2024-11-25 02:27 م

من فلسطين التاريخية الى فلسطين الجديدة

2019-09-29
احمد عبدالهادي
قبل أيام من إحياء الفلسطينيين للذكرى الـ71 للنكبة، نشرت وسائل إعلام عبرية ما وصفته بأنه وثيقة مسربة عن وزارة الخارجية الإسرائيلية جاء فيها اصطلاح فلسطين الجديدة، وحملت الوثيقة بنوداً كثيرة وتفصيلات تكاد تتطابق مع كل ما قيل وأعلن عنه في ما بات يعرف بصفقة القرن. واشتملت الوثيقة على خارطة توضح ملامح دولة فلسطين الجديدة التي بدت ككيان مقطع الأوصال أكثر مما تبدو كدولة تقع بين الضفة الغربية وقطاع غزة تكون منزوعة السلاح.

عندما بدأت الثورة الفلسطينية، تم تبني خطاب تحرير فلسطين التاريخية ورفع شعار العودة والتحرير عبر استخدام الكفاح المسلح لدحر الاحتلال وإنهائه، ثم تطور الخطاب إلى المناداة بدولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الجميع، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، على قدم المساواة، تحول الخطاب لاحقاً وهبط إلى القبول بدولة فلسطينية على حدود عام 67، وانتهى باتفاق أوسلو في مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي أقر وقبل بدولة غزة أريحا ثم تلاشى كل ذلك مع وصول أرييل شارون لرئاسة الوزراء في إسرائيل حتى انتهى الأمر مؤخراً بإقرار فلسطيني رسمي بأن أوسلو ومخرجاتها لم تعد قائمة ولا ممكنة.

لم تكن التحولات التي أُدخلت على الخطاب الثوري الفلسطيني تتوقع، في أسوأ الحالات والسيناريوهات، أن ينتهي الأمر بعد أكثر من سبعة عقود بعرض، أو للدقة فرض، ما وصفته وثيقة الخارجية الإسرائيلية بفلسطين الجديدة، حتى التحولات التي صدرت عن حركة حماس وبرزت في وثيقتها السياسية الجديدة قبلت بدولة فلسطينية على حدود عام 67 كحل مؤقت، منظمة التحرير هي الأخرى عندما اعترفت بإسرائيل وذهبت بعيداً في عملية السلام حد تغيير ميثاقها لم تكن تتوقع أن يفضي الأمر إلى ما يسمى بفلسطين الجديدة.

لم يأت مصطلح فلسطين الجديدة على وقع الذكرى الواحدة والسبعين لنكبة فلسطين، بقدر ما أتى في ظل متغيرات ووقائع على الأرض تقول إن فلسطين التاريخية تلاشت حتى بات اليهود يمتلكون فيها ومنها 82% من مساحتها ويسعون لضم البقية الباقية عبر تنفيذ مخططات الطرد القسري والجماعي والتهويد في بيئة فلسطينية لم تعد قادرة على تعطيل أو إيقاف هذه المخططات لأسباب عديدة، ذاتية وموضوعية، من بينها الانقسام الممتد على مدار ما يزيد عن 12 عاماً، وبيئة عربية اختارت الاقتراب من إسرائيل على وقع هذه المخططات حتى بات التطبيع أمراً معلناً، بل باتت شريكاً ولو بصمتها على ما يحاك الآن لفلسطين، وفي بيئة دولية باتت تختصر القضية الفلسطينية كقضية إنسانية بحتة بعدما كانت قضية تحرير وقضية سياسية بامتياز صدرت بحقها مئات القرارات الدولية والأممية، وبين هذا وذاك تتقدم الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب لتأتي على ما تبقى من فلسطين التاريخية وتختصر عمر النكبة في فلسطين الجديدة بمقاييس تتواءم بأبعد ما كانت تريد إسرائيل.

على وقع سبعة عقود بالتمام والكمال يستفيق الفلسطينيون على وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب حاملاً خطة صفقة القرن، منهياً بذلك كل ما كان من قرارات واتفاقيات، وإذا كان الفلسطينيون أو بعضهم شركاء في اتفاق أوسلو عام 1993 فإن خطة ترامب تستثني مشاركتهم أو إشراكهم أو إطلاعهم على ما يحدث، رغم أنه يحدث على حسابهم وعلى حساب فلسطين التاريخية. لم يكن الأمر مجرد خطة أو خارطة تحمل حلاً مقترحاً أو تسريباً قد يُقرأ كما لو كان بالون اختبار، لكنها بدت كفرض وقائع على الأرض دخلت حيز التنفيذ في السادس من ديسمبر/ كانون الأول الماضي عندما أقر ترامب بنقل السفارة الأميركية للقدس وإعلانها عاصمة لدولة إسرائيل وبالتالي إنهائه عملياً لما كان يعرف بحل الدولتين.

تُقدّم الوثيقة المسربة فلسطين الجديدة على أنّها الدولة التي تجمع بين الضفة الغربية وقطاع غزة، على أن تكون منزوعة السلاح وبعدد محدود لقوى الأمن لأغراض حفظ الأمن الداخلي ليس أكثر. أمّا في ما يتعلق بالملف الأهم وهو ملف القدس، فالصفقة تنصّ على إخضاع المدينة المقدّسة لبلدية الاحتلال مع إعطاء الفلسطينيين دوراً في تولي قضية التعليم، في حين غُيّبت قضية اللاجئين بشكل كامل، ولم تأتِ الوثيقة على ذكرها.

تحتوي الوثيقة مجموعة بنود. في البند الأول المسمى "أولاً: الاتفاق" يأتي النص التالي "تقام دولة فلسطينية يطلق عليها "فلسطين الجديدة" على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة من دون المستوطنات اليهودية القائمة". لم تتوقف غالبية القراءات التي تناولت الوثيقة وعلقت عليها عند مصطلح أراضي الضفة الغربية ليبقى المصطلح فضفاضاً هلامياً ليعاد ذات السيناريو المتعلق بأراضٍ فلسطينية من دون تعريف لكنها هنا بعد 71 عاماً على النكبة لم تعد أراضي فلسطينية بل باتت أراضي الضفة الغربية.

يخلص المشهد الآن بعد هذه السنين من عمر النكبة الفلسطينية بكل متغيراته ونضالاته وتضحياته إلى اختصار فلسطين التاريخية إلى فلسطين الجديدة، وقد ابتلعت إسرائيل الأرض وتسعى الآن إلى ترويض الوعي، عندما وقعت نكبة فلسطين كان التعويل الفلسطيني على الأنظمة العربية لتحرير فلسطين واسترداد أراضيها التاريخية ثم انتهى الأمر بنكسة أنهت ما كان متبقياً من أراضٍ فلسطينية بل وعربية، وباتت إسرائيل تسيطر فعلياً على غالبية الأرض الفلسطينية التاريخية.

إن مكمن ما يحدث الآن ويتشكل ليس خطورته في السيطرة على الأرض والاستيلاء عليها، هناك ما هو أخطر، وفلسطين الجديدة ليس مجرد مصطلح يتم تمريره في وثيقة وزارة الخارجية الإسرائيلية كمشروع أو كحل، لأن إسرائيل لا تقدم حلولاً، هي ترفض الحلول، فلسطين الجديدة تستهدف الوعي، والاستيلاء على الأرض لا يعني إنهاء وانتهاء الحق فيها لكن تسلل الترويض للفكر وللوعي الفلسطيني هو مكمن الخطر، خاصة إذا ما بات البعض يتبنى مصطلح فلسطين الجديدة ويروج له كأمر واقع لا مفر منه.

فلسطين الجديدة لا تختصر فلسطين التاريخية في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، لكنها تحول القضية الفلسطينية بمجملها إلى مجرد قضية إنسانية وللدقة قضية مساعدات وإعانات، وهو تحول مرتبط وقائم بمعادلة إخراج المقاومة من الحسابات وربما رفع تكلفتها في أوساط حاضنتها الشعبية لتمرر رواية أن واحداً وسبعين عاماً من عمر النكبة الملازم للنضال قد أفضى إلى ما تطرحه الوثيقة المسربة، وبالتالي لا جدوى، وهذا استهداف خطير للوعي الفلسطيني. حدث الأمر عندما خرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982، حينها تبلورت متغيرات جديدة دفعت بوزير الخارجية الأميركية آنذاك "جورج شولتس" إلى طرح شعار تحسين شروط الفلسطينيين، أي أن القضية الفلسطينية باتت قضية تحسين ظروف الفلسطينيين وليس قضية وطنية قومية. والآن يراد للفلسطينيين التفكير بطريقة جديدة أو كما كان يقول إدوارد سعيد التفكير الجديد، أي أن على الفلسطينيين أن يقدموا تفكيراً جديداً في صراعهم مع إسرائيل.

إن ما يحاك الآن ويدار يفضي إلى ما معناه أن على الفلسطينيين التوقف عن الممارسة والفكر والنضال والمقاومة والقبول بالأمر الواقع، والأهم نزع الطابع التحرري عن القضية الفلسطينية وتحويلها إلى محض قضية إنسانية. ليست الخطورة الآن بعد 71 عاماً في ضياع فلسطين التاريخية، لكن مكمن الخطورة في ما بات يطرح كفكر ظاهره استبدال المقاومة واستحداث مشروع وطني فلسطيني جديد بمقاييس جديدة تقبل بإسرائيل وتقبل بما تقدمه واشنطن وتفرضه.

الآن وبعد 71 عاماً على نكبة فلسطين التاريخية نصل إلى فلسطين الجديدة، لا كمحصلة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية لكن كمشروع ومخطط وكصفقة تستهدف الاستيلاء على الوعي الفلسطيني وتسلبه إرادته كما سلبت أرضه. وتختصر فلسطين في بعض أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
العربي الجديد