2024-11-25 05:44 م

تلوث بحر غزّة... أصل الحكاية

2019-06-22
كارثة تلوث شاطئ غزة قائمة وخطيرة، ومسببها هو الحصار الاسرائيلي على القطاع. أما السلطات فتقول أن نسبة إصابة المواطنين بتلوث مياه الشاطئ "تراجعت نوعاً ما" في نهاية عام 2018، لأن من أصيبوا في الأعوام الماضية أصبحت لديهم مناعة ضد بعض الأمراض!!

ما يعانيه سكان قطاع غزّة جرّاء تلوث مياه البحر كفيلاً بأن يسقط المقطع الأوّل من أغنية الشيخ أمام "البحر بيضحك ليه، وأنا نازل أتدلع أملى القلل"، وسيكتفي بسماع مقطوعة "البحر غضبان ما بيضحكش أصل الحكاية ما تضحكش".

فما عاد بإمكان أي إنسان الاستجمام على شاطئ بحر القطاع: هناك من أصيب بالحمّة الشوكيّة التي كان سببها تلوث الشاطئ. الناس لن يعودوا بعد الآن لمتنفّسهم الوحيد طالما بقيت أزمة التلوث قائمة. ولن يبحثوا عن بديل للاصطياف في الوقت الذي أصبحت فيه بعض الشاليهات حكراً على العائلات القادرة على دفع ثمن إيجارها، الذي يتراوح بين 100 الى 200 دولار في اليوم في حين أنّ 56 في المئة من عمال قطاع غزّة يتقاضون أجراً أقل ب 70 في المئة من الحد الأدنى للأجور (وهو محدد ب 1450 شيكل بالشهر، أي ما يعادل 400 دولار) بحسب إحصاءات "المركز الفلسطيني" لعام 2018. وقد باتت أزمة تلوث مياه الشاطئ تنذر بكارثة حقيقيّة، مع استمرار تدفق مياه الصرف الصحي غير المعالجة الى جوف البحر على مدار الساعة.

الصرف الصحي في البحر

تعمل بلديّات القطاع على تجميع مياه الصرف الصحي من كافة المصارف الصحيّة عن طريق المحطات المخصصة التي تتبع مناطق محددة لكل منها، يقع بعضها على حدود الشاطئ والأخرى داخل شوارع المدن والبلدات. ويتم نقل تلك المياه لمحطات المعالجة الرئيسيّة البالغ عددها خمس محطات على طول الشريط الغربي للقطاع. معالجة "الشيخ عجلين" التابعة لبلدية مدينة غزّة صمّمت لتستقبل حوالي32 ألف متر مكعب من تسع محطات فرعيّة، إلا أنّها باتت تستقبل قرابة 60 ألف متر مكعب بشكل طارئ نتيجة الحصار الاسرائيلي، و"مصب وادي غزّة" المخصص لمعالجة المنطقة الوسطى يستقبل ما يزيد عن 16 ألف متر مكعب، و"معالجة بيت لاهيا" شمال القطاع يستقبل 27 ألف متر مكعب بشكل استثنائي بينما قدرتها الفعلية تقارب 5 آلاف متر مكعب، ومحطة مدينة خانيونس تستقبل قرابة 12 ألف متر مكعب، ويصل معالجة رفح حوالي 21 ألف متر مكعب.. ولا بد لتلك المحطات من أن تعمل على مدار الساعة لمعالجة ما يقارب 250 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي، لكنها عاجزة عن معالجة ما يزيد عن 115 ألف متر مكعب، اي أقل من نصف الكمية التي تصلها... ما دفعها لتصريفها الى شاطئ البحر بشكل مباشر دون معالجة.

الاحتلال الإسرائيلي، بفرضه الحصار على كافة القطاعات الخدماتيّة في غزّة منذ منتصف عام 2007، هو المسبب الرئيسي لأزمة تلوث مياه الشاطئ. كانت باكورة التلوث في مطلع عام 2013، نتيجة انقطاع الكهرباء لأكثر من 20 ساعة يومياً، فلم تكن بالتالي محطات المعالجة قادرة على العمل سوى لبعض السويعات من (من 4 الى 6 ساعات). كما أنه، وجراء منعه السماح بدخول قطع غيار الغيار البديلة لاصلاح تلك المحطات تحت ذريعة "الاستخدام المزدوج" (اي تدويرها لاغراض عسكرية!)، فقد صار أي عطل يتسبب بتوقف عمل بعضها. بالإضافة لذلك، منعت اسرائيل دخول السولار (محروقات الديزل) المخصص لتشغيل محطات المعالجة، وشنت ثلاثة حروب على القطاع أدت لضرر كبير ومباشر بشبكات الصرف.
لكن وعلى الرغم من كل ذلك، كانت بلديات القطاع، بالشراكة مع المؤسسات الحكوميّة والخدماتيّة تحاول الاعتماد على الحلول المؤقتة، تفادياً للوصول الى حالة اسوأ. "استجْدت" مصر وقطر التي عملت على إدخال السولار لمدة ستة شهور لتزويد محطة الكهرباء (بمبلغ 60مليون دولار). لكنها حلول مؤقتة، وقد فاقم الموقف انتهاء منحة منظمة OCHA التابعة للأمم المتحدة.

مياه الصرف الصحي في البحر الى ازدياد

تتفاوت نسب تلوث مياه البحر بحسب الاوقات، لكن القاء مياه الصرف الصحي على شاطئ القطاع كان يتجه الى الازدياد طوال الأربعة أعوام السابقة.

الجدول التالي يوضح نسبة الاماكن المصابة من الشاطئ ونسبة الزيادة في التصريف:

يقدر طول شاطئ البحر بحوالي 42 كيلومتراً، باتت 30 في المئة فقط من مساحته شبه آمنة، بعدما حدّدت جهات الاختصاص أربع مناطق يسمح للمواطنين بارتيادها من أصل 14 منطقة، وهي المساحة الممتدة ما بين محافظتي خان يونس ورفح، و كذلك نهاية نفوذ منطقة بلدية القرارة مع بداية حدود بلدية دير البلح، بالإضافة لبداية منطقة محافظة النصيرات مع نفوذ منطقة الزوايدة وسط القطاع، والمنطقة الرابعة بيت لاهيا التي حدد لها 2-4 كيلومتر فقط حتى أقصى شمال القطاع. إلا أنّه وضعت محددات لهذه المناطق المعتَبرة آمنة، فمُنعت السباحة على بعد 500 متر جنوباً إلى 1000 متر شمالًا من مصب أصداء، واعتمدت المساحة ذاتها لوادي غزّة، و"محررة طيبة". وحينما حاول أحد المواطنين أن يرتاد الشاطئ في المنطقة الآمنة مع أسرته، سرعان ما عزف عائداً بأطفاله بسبب السلوكيات السيئة لبعض المواطنين الذين يصطحبون مواشيهم وحيوانات أخرى للاستحمام. وعلى الرغم من الشكاوي التي قُدمت، إلا أنّ الظاهرة لا زالت قائمة بسبب غياب الرقابة المستمرة.

تأثيرات الأزمة

أثرت أزمة تلوث مياه البحر على أغلب الاوضاع الصحية والاقتصاديّة لسكان القطاع. ففي دراسة أجرتها سلطة البيئة ووزارة الصحة ثبت أنّ 110 من أصل 160 عينة جمعت على طول الشاطئ ملوثة وتجعله لا يصلح للاستحمام. وأظهرت دراسة سابقة في عام 2016 على يد خبراء ومختصين، أنّ تلوثاً كيميائياً وميكروبيولوجياً يصيب البحر تبعاً لاختلاف الفصول، وتنتج عنه عدّة أمراض كالطفح الجلدي والحساسيّة وانتشار الاسهال والمَغص لدى الأطفال والطفيليات المعوية (الجارديا، الأميبيا)، بالإضافة لأمراض تصيب العين والأذن وأخرى كالديزنطاريا. وفي عام 2018، كادت وزارة الصحة الفلسطينية في غزّة أن تعلن عن انتشار الإصابة بوباء الكبد من نوع A.

ورفض مدير الطب الوقائي في وزارة الصحة الكشف لنا عن أعداد الإصابات بالأمراض الخطيرة نتيجة تلوث الشاطئ، متخوفاً من "انعكاس الأرقام على الرأي العام" على حد قوله، مكتفياً بالإعلان أنّ نسبة الإصابة بتلوث مياه الشاطئ "تراجعت نوعاً ما" في نهاية عام 2018، مفسراً ذلك بأن المواطنين أصبحت لديهم مناعة ضد بعض الأمراض التي أصيبوا بها في الأعوام الماضية!!

ويرى مختصون أنّ أزمة تلوث البحر قد تؤثر على صحة مستهلكي الأسماك وهي أيضاً ملوثة، بسبب تركز المواد الكيماوية والسمية والمخلفات البشرية والكائنات الممْرضة الأخرى في المياه، والذي ينتج عنه تغيير لمكوناتها، مثل تقلص الأكسجين وزيادة ثاني أكسيد الكربون، مما يؤدي إلى موت الأسماك أو هجرتها، وهو ما يترتب عليه أثر اقتصادي سلبي في ظل الأوضاع المتدهورة أصلاً التي يعاني منها الصيادون، بسبب عدم السماح لهم بدخول البحر لأكثر من ثلاثة أميال.

وخلال جولة لنا على شاطئ بحر القطاع، أجمع أصحاب الاستراحات المستأجَرة من البلديات بشكل سنوي، أنّ مستوى العائد المادي لهذا العام غير مبشِّر، ولا يغطي رواتب العاملين فيها، وقد لا يتمكنوا من سداد ما دفعوه للجهات الحكومية، مرْجعين السبب الى الرائحة الكريهة التي تنبعث من البحر المليء بمياه المجارير، ما دفع أغلب المواطنين للعزوف عن المجيء للشاطئ.
السفير العربي