بسام رجا
شهدت قضية فلسطين عبر تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني حالاً من الفوضى السياسية والمعرفية وتراكُم البرامج و"الاجتهادات" كما يطلق عليها بعض "المُجربين" في الكفاح الفلسطيني الذي مرّ بمخاضاتٍ منها العسيرة والقاتلة في آن، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982وتشتّت قوات الثورة الفلسطينية.
وليس من السهل بل يكاد من المستحيل أن تصل إلى نقاط تلاق في ما طرح من تبريرات سياسية حول جنوح المنظمة وقيادتها الرسمية نحو دَرْك التنازلات الذي شكّلت فيه اتفاقية أوسلو العلامة الفارقة، التي جعلت من "المنجز" الوطني للمنظمة (م.ت.ف) قبض من ريح ـ وهذا أيضاً محطّ خلاف في تعريف المنجز الوطني، وهل حلّ الدولتين الذي أسّس له مع طرح الدولة المستقلة في البرنامج المرحلي (النقاط العشر عام 1974) كان أيضاً محط إجماعٍ شعبي وفصائلي وعربي؟.
لن أخوض في التشكيلات السياسية والمنتديات والتحالفات التي جاءت ردّاً على تفرّد قيادة المنظمة بعد 1982ـ وهذا ليس بجديد في حال المنظمة التي كانت جامعاً فصائلياً تحاصصياً أكثر منه تأسيساً لمشروع "منجز" قرأ في أهداف المنظمة واستراتيجياتها مع بوادر التأسيس ومؤتمرها الأول في القدس عام 1964.
حال الضعف والوهن الفصائلي ولنعترف بذلك ـ ومقدّمات التنازل العربي الرسمي عن قضية فلسطين ـ شجّعت بل كانت مُشجباً للقيادة الرسمية لمنظمة التحريرـ لتبرّر خطواتها في الاعتراف بكيان الاحتلال وحلّ الدولتين والتخلّي عن الكفاح المسلّح (الاتفاق مع واشنطن في العام 1988 برعاية المملكة السعودية).
الكارثة والمجزرة السياسية التي فتحت بازار التنازلات كانت توقيع اتفاق أوسلو في 13 أيلول 1993 في حديقة البيت الأبيض ـ وترويج مقولات بائِسة وتضليلية أن هذا الاتفاق سيكون بوابة "المُصالحة التاريخية" مع كيان الاحتلال وسينتج دولة فلسطينية وعاصمتها القدس" الشرقية" ـ وقضايا اللاجئين وعودتهم مؤجّلة والقدس مؤجّلة.
وتتالت صوَر الإنحدار السياسي بكل فجاجةٍ لتسفر عن اتفاقٍ مسخٍ دمَّر تاريخ الكفاح الفلسطيني وجعل من منظمة التحرير الفلسطينية مُجرّد شاهِد زور على ما حصل من تنازلات كبرى ، لم يجرؤ أيّ نظام رسمي عربي على أن يوقّع هكذا اتفاق يتعلّق بقضية شعب يُكافِح منذ عقودٍ طويلةٍ لتحرير أرضه.
التقط كثير من النظام الرسمي العربي "التنازل التاريخي" عن 78% من أرض فلسطين التاريخية.. وشجّعت واشنطن والإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي الخطوة "التاريخية" لقيادة المنظمة التي تلتها خطوات أكثر دراماتيكية من أوسلو ذاته في التنازل النهائي عن الكفاح المسلح في المجلس الوطني الفلسطني الذي حضره الرئيس الأميركي بيل كلينتون في غزّة في 14 كانون الأول العام 1997، لتعلن القيادة الرسمية التخلّي عن كل فقرات الميثاق الوطني الفلسطيني التي تشير إلى ذلك مع أن كل الممارسات الصهيونية على الأرض كانت تشير إلى أن الاستيطان يتوثّب ولا أفق لأية دولة فلسطينية.
وثائق أوسلو والإتفاقيات المتتالية لم يُطبّق منها سوى انسحابات جزئية ـ أو لنقل إعادة انتشار، والمرحلة التي صوّرتها القيادة الرسمية للمنظمة بالمُنجز التاريخي تُرى الآن بالعين المُجرّدة. الاستيطان التهمَ الضفة الغربية المحتلة والقدس مزروعة بالمستوطنات وحق العودة في مهبّ الريح. ولم يبق من الإتفاق سوى التنسيق الأمني بعد أن ركلت قيادات الإحتلال كل ما وقّع عليه في البيت الأبيض وشرم الشيخ وواي بلينتيشن.
ماذا جلب أوسلو من إنجازٍ وطني؟
يعتبر كيان الاحتلال أن الاتفاق قد انتهى ولفظ أنفاسه الأخيرة، لكنه يُصرّ على تنفيذ الجزء الأمني منه وهو على ألف قدم وساق. ومهما كانت التصريحات والتهديدات التي تُطلقها قيادة المنظمة، فحقائق الواقع تقول كل ما يُقال. إن مناطق (A B C) ومرحلية التطبيق لم تعد إلا في عقول مَن يبيعون الوَهْم ويشترون بطاقات VIP.
أكثر من عقدين ونصف العقد على توقيع اتفاق أوسلو وجرى ما جرى في نهر الأحداث العربية والفلسطينية والإقليمية والدولية، والسلطة في رام الله تُدرِك قبل غيرها أنها عاجزة عن أن تؤمّن بيتاً واحداً من بطش الاحتلال أو أن توقف مستوطناً يُعربِد في الخليل ورام الله والقدس.
أين هو المُنجز الوطني؟ دلّونا عليه؟ وأقطاب السلطة يصرخون أن الإتفاق انتهى ولم يعد قائماً؟.
في المنطق السياسي البعيد عن الإستقطاب ـ ما الذي يؤخّر أو يدفع إلى الاستئثار بالمنظمة لتبقى في عجزٍ موصوفٍ وتعطّل كل مؤسّساتها؟
ما الذي يدفع إلى البحث عن شريكٍ وراعٍ للمفاوضات بعد أن اكتشفت قيادة السلطة أن أميركا غير نزيهة في إدارتها؟
واليوم قُدِّمَت القدس على طبقٍ من صفقةٍ "أهداها" الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشريكه نتنياهو الباحث عن فوزٍ في تشكيل الحكومة الصهيونية.
هل تصريحات رئيس الوزاء الصهيوني نتنياهو لضمّ المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية وتهويد القدس والخليل وضمّ أغوار الأردن وشمالي البحر الميت مُجرَّد دعاية انتخابية والواقع الإستيطاني يقول إن التهويد لم يبق شيئاً؟
مُراهنات وشراء الوقت يسفران عن مزيدٍ من الكوارث التي تُدمِّر القضية الفلسطينيةـ وكأنها أصبحت وكالة حصرية لقيادة المنظمة والسلطة.
لسنا هنا بوارد التجميل وإضافة مساحيق حتى لا نقع في "محاذير" الحفاظ على البيت الفلسطيني السياسي والوطني. وهل بقيت جدران لهذا البيت الذي تعبث به السياسات المُتفرّدة في قراءات تكاد تكون في عالم التنجيم والتجريب والانتظار لعودة "غودو"؟
بعد (26) عاماً من أوسلو أين المراجعات الفلسطينية الجدية والجذرية للمرحلة القادمة؟
أين البرامج التي تشكّل خطوة إجتراحية للخروج من سواد مرحلة كانت قد شكّلت ضربة أفقية وعامودية لتاريخ الكفاح الفلسطيني؟
الكل معني في إيجاد الإيجابات الشافية لتسهم في تأطير وعي معرفي وكفاحي لشعبٍ لم يتعب طيلة (100) عام من الكفاح وقدّم مئات الآلاف من الشهداء وكان في ريادة العمل الوطني.
القضية التي لم تكن لدى أبنائها مُجرّد برنامج سياسي مُفرَغ من تطبيقاتٍ عمليةٍ ومهرجانات التسابق في خطابات وندوات في ذكرى أوسلو أو تاريخ هذا الفصيل أوذاك.
أوسلو أسقطه الإحتلال وحمل بذور ذلك من نقاطه الأولى ـ وشعبنا الحيّ لم يسقط رايات المقاومة في الضفة الغربية المحتلة وغزَّة وأرضنا التاريخية في العام 1948والقدس لم تسلّم مفاتيحها للغُزاة.
ماذا ينتظر مَن راهن على حلّ الدولتين ألا دولة فلسطينية في الأفق لا اليوم ولا غداً؟
هل المزيد من الإنقسام وفصل الضفة الغربية عن غزَّة هو في إطار مشروع وطني؟
هل المقاومة وقوّة الردع أصبحت في كيل التّهم من أصحاب "مقولات" ـ المقاومة "دمَّرت" الشعب الفلسطيني؟ وفي حال "استسلمت" هل يعني أن الاحتلال سيقدِّم لها الورود؟.
أوسلو انتهى لكن عقليات الذين شقّوا طريق التنازل لا تزال تراهِن على أن القادِم أفضل وكأن كل ما سبق مُجرَّد "حُلم ليلة صيف".
ما سبق مُقدّمات لما يطرحه اليوم قادة الاحتلال بدعمٍ أميركي أن التهويد وإنهاء الصراع وفق المفهوم الأميركي هو الأولوية لأية إدارة أميركية.
هل نُعيد المراجعة لمنظمة تحرير مُقاتلة... أمْ الرِهان على "راعٍ نزيه" ما زال يُعشّش في عقول البعض؟.
المقاومة.. المقاومة وحدها هي التي تُنتِج إنتماء وغير ذلك قفزات في الخلاء.
الميادين نت