2024-11-27 09:31 م

التحوّل الاستراتيجي الأميركي لنزاع محتمل في بحر الصين

2019-11-01
لوحظ مؤخراً إقدام فروع القوات المسلحة الأميركية على إجراء مناورات عسكرية مكثفة تحاكي بشكل خاص امكانية الاشتباك في بحر الصين الجنوبي وكان آخرها سلاح البحرية والمارينز.

رغم التركيز الإعلامي، الأميركي والدولي، حول المخاطر والتهديدات بنشوب حرب اقليمية في منطقة الخليج او الشرق الوسط عموماً، وخاصة مع استمرار حالة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، يمضي الرئيس ترامب في إصراره على التذكير بضرورة الانسحاب العسكري من المنطقة وفي الوقت عينه إرساله قوات محدودة للسعودية أو نقل تموضع بعض القوات في الأراضي السورية.

تتلاقى رغبة ترامب مع توجهات ودعوات عالية النبرة من داخل أجنحة المؤسسة الحاكمة بضرورة التحوّل شرقاً وجنوباً في الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة. تمّ الترويج لهذه التوجهات في عهد أوباما ويعاد التركيز على الاستعداد للمواجهة الاستراتيجية مع روسيا والصين في كلّ الوثائق الهامة التي صدرت عن الإدارة الحالية والمتعلقة بالأمن القومي الأميركي.

في مثل هذه الأيام من شهر تشرين الأول عام 2014، استندت البنتاغون في بلورة توجهاتها إلى وثيقة مطولة أطلقت عليها «الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة،» أعدّتها «جامعة الدفاع الوطنية،» مؤكدة فيها على العناصر والمكونات الأساسية للرؤى الاستراتيجية والتي «حافظت على تماسكها على مرّ العقود» أبرزها تجديد التأكيد على «مبدأ الرئيس مونرو» بتشريع التدخل العسكري في شؤون الدول الأخرى، وخاصة في أميركا الجنوبية والوسطى.

أُدخل عليها تباعاً تعديلات تخصّ التحوّلات الإقليمية والدولية «.. والابتكارات التقنية والمؤسسات الملحقة بها معتمدة مبدأ الحرب الكونية على الإرهاب.. ونشر الديمقراطية، والسيطرة على منابع وتصدير الطاقة» وعناوين مماثلة، لتجد الآلة العسكرية نفسها منهكة عقب سلسلة حروب شنّتها منذ عقدين من الزمن ولا زالت مشتعلة، مما أسهم أيضاً في مراجعة مراكز القرار الأساسية لبعض الاستراتيجيات المعتمدة.

تدهور النزعة القتالية الأميركية حذر منها وزير الدفاع السابق، جيمس ماتيس، في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، نيسان 2018، قائلاً «التداعيات السلبية على الجهوزية العسكرية مصدرها الانخراط في أطول مرحلة متواصلة من المعارك في تاريخ البلاد، أسفر عنها بنية عسكرية تمدّدت فوق طاقتها بموارد أقلّ» مما تقتضيه المواجهات.

يشكو بعض العسكريين من الأعباء الإضافية الملقاة على عاتق القوات الأميركية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. قائد سرب القوات البرمائية، لانس ليشر، أوضح في ندوة استضافها معهد سلاح البحرية الأميركية، منتصف الشهر الحالي، حجم المعاناة بأنّ قواته «ترابط في مياه الخليج العربي منذ زمن بعيد.. الآن وفي ظلّ تنافس القوى العظمى، فإنّ مهمّتنا لا تقتصر على مسرح عمليات بحدّ ذاته بل إننا نتوجه للانتشار في أيّ مكان في العالم وعلينا تنفيذ كافة تلك المهام».

تقارير ضباط الاستخبارات المتعدّدة أشارت إلى «تبديد الولايات المتحدة لموارها على مكافحة» المقاومات المحلية في أفغانستان والعراق عبر عقود من الزمن، بينما مضى خصوم واشنطن في تعزيز وتطوير ترساناتهم العسكرية المختلفة بكلفة أقلّ على رأسها «الصين وروسيا وإيران»، التي استغلت بمجموعها مواطن الضعف الكامنة في سلاح البحرية الأميركي «وشرعت في انتاج تقنية صاروخية أسرع من الصوت».

خصوم الولايات المتحدة، وفق شهادة وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، قد «استغلوا تلك المدة انشغال واشنطن في الحروب للاستثمار في تنمية القدرات العسكرية الهادفة لتطويق التفوّق الأميركي في تقنية الأسلحة المتطورة»، بضمنها تقنية الشبح.

في هذا المجال حذر خبراء الأمن القومي الأميركي من تخلف التقنية الأميركية في القرن الحالي، جسده عنوان لافت في أسبوعية فورين بوليسي «سلاح البحرية الأميركية غير جاهز لمواجهة إيران»، في معرض تناولها لطبيعة الردّ الأميركي على إسقاط طهران لأحدث طائرات الدرونز التابعة للبنتاغون فوق مياه الخليج. 30 أيلول/ سبتمبر 2019 .

وأضاف تحذير النشرة بأنّ واشنطن كانت على مستوىً عالٍ من الثقة في المراحل السابقة باعتمادها لعقود طويلة على «تفوّقها في سلاح الجو والتحكم بمياه البحار.. اكتفت بإرسال حاملات طائرات أو فرقاطات على متنها صواريخ كروز لأيّ منطقة نزاع محققة إنجازات عاجلة دون ان تضطر لإطلاق حممها.» بينما الآن، وفق التقرير أعلاه، فإنّ «قدرة الولايات المتحدة على استعراض قوّتها في مياه الخليج.. ليست بالقدر الذي اعتادت عليه في السابق».

يُشار أيضاً في هذا الصدد إلى أطروحة ضابط سلاح حرس الشواطئ الروسي السابق، والمقيم في الولايات المتحدة، أندريه مارتيانوف، في كتابه بعنوان «الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية» أيلول/ سبتمبر 2019 بأنها تكمن في «تطوير روسيا لنظم أسلحة جديدة.. ليس بوسع الولايات المتحدة التغلب عليها فحسب بل لا يتوفر لديها منظومات بديلة».

ويستنتج الكاتب الذي ينقل عنه نظراؤه الأميركيون بأنّ «تداعيات الثورة العسكرية الروسية أدّت لخسارة الولايات المتحدة تفوقها الجيو – سياسي.. وإعادة ترتيب العالم وفق نظام تعدد القطبية».

من بين نواقص الترسانة البحرية الأميركية نجاح كلّ من الصين وروسيا في تطوير «سلاح غواصات جديد يعمل بمحركات ديزل لا تصدر ضجيجاً، وتقدم في الألغام البحرية وتقنية متطورة لزوارق الطوربيد.. مما أسفر عن تعقيد المهام أمام حاملات الطائرات الأميركية التي لم تعد تتمتع بخاصية التحصين من الاستهداف المعادي».

والسلاح الأقوى لدى روسيا والصين هو «قاتل حاملات الطائرات»، وهو صاروخ مضاد للسفن من طراز DF-21 يبلغ مداه 1.000 ميل «وبهذا يتفوّق على أيّ مدى للطائرات المقاتلة على متن الحاملات» الأميركية الحديثة، فضلاً عن سرعته الفرط صوتية.

حرصت الصين على إبراز أحدث ما لديها في عرضها العسكري بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس الجمهورية كان أبرزها الجيل الثالث من الصاروخ المشار إليه، DF-41، أشركت نحو 16 صاروخاً في العرض، وهو منظومة محمولة يبلغ مداه 15.000 كلم، أيّ 9.400 ميلاً، باستطاعته حمل وإطلاق 10 رؤوس حربية موجهة لعدة أهداف في آن واحد».

تقييم الخبراء العسكريين لدى البنتاغون أنّ أبرز مزايا ذاك الصاروخ المحمول هو الفترة الزمنية القصيرة التي يحتاجها للإعداد والانطلاق نحو الهدف «وسيكون صعباً اعتراضه وهو جاثم على الأرض». بل إنّ «.. معظم نظم الأسلحة المشاركة في العرض العسكري كانت من النوع المحمول على عربات.. وفي حال نشوب نزاع يتعيّن على سلاح البحرية الأميركية إخلاء المنطقة بالكامل»، أيّ بحر الصين الجنوبي.

من ضمن استنتاجات أولئك الخبراء أنّ تقنية الأسلحة الفرط صوتية، لدى الصين وروسيا، تحيل «نظم الدفاع الصاروخية الأميركية عديمة الفائدة على الأغلب». استند ذاك الاستنتاج إلى نجاح إصابة منشآت أرامكو في السعودية، 14 أيلول/ سبتمبر الماضي، واكتشاف «.. السعودية بأنّ الترسانة الأميركية لا تضمّ منظومة للدفاعات الجوية قادرة على التصدي للصواريخ الباليستية وطائرات الدرونز».

ورد في التقرير السنوي المقدّم من وزير الدفاع للكونغرس حول قوات الصين العسكرية، 2 أيار/ مايو 2019، أنّ قادة الصين «استفادوا من.. الفرصة الاستراتيجية في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين لتطوير الداخل ونشر مفهوم «القوة الوطنية الشاملة» للصين، والاستثمار في «تحديث ترسانتها العسكرية وتطوير التعليم والقوى البشرية وتوظيفها في البنى التحتية.. طمعاً في الوصول إلى مرحلة التفوق الإقليمي والبناء عليها لبسط نفوذها على المستوى العالمي».

بالتوازي مع تقرير وزير الدفاع حول الصين، ارتفع منسوب مطالبة العسكريين وأنصارهم في الكونغرس بزيادة حجم الإنفاقات العسكرية وتصويب الثقل العسكري للأمن القومي الأميركي باعتماد سردية بأنه لم يبق للولايات المتحدة من خيار سوى «إعادة تنظيم القوات المسلحة وتوجيهها للدخول في مرحلة منافسة بين الدول العظمى.. أنها منافسة استراتيجية طويلة الأجل».

كذلك أشارت وثيقة البنتاغون المحورية «استراتيجية الدفاع الوطنية للولايات المتحدة»، 2018، إلى طبيعة الصراع الدولي بين القوى العظمى كونه «ردع أو إلحاق الهزيمة بدول عظمى معتدية يختلف بطبيعته بشكل كبير عن تحديات المواجهات الإقليمية التي تضمّ دولاً مارقة ومنظمات متطرفة تستخدم العنف والتي واجهناها عبر 25 سنة الماضية».

معدل إنفاق الولايات المتحدة اليومي على الشؤون العسكرية يبلغ 2.75 مليار دولار، وفق بنود الميزانية الدفاعية لعام 2020، وذلك عند احتساب ميزانيات البنود الأخرى الملحقة بها مثل «وزارة الأمن الداخلي، 52 مليار ميزانية الطوارئ الخارجية، 26 مليار حسبما أفادت الميزانية المقدمة في شهر نيسان من العام الحالي، والتي يبلغ مجموعها الإجمالي 989 مليار دولار، يشكل بند البنتاغون المعلن 576 ملياراً لشراء وتطوير حاملات طائرات وأسلحة مختلفة.

واكب تلك الزيادات غير المسبوقة استثمارات بحجم القوات الخاصة، لا سيما في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وإمدادها بنظم تسليح خفيفة لتنفيذ مهام التدخل السريع. بيد أنّ عديدها الذي يقدّر ببضعة آلاف لا يستطيع الصمود أمام «مئات الآلاف من القوات الروسية او الصينية» فضلاً عن أنّ أحدث العربات العسكرية المدرّعة المضادة للألغام من طراز «سترايكر»، المستخدمة بكثرة في أفغانستان، غير فعّالة أمام الأسلحة الرشاشة الحديثة للخصوم الروس والصينيين، كما أثبتت تجارب أفغانستان.

يتضح مما تقدّم أنّ بوصلة التحرك العسكري الأميركي هي باتجاه السيطرة أو الاشتباك في بحر الصين الجنوبي، مع تذكير بعض قادة البنتاغون بتقنية الصين المتطورة، لا سيما الفرط صوتية، مما «يحيل منظومات الدفاع الجوي الأميركية على متن السفن الحربية عديمة الفعالية».

للتعويض عن ذلك، منح سلاح القوات البرية الأميركية، مطلع شهر أيلول الماضي، مجموعتين مستقلتين من الصناعات العسكرية عقداً لتطوير «صواريخ فرط صوتية» للحاق بالتفوّق الروسي والصين، وسط تحذيرات خبراء نظم الصواريخ بأنّ إطلاق روسيا أو الصين لذاك السلاح فائق السرعة من على غواصة يستغرق مدة لا تتعدّى 60 ثانية لتصل إلى البيت الأبيض أو البنتاغون وذلك حسب مدى اقتراب الغواصات من الأهداف الأميركية.

تستطيع الصين بصاروخها الجديد المتطوّر أن تستهدف أراضي الولايات المتحدة خلال 30 دقيقة يطلق من قواعده في الأراضي الصينية.

مركز الدراسات الأميركية والعربية