2024-11-22 08:44 ص

أمجد ناصر.. ثمة ذهبٌ كثير في الذاكرة

2019-06-18
في لحظة عفوية ومرتجلة غامرة بالمحبة واختمارات الذاكرة، استعاد الشاعر الأردني أمجد ناصر مع رفاقه وأصدقائه وقرّائه اللحظة المؤسسة لمشروعه، حين قرّر أن يُخلص للشعر والكتابة، ويختار فلسطين طريقاً وعنواناً لحياته حين كان ذلك قراراً واعياً لمثقفين تقدّميين من مختلف أنحاء العالم.

لكن صاحب "رعاة العزلة" يحتفظ بتجربة خاصة تختلف عن كثيرين التحقوا معه في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي في صفوف المقاومة الفلسطينية في بيروت، لا تنفصل انتماءاته عن مركب وحدوي؛ أردني وفلسطيني معاً، في تفاصيل حياته الشخصية وتأمّلاته في مصيره الفردي أو الجمعي، وفي إبداعاته المتعدّدة.

استعاد أمجد تلك اللحظة كاملةً في تطابق شبه تام بين كلماته التي ألقاها مساء السبت الماضي في حفل تكريمه الذي أقيم في عمّان، وبين شهادات أحد عشر مشاركاً يمثّلون توجهات وأطيافاً سياسية وفكرية وثقافية مختلفة، إلا أنّهم أجمعوا وهم يحتفون بشاعرهم أنهم يحتفون بأنفسهم وبأحلامهم التي تشظّت في زمن الفرقة والانقسام والهزيمة.

تبادل المحتفون والمحتفى به عبارات الوفاء الذي اختزنوه أربعة عقود، هو عاش معهم في نصوصه بالاسم يسائلهم ويحاورهم عند كل منعطف ومحطّة، وهم تمثّلوا قصائده ومقالاته ورواياته وآمنوا به "شاعراً مغامراً لا يكلّ من التجريب"، الخلاصة التي صرّح بها وأشار إليها الجميع.

عاد يحيي النميري النعيمي أو أمجد ناصر، في ردّه الوجداني غير المجهّز مسبقاً، في تداعياته التي باح بها متحدثاً عن "الاسم الزيتوني أو القمحي" الذي لا يحتاج إلى طول تفكير: فلسطين، الخيار الذي "يشبهنا ونحن أطفال مع أشقاء لنا جاؤوا من غرب النهر"، مضيفاً "فلسطين دخلت إلى نسيج حياتنا بمعانٍ شتى لا تبدأ بالسياسة كما يعتقد بعضهم، تبدأ بما هو أعمق، بما هو شخصي وصداقي وإنساني".

"الوقائع الصغيرة لا تغيّر التاريخ"، العبارة التي اختارها صاحب "الحياة كسرد متقطع" ليصف تاريخه إنساناً ومبدعاً، موضحاً أنه "عندما نعود لنعرف ما الذي جرى نعود إلى الكتاب الكبير، وليس الكتب الصغيرة، وفلسطين هي الكتاب الكبير، والذي يجب أن نعود لنقرأه ونهتمّ به".

وبالطبع، لم يكن ممكناً أن تغيب بيروت التي احتضنته مع رفاق السلاح في ملحمة لا يتمنى أن يتكرّر مآلها، مؤكداً أن اجتماع اليوم "احتفاء بالمحبة، وبطريق طويلة سلكها كثيرون وليس احتفاء بأمجد ناصر بحدّ ذاته".

في تقديمه للكتّاب المشاركين، ذهب الشاعر زهير أبو شايب إلى عتبة الرحلة والنص قائلاً "نقّل أمجد الأردن معه كما ينقّل فؤاده، ونقله من رواسبه البدوية العميقة المنقوشة كالوشم على روحه ولغته ووعيه إلى فضاء الحداثة المفتوح على الأفق العربي والإنساني".

ولم يغفل أيضاً أن الاحتفاء اليوم هو احتفاء بـ"جيل السبعينيات المهم الذي انبثق فجأة في الساحة الأردنية كحقل بهيج، واستمر حيّاً حتى يومنا هذا، والذي امتاز عن غيره من الأجيال السابقة واللاحقة بانغماسه الكلّي في هاجس المقاومة وحلم التحرير والسؤال الفلسطيني".

الروائي إلياس فركوح وافق في ورقته التي حملت عنوان "ميثاق ووثيقة والروح الحرّة تعرف" على ما أورده أمجد ناصر في كتابه "فرصة ثانية"، ليخاطبه قائلاً: "نعم؛ ثمة ذهبٌ كثير في الذاكرة، أيها المهاجر الحاضر: ذاكرتكَ، وذاكرتي، وذاكرة القافلة المتناقصة بأكثر من معنى. القافلة التي رافقت الكلمة النزيهة كما عشقت الأرض، مازجة الاثنتين في واحد، وأطلق عليه: عيش الحياة بروح حرّة! الاثنتان في واحدٍ يغذّهما ويتغذى بهما، تماماً كما ضفتان لنهر واحد اسمه الأردنّ مياه تضمر في أعماقها تاريخ الاتصال والتواصل، رغم ما يظهر منها وكأنه شريط فاصل!".

وتابع: "... أراهن على أن كسرك لـ"عزلة" لم تكن من اختيارك هو فعلٌ من أفعال "الاستشفاء". وإعلان لحضور روحك التي لم يصب حريتها أي داء.. وجواب منها عن سؤالك لي في إهدائك؛ إذ كتبت "هل هناك فرصة ثانية حقاً؟" نعم، في كل دقيقة جديدة ثمّة فرصة جديدة حقاً. إنها روح تدرك أبعادها وأقاصيها، ولأنها كذلك؛ ليست بحاجة لمن يدلّها على مرتقاها.. قبل الأوان! الروح الحرّة تعرف، وهي الدليل".

أما الروائي رشاد أبو شاور فقال "إنني إذ أراه الآن، أرى الأردن كلّه وهو يقاتل عن ثرى فلسطين. إن فلسطين لك ولأمثالك وليست لمن ولدوا فيها، ولكن لمن تولد فيهم كلّ يوم، في كلماتهم وفي إبداعهم"، معرّجاً إلى تجربته الصحافية في لندن حيث تمكّن عن تعويض مجلات كبرى أغلقت في مرحلة سابقة، ووحّد على صفحات "القدس" بين المشرق والمغرب العربييْن.

الشاعر غسّان زقطان استرجع أمسية في السبعينيات قرأ فيها أمجد قصيدتين عرف حينها بما يشبه الحدس أن صداقة عمر بدأت تتشكّل بينهما، مضيفاً "كان الفتى البدوي الذي وصل عمان على غفلة من المدينة والشعراء الراسخين، وكان من الجرأة بحيث يكتب قصيدة مبكرة، لا تخلو من السرد، عن "عمال النسيج"، حين كان الشعر مشغولاً بتورية أفكار يسارية محفوظة ومتفق حولها في ثنايا التفعيلة وتأنيث "الوطن"، كان ذلك صادماً بالنسبة لي ومدهشاً، لقد فسّر لي، من حيث لم يقصد، كيف يمكن للقصيدة أن تكون اكتشافاً".

من جهته، استذكر الشاعر جريس سماوي لقاءه بأمجد الذي جاء يودّعه قبل سفره لاستكمال دراسته، قائلاً: "لا تأخذنك الشوارع الخلفية يا صديقي، حتى إذا ما قصد هو المنافي بعد ذلك، وأخذته الشوارع كلّها ليكتب عنها وعن الناس، ناذراً نفسه لفلسطين وللشعر".

ورأى الكاتب معن البياري أن "أمجد ظلّ يتعامل مع الكتابة باعتبارها طاقة عمل وجهداً، وشغلاً جدياً. وأظن أن قناعته بالكتابة أن تكون كذلك هي ما يعود إليها تطرفه في آرائه عن نصوص وتجارب إبداعية عربية، عندما لا يتحمس لها، وعندما يستطيب غيرها أيضاً".

أما الشاعر حكمت النوايسة، فقد ختم بورقة قال فيها: لا تصدّق كثيراً هذه المجاملة من الشعراء، لأننا سنعود لنحترب على قصيدة النثر والشعر الموزون، بعد أن تفرِك، بإذن الله، بعد أن تفرك بقدمك من هذا الزائر الطارئ...