموعات الميليشيات والسياسيين، وهو ما تبدّى بشكل جلي في استعراض القوة الذي سبق اغتيال سليماني، حين تمكنت إيران من حشد الحلفاء المحليين بسرعة هائلة للتظاهر بعنف ضد السفارة الأميركية في بغداد.

يضاف الى ما سبق أن الثأر  يفترض أن يكون عملاً مشتركاً بين الايرانيين والعراقيين حين يتعلق الامر بضربة مزدوجة استهدفت قائد فيلق القدس ومعه نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، والعديد من الشخصيات البارزة المؤيدة لإيران في العراق.

في دائرة أوسع، يمكن أن تتوقع الولايات المتحدة – ومعها اسرائيل – ضربة ثأرية موجعة انطلاقاً من لبنان أو سوريا. ومع أن فرضية  كهذه  – خصوصاً  في ما يتّصل بلبنان – تحتل مراتب متدنية في بنك الأهداف المحتمل، إلا أنه من غير الممكن استبعادها كلياً، طالما أن الرد في مثل هذه الحالات غالباً ما يكون “مفتوحاً في المكان والزمان”.

وضمن دائرة موازية، ولكن بقُطر متساوٍ، ربما يكون الرد الإيراني باستهداف صاروخي لقواعد عسكرية اميركية في منطقة الخليج العربي، وربما يصل الى حد تعطيل الملاحة في مضيق هرمز.

لكن الدائرة قد تكون أكثر اتساعاً بكثير، اذا ما قررت ايران الثأر بـ”رد متكافئ” على اغتيال قائد عسكري يرقى الى مستوى العالمية، وهنا قد يكون مسرح الرد في أيّ مكان في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، برغم تقليل مايك بومبيو، وزير الخارجية الاميركي، من هذه الاحتمالية.

أيا يكن شكل الرد ومكانه، فإن اغتيال سليماني قد يشكل مدخلاً لتصعيد مفتوح على احتمالات شتى، خصوصاً اذا ما استتبع الرد برد مضاد، يليه رد ورد مضاد جديدين، وهكذا دواليك، الى أن تكبر كرة اللهب لتنذر بحرب شاملة.

بذلك يدفع اغتيال سليماني باتجاه تغيير دراماتيكي في قواعد اللعبة، التي بموجبها كان الصراع الاميركي – الإيراني مقتصراً على حروب الظل في ساحات القتال في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وها هو منذ فجر اليوم يتحول الى مواجهة مباشرة.

من المؤكد أن قاسم سليماني كان يعرف انه مستهدف، ولكنه كان يدرك في المقابل أن قواعد الاشتباك كانت تمنع الأميركيين من استهدافه. هذه المرة سقطت القواعد ولا بد من تعديلها… ولكن ماذا سيسبق التعديل؟