2024-11-25 06:29 م

الناقد عيسى بلاطة كتب رواية العودة الى القدس... ومات في منفاه الكندي

2019-05-11
الرواية الوحيدة التي كتبها الناقد الفلسطيني عيسى بلاطة الذي رحل أخيراً عن 90 عاماً اختار لها عنواناً إشكالياً هو "عائد إلى القدس" وكأنه كان يعلم أنه سيموت في منفاه الكندي ولن يعود إلى القدس مدينته ومسقط رأسه، على خلاف بطل هذه الرواية فؤاد سرحان الذي يشبهه كثيراً، والذي عاد إلى القدس ولو مهزوماً. ولعل بلاطة يشبه في هذه الأمنية التي لم تتحقق الكاتب غسان كنفاني الذي سمى إحدى رواياته "عائد إلى حيفا" مع علمه أنه لن يعود إليها.

رحل الناقد الكبير والمترجم والأكاديمي عيسى بلاطة في أول الشهر الجاري في مدينة مونتريال، لكنّ خبر رحيله تأخر قليلاً في الوصول إلى أصدقائه وطلابه وقرائه في العالم العربي، فنشر الخبر أمس بعد مواراته الثرى في الأرض الغريبة. وهذا ربما قدر المنفيين ولو كانوا كباراً ومبدعين. وأصلاً كان بلاطة بعيداً في الأعوام الأخيرة عن الإعلام، ومنقطعاً عن الكتابة ولولا إطلالاته المتقطعة في مجلة "بانيبال" الصادرة في لندن لما علم قراؤه عنه أمراً. لكنّ انقطاعه عن الكتابة والنشر والإعلام، لا يعني البتة أنه غائب كناقد صاحب كتب ودراسات مهمة، سواء بالعربية أم بالإنجليزية التي ترجم إليها

أيضاً أعمالا ونصوصاً ومختارات عدة. كتبه تُقرأ باستمرار، في الأكاديميات العربية والأنغلوفونية، ودراساته تُعد من المراجع التي يعود إليها النقاد والقراء على اختلاف أجيالهم، حتى وإن حافظ على الطابع الأكاديمي الكلاسيكي ولم يخرج عن المدرسة النقدية الأنغلوفونية الراسخة تاريخياً. وكان كتابه "بدر شاكر السياب: حياته وشعره" الصادر عام 1971 في طليعة الدراسات السيابية والدراسات التي تناولت الثورة الشعرية التفعيلية الحديثة الأولى التي كان السياب من روادها مع نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري. ولا يزال هذا الكتاب من أبرز الكتب التي تناولت السياب سيرة وشعراً ومراحل، وفق المنهج الشامل، الذي لا يفصل سيرة الشاعر عن أدبه، بل يسعى إلى الربط بين حياته وقصائده. هذا الكتاب لا يزال معتمداً في الجامعات العربية والأجنبية أو الاستشراقية بوصفه حجر الأساس في دراسة السياب.

إلا أن عيسى بلاطه كان أصدر قبل كتابه عن السياب كتاباً عنوانه "الرومنطيقية ومعالمها في الشعر العربي الحديث"، يتناول فيه المدرسة الرومنطيقية كما تجلت في الشعر العربي الجديد ولا سيما الشعر الذي ينتمي الى المقلب الثاني من عصر النهضة. ويقول بلاطة في هذا الصدد: "لا يمكن أن تُفهم الرومنطيقية فهماً حسناً إلا إذا اعتبرت جزءاً من الثورة الفكرية العامة التي ميّزت القرن التاسع عشر». ويمكن إدراج هذا الكتاب ضمن الأدب المقارن ولكن من دون أن يتعمد صاحبه اللجوء إلى هذا المنهج النقدي في كل معاييره. فهو يقرأ التجربة الرومنطيقية العربية على ضوء المدرسة الرومنطيقية الغربية وأعلامها. لكن بلاطة يعترف في مقال له ضمه كتابه "صخر وحفنة من تراب" (2005) أن أول مقال نشر له كان في مجلة "الأفق الجديد" وعنوانه "فدوى طوقان ومشكلة الموت" (سبتمبر 1961).

بعدما أنهى عيسى بُلّاطه دروسه الثانوية في مطلع الستينات في القدس، قرر الالتحاق بجامعة لندن لإكمال دراسته، واستمر فيها حتى حصوله على الدكتوراه في الأدب العربي عام 1969. ثم درّس الأدب العربي في مدرسة هارتفورد في كونيكتيكت قبل أن يلتحق بجامعة ماكجيل في مونتريال عام 1975 كأستاذ للغة العربية والأدب في معهد الدراسات الإسلامية، ومكث فيها حتى تقاعده عام 2004.

حقول متعددة

تعددت شواغل بلاطة الأدبية مثلما تعددت حقول عمله النقدي وإبداعه ومنها النقد التاريخي والنقد المقارن والمقالة والترجمة والرواية والقصة، وله مجموعته قصصية صدرت بالإنجليزية بعنوان "جنتلمان متقاعد" عام 2003. وعطفاً على مساره النقدي سعى بلاطة إلى تقديم الأدب العربي إلى القارئ الأنغلوفوني، فأصدر بالإنجليزية كتاب "شعراء عرب معاصرون 1950-1975" الذي نشر في لندن عام 1976، وتلته دراسة "نظرات نقدية في الأدب العربي الحديث" ونشرت في واشنطن عام 1980، و"الاتجاهات والقضايا في الفكر العربي المعاصر" (1990)، وشارك في كتب جماعية بالإنجليزية، ومنها "وجهات النظر النقدية في الأدب العربي الحديث" (1980)، و"التقاليد والحداثة في الأدب العربي " (1997). ومعروف عنه ترجمته الإنجليزية لكتاب "حياتي" للكاتب المصري أحمد أمين، وقد وضع لها مقدمة موسعة ونشرها في هولندا نهاية السبعينات، ثم ترجم أعمالاً لجبرا إبراهيم جبرا وهشام شرابي وإميلي نصر الله ومحمد برادة وغادة السمان ومحمود شقير وسواهم.

ومن كتبه النقدية المهمة كتاب بعنوان "نافذة على الحداثة: دراسات في أدب جبرا إبراهيم جبرا"(2002)، فهو كان تلميذ لجبرا في "الكلّية العربية" في القدس، وامتدت هذه الصداقة ليكون الطالب من أبرز دارسي أعمال أستاذه ومترجميها إلى الإنكليزية. يتناول بلاطة في هذا الكتاب مؤلفات جبرا تحليلاً ودراسة في خمس مقالات نقدية، ويبين دوره الفاعل في إرساء الحداثة في الأدب العربي المعاصر، بصفتها نابعة من أصالة التراث العربي في الماضي، ومن أصالة الذات العربية الخلاقة المرتبطة بالعصر الراهن. والكتاب هذا، عطفاً على ما يحمل من طابع الشهادة، هو دراسة معمقة لإنجازات جبرا على ضوء النظريات التي نادى بها جبرا وغيره، والتي تتعلق بفنون الشعر والرواية والقصة والأدب عامة. واستعرض المؤلف في الكتاب ما كان لجبرا من إضافات جديدة إلى هذه الفنون الأدبية، ذاكراً ما كان له من مشاركات في فن الرسم والنحت والهندسة المعمارية والموسيقى، وما كتب فيها من نقد ودراسات، علاوة على مساهماته الواسعة في الترجمة عن الانجليزية وفي مقدمها روائع شكسبير. وله كتاب مهم هو "إعجاز القرآن الكريم عبر التاريخ"  (2006).

وفي حصيلة مسار بلاطة ما يفوق الثمانين دراسة أدبية وقرابة الثلاثمئة من مراجعات الكتب في المجلات الرصينة، وقد شارك ككاتب ومحرر في موسوعات أدبية مثل "موسوعة الأدب العالمي في القرن العشرين"، "موسوعة أكسفورد للعالم الإسلامي الحديث"، "موسوعة الأدب العربي"، "موسوعة الفلسطينيين" وسواها. أما روايته الوحيدة بالعربية وعنوانها "عائد إلى القدس" (دار الطليعة، والاتحاد، 1998، فإنما كتبها تحت وطأة الأثر الذي تركته فيه بصفته منفياً عن القدس، "اتفاقية أوسلو" عام 1993. والرواية هذه كما حلا له أن يصفها، هي رواية أبناء القدس الذين عاصروا حربين، وخسروا عمرين، وفقدوا مدينتين، وتشردوا بين وطنين، وظلّت القدس قبلتهم ومبعث الحنين في قلوبهم ومحفزاً لإرادة العودة لدى جيل "الإكسودس" العربي. لكنها أيضاً رواية الحب الأول الذي عاشه بطلها فؤاد سرحان، الحب الذي يستعصي على النسيان، لكونه حب الوطن والقدس والمرأة في آن واحد. أما القدس الحاضرة في الرواية فهي القدس في التاريخ والواقع بين 1948 وثمانينات القرن العشرين، وواضح أن أحداث الرواية، تجري من خلال لعبة "الفلاش باك" أو الاسترجاع. فالرواية تجري أحداثها في نيويورك ولندن ومدن أخرى. واللافت في الرواية هو اعتماد بلاطة لعبة الرواة المتعددين، فهو عهد إلى خمسة رواة مهمة سرد الأحداث والوقائع. وعلى رغم عدم احتراف بلاطة العمل الروائي، فروايته الوحيدة هذه، تظل حقاً من أهم الأعمال السردية التي كتبت عن القدس، قدس المنفيين وقدس البطل العائد بعدما فقد حبه وكل ذرائع العيش بعيداً من مسقط الرأس.
(عبده وازن)