رازي نابلسي
فلسطين حاضرة في الانتفاضات العربية. تظهر برمزياتها المتنوعة في كُل حيّز يستعيده الناس بعدما سُلب منهم: الأعلام في الميادين التي أغلقتها أنظمة القمع والاستبداد والطائفيّة، في هجوم مصريين على سفارة إسرائيل، في المُظاهرات الأردنية، في اليمن وهو يعيش واحدة من أكبر مجازر التاريخ الحديث، في استقطابات الحرب الأهلية السورية، وفي مُظاهرات لبنان. وفي المُقابل، فهي حاضرة أيضاً، في ادّعاءات القوى السلطوية، ومركّباتها المُختلفة: المُقاومة وحمايتها، المشاريع الأميركيّة لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، محور المُقاومة والحفاظ عليه، تمرير صفقة القرن، وصولاً إلى الادّعاء بأن هذه الانتفاضات مموّلة وتهدف إلى ضرب المُقاومة ومحورها وثوابتها...
تظهر فلسطين بصور مُختلفة لدى كلا الطرفين: الأنظمة والقوى التي تسعى إلى الاختباء خلفها كمبرّر للحفاظ على القائم، والمُنتفضون في الميدان. ومع كُل انتفاضة جديدة في العالم العربي، تظهر فلسطين من خلال السؤال الأساسي: ماذا ستغيّر هذه الانتفاضة، وكيف سينعكس هذا التغيير على ميزان القوى الإقليمي، وبالتالي على موقع إسرائيل ومخطّطاتها. تتغيّر الذريعة ويتغيّر التبرير، وتدخل "صفقة القرن" في كُل خطاب.
بالمقابل فالثابت هو غياب فلسطين، وتحوّلها إلى فكرة هُلاميّة كلاميّة تخضع لمصالح السوق السياسي الإقليمي، دون أن تكون فعلاً قضية سياسية. يتم استحضارها في حين، واستغابتها في حين آخر، دون أن تكون فعلاً "الذات" التي تنطق أو تعبّر أو تتخذ موقفاً أو تسير وفق إستراتيجيّة.
لبنان من فلسطين
وكأن الفلسطيني جاهز، متأهِّب دائماً، يعيش في حالة من التعطّش المُستمر للأمل، ولا يرتوي. ومع اندلاع أيّة انتفاضة، كما حصل مؤخراً في لبنان، تعمل مُستقبِلات الأمل لديه على امتصاص الذرّات المُتطايرة من شوارع بيروت وطرابلس بصورة عفوية، وبردّة فعل أولى تتميّز باللهفة والحُب يبدأ بإعادة تدوير الأخبار والصور والتغنّي بها، فتغدو وسائل التواصل الاجتماعي في فلسطين نسخة عن أختها اللبنانية، وتغدو نقاشات لبنان غيمة تدور فوق فلسطين لتُسيطر على الجو العام. هذه المرحلة الأولى وهي للتداول. أمّا في المرحلة الثانية، فتبدأ فلسطين بمُناقشة تعاطيها مع الانتفاضة اللبنانية: النظرة إلى المرأة اللبنانية في الشارع، وكيف يتم التعاطي معها، وهو ما يبدو نقاشاً عربياً عموماً، ثم تطورات الأمور وموقف الأطراف منها ومن الخاسر ومن الرابح في الخارطة الطائفية اللبنانية، والوضع المركّب في البلاد... إلخ. ويبدأ هذا النقاش في الانحسار إلى دوائرَ محدّدة، على عكس ردة الفعل الأولى التي تكون أكثر شعبية واتساعاً. في الأسبوع الأول من الانتفاضة اللبنانية كان هناك تشجيع وانبهار عابر لجميع الطبقات والفئات. يتعامل الفلسطيني مع الانتفاضة في لبنان بصورة تُشبه إلى حد بعيد ما يفعله اللبناني في الشتات، رغم الاختلافات في الموقع والتأثير: يتعاطى ويتفاعل ويتصل ويتمنّى أن يكون. وليسوا قلّة من لعنوا الظرف السياسي والقانوني الذي يمنعهم من الوصول إلى لبنان.
وسط هذه المراحل دائماً ما يعيش السؤال: "ليش ما بيصير عنّا؟". وفي بعض الأحيان يتخذ هذا السؤال صورة الأمل المُستمَد من الحتمية فيُقال "انظر ماذا حصل في لبنان والعراق، لن تعرف ما سيحصل ولا تعرف متى ستنفجر الأمور"، في رد حاسم وقوي على الإحباط الذي يُرافق أيّة قراءة موضوعيّة للظروف الفلسطينية. حيث يعيش الفلسطينيون تحت سطوة الاستعمار الإسرائيلي، علاوة على أنظمة سياسية بوليسية في الضفة الغربية وغزة صادرت حقّه في التعبير والاختيار: حجبت ما يُعادل 59 موقعاً إخبارياً وثقافياً بعد أيام من انتفاضة لبنان. وهي بذا صادرت حقّ الشعب الفلسطيني في التظاهر أو في التعبير وممارسة الحياة السياسية. تلك السلطات صادرت السياسة واحتكرتها بسطوة الأمن والمُخابرات، كما هي تنسّق مع الاحتلال أمنياً واقتصادياً. وحين يتظاهر الفلسطيني، تتهمه أولاً وقبل كُل شيء بالعمالة لإسرائيل وتمرير "صفقة القرن"! وهذا فعلياً ما حصل حين اعتقلت السُلطة العشرات خلال مظاهرة احتجاجيّة على العقوبات التي فرضها الرئيس محمود عباس على غزّة، وحين تحدّث رجال الأمن مع المعتقلين خلال اعتقالهم، قال أحدهم لأحد المُعتقلين: قالوا لنا إنكم تريدون تمرير "صفقة القرن"، أو إنكم "حماس تريدون الانقلاب على السُلطة" أو"سكرجيّة وشغل أجندات". ليتفاجأ رجل الأمن ذاته، بأنه يعتقل أحد الناشطين في حملة مُقاطعة إسرائيل وشبكة المنظّمات الأهليّة الفلسطينيّة. هكذا تغدو فلسطين أقرب إلى لبنان والعراق ومصر.
فلسطين بين الفكرة والسياسة
في الانتفاضات العربية، تتخذ فلسطين صورتها المُباشرة حين يُحذَّر أحياناً من تصفيتها عبر تغيير النظام والتوازن القائم فيه. ولكن أي حضورٍ هذا؟ ما طبيعته وديناميته؟ في القضايا السياسيّة يفترض بفلسطين أن تنطق وتتحدّث وتخطط، لها مصالحها ورؤيتها وإستراتيجيّتها ومساراتها، أمّا كما تظهر اليوم، من دون هذه الدينامية فهي تصبح كالولاء لقائد مات أو نُفي ومُنع عنه الحديث. أما الخيال السياسي فتم اغتياله عن طريق اغتيال حريّة التفكير والحلم...خاصة أن السياسة الفلسطينيّة أصغر من القضية بكثير: على الصعيد الجغرافي حيث حصرت ذاتها في معازل الضفة الغربيّة، أو قطاع غزّة المُحاصر. وعلى الصعيد الرمزيّ حيث بات البرنامج السياسي المُعلن لهذه القوى السياسيّة ميّتاً، فاحتُكرت السياسة بالقوّة، دون تجديد، مستندة إلى الإرث.
تُشكّل قراءة الردود الفلسطينيّة الرسمية على الانتفاضة الأخيرة في لبنان، المثال الأقوى،ومرآة للبؤس السياسي الفلسطيني. ودون الخوض في تفاصيل كُل واحدة من القوى السياسيّة، ليس لأنه استعراض غير مهم، بل لأن كافة الردود والتعليقات يُمكن اختزالها في مقولة واحدة: "لا نتدخل بالشأن اللبناني". وكأن ما يحصل في لبنان لا يؤثّر مُباشرة على فلسطين، وكأن الموقف مما يحصل في العالم العربيّ لا يحتاج إلى قراءة مُعمّقة أكثر من موقف التدخّل من عدمه. إنّما المطلوب ليس التأييد أو الابتعاد بل أن تقول تلك القوى للفلسطيني أو للبناني أو للمصري الخ.. ما هي مصلحة فلسطين، وأين تصب؟ أن تقوم هذه القوى بقراءة الظرف، وتقديم توصية أو توقّع لما ستؤول إليه الأمور، أن تقوم بخط المصالح الفلسطينيّة. ولكن هذا لا يتم، وهنا تحديداً، تغدو الصورة واضحة: لا نتدخّل، لأنّه لا يهمّنا أن نتدخّل، لأنّنا لا نملك أيّة مصلحة تستدعي الموقف الأخلاقي والمبدئي والعادل، أو حتى الانتهازية السياسية. لا شيء، بتاتاً. وهذا اللا شيء، هو البؤس المسيطر: يوجد قوى تسيطر بالقوّة، ولكنّها في الوقت ذاته دون أيّةإستراتيجيّة، وبالتاليلا تملك مصالح! وهذا شكل من موت السياسة.
كمثال آخر: موضوع الانتخابات الإسرائيليّة، وهو الموضوع الذي لا يزال - حتّى اللحظة على الأقل - يهُم القيادات الفلسطينية. اعتبرت "فتح" والسُلطة والقائمة المُشتركة في أراضيّ 1948، أن من مصلحتها أن يشكّل "بيني غانتس" الحكومة، وذلك لاعتقادهم بأنهسيقوم بفتح مسار سياسي مع السُلطة، ما سيمنحها الفرصة لإحياء المُفاوضات، في وقت أعلن فيه غانتس رفضه لدولة فلسطينية. ولكن هذا غير مُهم بالنسبة إلى القيادة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، فالمهم هو المسار السياسي بذاته الذي يُمكن من خلاله بيع الوهم للشعب الفلسطيني. المُهم أن يتحدّث أحدهم إلى السُلطة التي وضعت جميع أوراقها على طاولة المفاوضات. أمّا "حماس"، فمن مصلحتها بقاء نتنياهو في الحكم، حيث وُعد بتهدئة سياسيّة طويلة الأمد مُقابل تسهيلات اقتصاديّة وتخفيف الحصار، ما يمنح الحركة مساحة عمل قبل الانهيار الكلّي في غزّة، وهو الذي سينفجر في وجه "حماس" وإدارتها. أمّا في غزّة ذاتها، ففي الوقت الذي يشكّل بقاء نتنياهو مصلحة لحماس مقابل غانتس الذي وعد بحرب على قطاع غزّة، يوجد أيضاً الجهاد الإسلامي، الذي تتهمه إسرائيل بالقرب من إيران. والمصلحة الإيرانية والروسية، بحسب تحليلات إسرائيليّة، تتمنّى استبدال نتنياهو الذي يقود جبهة العداء للتمركز الإيراني في سوريا. حسناً، ما هي مصلحة فلسطين؟ لا أحد يستطيع الإجابة في ظل خيارات تتعلق بمصالح القوى السياسية الفلسطينية،وهي مصالح فصائلية فلسطينيّة.
الوضع يسمح
إذاً لا نتدخّل في أي شأن حتّى لو تدخّل الشأن فينا، إلا في حال وصل هذا الشأن إلى تهديد وجود القيادة الفلسطينيّة وليس القضيّة. وهذا ما حصل فعلياً، حين وافقت السُلطة الفلسطينيّة على استلام أموال المقاصّة، بعدما كانت قد رفضت استلامها منقوصة بعد أن حجزت إسرائيل منها الأموال المخصّصة لعوائل الشهداء والأسرى: تنازلت وقبلت عندما باتت الأزمة الماليّة تشكّل تهديداً على السُلطة وسطوتها، فخنقتها وهدّدت وجودها.قبلت على الرغم من الرفض السابق. وحدث ذلك بقرار لا يعرف أحد كيفيّة اتخاذه.
الإقليم يتغيّر، والصراعات المحيطة بفلسطين تتأجّج وتتداخل. هو برميل متفجّرات يُضغط ويُبرّد بشكل مُستمر دون أن ينفجر كلياً ودون أن يُبطل مفعوله كلياً أيضاً. وفلسطين، الغائبة كلياً بوصفها قضية سياسية، حاضرة بقوة في الوقت ذاته بوصفها قضية أخلاقية وفكرة. ولكن الزج بها في الصراعات يحوّلها إلى إحدى أدوات الصراعات.تتحوّل إلى جمادٍ أداتي، كالمطرقة، أو البندقية أو الطائرة: تقصف من خلالها مثلاً تركيا الإمارات، يلوّح بها النظام الطائفي اللبناني ليبقى على قيد الحياة، يحتمي خلفها النظام السوري، وتتخذ إيران من عدائها لإسرائيل مبرّر بقاء ووجود في الوطن العربي. ويسمح الشلل الفلسطيني لهذه القوى الإقليمية والدولية باستغلال الأداة الفلسطينية كيفما تشاء. ويحدث بذا اصطفاف فلسطين القسري في أحد الأطراف دائماً خدمة لمصالح أحدهم ضد الآخر: ستكره الناس الأداة عاجلاً أم آجلاً وهي تبحث عن الكرامة والحياة الكريمة.
*باحث فلسطيني
السفير العربي