2024-11-25 09:34 م

القدس… هل المكان جغرافيا أم تضارس أرواحنا؟

2019-11-14
بقلم: ابراهيم نصرالله
تعرضت القدس للقضم، صهيونيًّا، على أرض الواقع، وتعرّضت للقضم في الذهن العام، بحيث باتت تعني للبعض: المساحة الواقعة بين الأسوار القديمة حيناً، ونصفها الشرقي حيناً، بل تراجعت أحياناً، في بعض الخطاب السياسي، لتغدو «أبو ديس» مثلاً. لكن القدس في الحقيقة أوسعُ من ذلك، لا على المستوى المعنوي، فهذا أمرٌ لا جدال فيه، ولكن على المستوى الماديّ أيضاً، وهنا أعني قضاءها أو محافظتَها، وهذا القضاءُ يشمل بلداتٍ وقرىً كثيرةً ممتدةً في جهات أربع.
وبعد:
مَن الذين نعرفهم أكثرَ من الآخرين؟
– نعرف الشهداء.
ما الذي نعرفه عن المنفى؟
– نعرفُ الوطن.
ما الذي نعرفه عن الخيمة؟
– نعرف بيوتَنا التي وراءنا.
ما الذي نعرفه عن حريتِنا؟
– نعرف أسرانا.
ما الذي نعرفه أكثر من كهولتِنا؟
– نعرف طفولتَنا.
طفلاً عرفتُ القدس؛ مرَّتين في العام، حين كنتُ، وأبي، نزورُ جدي في «مخيم عايدة»، في «بيت لحم»، لم يتركني أبي خلفه، أياماً، لأعرف أكثر، كانت مشقةُ الذَّهاب من مخيم الوحدات، هنا في عمّان، إلى «عايدة»، هناك، شاقةً ومكلفةً أيضاً.
بين مخيمين تأرجحتُ، وثلاثِ مدن: عمّان، القدس، وبيت لحم.
عرفتُ عمّان، مدينةَ حياتي، كما لم أعرف مدينة أخرى. لكنّ القدسَ هي مدينتي، فضمْن قضائها تقعُ قريتي، لكنني لم أكن أعرفُها كما يليق بها أن تُعْرف. حتى قريتي لم أحظ بلقائها؛ لأنها باتت منطقةً عسكرية يُحظَر الوصول إليها.
لكن القرية التي لم أرها بعيني رأيتُها بأعين سواي.
عرفتُ قريتي (البريج) الواقعة على الكتف الغربي لقضاء القدس، كما كان يعرفها أهلي تماماً، كل ما في الأمر أنني لم أرها، وهم رأوها، ولكنني حين تخيّلتها أصبحتُ أراها أكثر منهم. ففي الخيال اتّسعتْ وفاض معناها، إذ لم تعد تلك القرية المكوّنة من بيوتٍ وبساتين وسهولٍ، ووديان؛ يتّسع البيت برمزيته، وكذلك الشجرة والحصان والطريق، كما تتّسع الشمس بفائض دلالاتها، فلا تغدو مصدر الضوء الذي ينير نصف يومنا وحسب. كما تتسع قِطعُ القماش الصغيرة التي تُشكِّل عَلَما في النهاية.
كان لدي مخزونٌ هائل من ذاكرة الأبوين والأقارب، فالذكريات هي الشيء الوحيد الذي لا تستطيع أن تقول إنك نسيته خلفك، في فوضى الرحيل، حين تُطرد من وطنك.
كان الأقربون بنوكاً للذكريات، وفي زمان مثل ذاك، لم يكن هنالك شيء ننشغل به ويَشَغُلنا ويُمتِّعنا ويُبكينا مثل الذكريات، نهر طويل لا تستحمّ به قلوبُنا وخيالاتُنا مرّة واحدة؛ فكل يوم يتجدد، وما عاشه المُهجَّرُ في ثلاثين أو أربعين عاماً أو مائة، في وطنه، لن يستطيع أن يقوله كلَّه في ليلة واحدة.
بين بداية الإعداد لكتابة «زمن الخيول البيضاء» وصدورها اثنان وعشرون عاماً. لكن هذه الرحلةَ الطويلةَ التي بدأتُها بحثاً عن قريتي، أصبحتْ فيها قريتي هي العاصمةُ ومدينةُ القدس هي الضواحي! كانت فلسطين هي الضواحي! إلى أن اكتشفتُ أنني كنت أكتبُ عن القدس وعن فلسطين كلِّها أكثر مما أكتبُ عن قريتي تلك.
كلُّ ما عانته القرية، التي اخترتُ لها اسماً جديداً هو «الهادية»، وذوّبتُ فيه تجاربَ مدن وقرى أخرى، عانتْه كثيرٌ من مدن وقرى فلسطين. كانت حكايةُ قريتنا مع الكنيسة الأرثوذكسية، ومحاولةُ هذه الكنيسة بقيادتها اليونانية السيطرة على القرية، هي حكايةٌ كبرى من حكايات القدس التي لم تزل مشتعلة حتى هذه اللحظة مع قيادة هذه الكنيسة. لكن القدسَ كانت حاضرةً في الرواية أيضاً، وستحضُر أكثر في رواية (دبابة تحت شجرة عيد الميلاد) وتحضرُ وجوهٌ أخرى من وجوه المدينة: ثقافة ونضالاً، وحكاياتِ حب، وموسيقى. كما ستحضر بيت لحم التي لجأ إليها جدّي، وعاش في ذلك المخيم الذي ينزّ دماً في خاصرتها.
لقد أتيح لي أن أزور بيت لحم قبل أن أكتب «ثلاثية الأجراس» أربع مرات في السنوات العشر الأخيرة، ولذا يمكنني القول إنني عرفتها، ولكن من يستطيع أن يعرف مدينةً تماماً؟ وما هو الجانب الذي علينا أن نعرفَهُ في مدينة نكتب عنها: الأحياء، الشوارع، المعالم الرئيسية، تضاريسها، عدد مساجدها وكنائسها، أم بشرها؟ تاريخها، أحلامها، روحها؟ وهل المكان في الرواية شارعٌ، حديقة، سهلٌ فسيح، جبلٌ، أم أن المكان هو الإنسان، وبقدر ما يتّسعُ الإنسانُ يتّسع المكان، وبقدر ما يضيق الإنسانُ تضيق الأماكنُ والأوطان؟
هل المكان هو ما تقع أعينُنا عليه، أو تتأمَّلُه؟ أم أن المكانَ تضاريسُ أرواحنا؟
كيف تحضر فلسطين اليوم في أرواح أطفال لم يروْها قط، ويكاد حضورُها يصبح أكثر قوةً من حضورها في معرفةِ من عاشوا فيها؟!
كانت الملهاة الفلسطينية المكوَّنة حتى الآن من 12 رواية تغطي أكثر من 250 عاماً عن معنى القُدْسيَّة، فحين كتبتُ عن غزة كنت أكتب عن القدس، وحين كتبت عن رام الله كنت أكتبُ عن حيفا، وحين كتبت عن عكا وطبريا ويافا كنت أكتب عن نابلس وجنين والخليل..
قلت: إن القدسَ أوسعُ من حدودها، لأنها أوسعُ من معناها، لكن فلسطين أوسعُ من كلِّ مكان، فهذه المدينة قلبُها، وتلك رئتاها، وتلك ضحكتُها، وتلك عيناها، وتلك شَعْرُها وشِعرُها أو نهرها ونثرُها، وتلك خطاها، وذراعاها..
.. وهي حُلمُنا مثلما نحن حلمُها.