قد لا تثير سياسات الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادية والسياسية على حدّ سواء إعجاب كثيرين من الخبراء والمختصين، لكن الدولار مع ذلك أصبح في السنوات الأخيرة مستودعًا مفضلًا للمدخرات العالمية وملجأً أساسيًا في أوقات الأزمات وشكلًا مهمًا من أشكال تبادل السلع مثل النفط.
كيف تمكّن الدولار من تحقيق هذا؟ عن هذا السؤال يجيب المراسل الاقتصادي لصحيفة «نيويورك تايمز» بيتر جودمان خطوةً بخطوةً ليشرح طريق الدولار للوصول إلى هذه المكانة والعقبات التي تواجه منافسيه.
روايتان مختلفتان
قد يجد تقييمٌ سريع للولايات المتحدة أنها مرشحٌ غير مثالي لإدارة مال الكوكب بأهم أشكاله، فكما يشرح الكاتب يبلغ الدين العام للولايات المتحدة مبلغًا باهظًا -22 تريليون دولار، وهو في ارتفاع، وأدت سياساتها مؤخرًا إلى أطولإغلاقٍ حكومي في التاريخ الأمريكي، وقد تجاوز نظامها المصرفي أسوأ أزمةٍ ماليةٍ تمر عليه منذ الكساد الكبير منذ عقدٍ فقط.
أما رئيسها القومي فيستفزّ باعتزاز حلفائه وأعدائه على حد سواء لتنهمر شكاواهم من مخالفته لمعايير العلاقات الدولية؛ وهو ما أدى مُجتمعًا إلى بدء الحديث عن فقد الدولار الأمريكي هالته بصفتِه ملاذًا آمنًا وحصينًا.
ارتفع مشترو سندات الادخار الحكومية وصعد الإقراض المحتسب بالدولار لمقترضين خارج الولايات المتحدة ـ باستثناء البنوك ـ إلى أكثر من 14% من الناتج الاقتصادي العالمي.
لكن يروي المال قصةً أخرى: وصل الدولار في السنوات الأخيرة إلى مكانةٍ أكبر مستودع مفضل للمدخرات العالمية، وملاذ أساسي في أوقات الأزمات، وشكل مهم لتبادل السلع مثل النفط. يعطي الدولار بصلابته وقدرته القوة لطريقة الرئيس ترامب في المشاركة؛ فقد مكّن وزارة ماليّته من إيجاد مشترين لسندات الادخار الحكومية بثمن زهيدٍ حقًا، حتى بعد إضافة التخفيضات الضريبية بقيمة 1.5 تريليون دولار إلى الدين.
كما عزز سلطة ترامب في فرض سياساته الخارجية على عالمٍ يتسم بالتردد والإحجام، وذلك عبر تضخيم قوة عقوباته التجارية، خصوصًا ضد إيران وفنزويلا. وعدم قدرة البنوك على المخاطرة بتهديد سبل استفادتهم من تركيبة الشبكة المالية العالمية القائمة على الدولار، تدفعها لبذل جهودٍ حثيثة في تجنب الدول والشركات المنبوذة من واشنطن.
وفي هذا السياق يقول أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة براون مارك بليث: «لا يوجد بديلٌ للدولار، نحن عالقون معه، وذلك يمنح الولايات المتحدة سلطة هيكلية مذهلة».
وفي إشارةٍ واضحة إلى اكتساب العملة الأمريكية قوة إضافية ارتفع الإقراض المحتسب بالدولار لمقترضين خارج الولايات المتحدة – باستثناء البنوك – ارتفاعًا حادًا ما بين أواخر عام 2007 وأوائل 2018، وفقًا لبنك التسويات الدولية، وقد وصل إلى أكثر من 14% من الناتج الاقتصادي العالمي بعد أن كان أقل من 10% سابقًا. حصل هذا رغم تنبؤ العديدين بعد الأزمة المالية باحتمالية تخلّي الدولار أخيرًا عن هيمنته، وأنه في عصر صدّ مبدأ الاستثنائية الأمريكية آن أوان عملات أخرى في الصعود.
الصين تدفع عملتها
ينوّه الكاتب إلى محاولات الصين وسعيها للارتقاء بدور عملتها «الرنمينبي»، لتعكس مكانتها باعتبارها قوة عالمية. هيّأت الصين على مدار العقد الماضي ترتيبات للصرف الأجنبي مع عشرات البلدان، بما في ذلك كندا وبريطانيا والبرازيل.
أيد الرئيس شي جين بينغ مجموعةً من مشاريع البنية التحتية العالمية بقيمة تريليون دولار في الصين ـ تُعرف باسم مبادرة الحزام والطريق ـ وذلك جزئيًا بمثابة وسيلة لتوسيع استخدام الرنمينبي على الصعيد العالمي. كما أقرت الصين العام الماضي نظامًا تجاريًا في شنجهاي يسمح بشراء النفط بالعملة الصينية.
لكن ظهور تباطؤ الاقتصاد الصيني للعيان، فضلًا عن القلق بشأن ارتفاع ديون الصين وعدم ارتياح الدول المجاورة من أن تكون استثماراتها مجرد شكل جديد من أشكال الاستعمار كله تضافر ليكبح خططها للبنية التحتية.
يذكّر الكاتب أيضًا بالقيود التي فرضتها الحكومة الصينية على سحب الأموال من البلاد واحتجازاتها للأجانب المقلقة ـ غالبًا يتوازى ذلك مع ورطات ومسائل جيوسياسية ـ وهو ما وضع الأموال الصينية موضع امتحانٍ حقيقي. يردد السيد بليث بشأن الاحتمالات البديلة للدولار: «ماذا عن الصين؟ يمكن أن أذهب إلى هناك وأختفي. لا يوحي هذا بالثقة. بمجرد أن تبدأ هذا النوع من السياسة، فإنك لست جادًا بمسألة العملة العالمية».
اليورو على حلبة السباق
كان اليورو المنافس الأعتى للدولار والأكثر شراسة لأمدٍ طويل. خصص رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر جزءًا من خطاب حالة الاتحاد في سبتمبر (أيلول) للإعراب عن الأسف والأسى لأن الاتحاد كان يدفع 80% من وارادات الطاقة بالدولار رغم أن 2% فقط مصدره الولايات المتحدة، معقبًا على ذلك بقولِه: «سيتعين علينا تغيير ذلك. ينبغي أن يصبح اليورو أداةً فعالة لأوروبا ذات سيادية جديدة».
لكن ـ يوضح الكاتب ـ السندات الحكومية الألمانية التي تعدّ أكثر استثمارات اليورو وثوقًا بحالة نقص مزمن. ترددت ألمانيا في تمويل الإنفاق عبر بيع السندات، لا سيما مع العزوف الثقافي العميق عن الديون. وبالنتيجة لا يوجد سوى خيارات قليلة جدًا ومحدودة في عملة اليورو أمام المستثمرين الباحثين عن أماكن فائقة الأمان لتخزين مدخراتهم. في المقابل تكاد تكون سندات الادخار الأمريكية غير محدودة عمليًا.
سرّ الدولار في حكايته
رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي في السنوات الأخيرة أسعار الفائدة مع انتهاء التخلص التدريجي من الأموال الرخيصة التي أطلقها لمواجهة الأزمة المالية. زادت المعدلات المرتفعة من جاذبية الدولار للمستثمرين عبر رفع معدل عوائد حيازة الدولار؛ ما أدى إلى وصول أموال جديدة لشواطئ العملة الأمريكية. يشير نيكولا كاساريني، وهو أحد كبار الباحثين بمعهد الشؤون الدولية في روما، إلى أنه «حتى مع وجود ترامب في البيت الأبيض، وكل ما فعله حتى الآن لتقويض القيادة الأمريكية في العالم، ما يزال الدولار العملة العالمية المهيمنة، ولا يبدو عليه التراجع».
أصبحت قدرة الدولار على الاحتمال حقيقةً بديهية في الشؤون العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويشرح الكاتب أنه ـ بخلاف التوقعات ربما ـ تعزز هذا المفهوم تعززًا أقوى بفضلِ الأزمة العالمية التي بدأت عام 2008. تمحورت الأزمة حينها حول احتمالٍ مروع بألا تتمكن البنوك العالمية من إيجادٍ دولاراتٍ كافية لتجنب تصفية حسابات الديون الممولة بالدولار. ضخ البنك الاحتياطي الفيدرالي ـ وهو البنك المركزي للعالم وفقًا لتعقيب الكاتب ـ كمياتٍ من الدولار يستعصي تخيلها، وبعدها نجا النظام.
بين بداية عام 2008 وأواخر عام 2018، ظلت حصة الاحتياطات المحتفظة بالدولار من قبل البنوك المركزية العالمية ثابتة تقريبًا، إذ انخفضت من 63% إلى 62% وفقًا لصندوق النقد الدولي. هذا بالرغم من توسع مجموع الاحتياطي ـ ما تحتفظ به البنوك المركزية من أموال في ميزانياتها ـ إلى أكثر من نصف. خلال الفترة نفسها، انخفضت الاحتياطيات المودعة باليورو من 27% إلى 20%، ويعكس هذا التحول بمعظمه خسارة اليورو في القيمة مقابل الدولار، أما العملة الصينية فلا تشكّل سوى 2% من إجمالي الاحتياطيات وفقًا لصندوق النقد الدولي.
ثبات مستويات الدولار وارتفاع قيمته مقابل عملاتٍ أخرى وفقًا لأرقام صندوق النقد الدولي. المصدر
عزز تفوق الدولار من قدرة الرئيس ترامب على إملاء أهدافه الرئيسة في السياسة الخارجية. يورد الكاتب أمثلةً على ذلك، من ذلك قراره بانسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني واستئناف العقوبات على إيران؛ ما أثار ذعرًا بين حلفاء أمريكا الرئيسيين في أوروبا. كانت فرنسا وإيطاليا قد تطلّعتا إلى إيران بمثابة مصدرٍ لتجارةٍ جديدة، مع الاعتماد على الاتفاق وسيلةً لمنع توصلها للسلاح النووي. ومع ذلك، التزمت أوروبا بالعقوبات لسببٍ بسيط يتمثل بعدم قدرة بنوكها على النجاة من إمكانية قطعِها عن النظام المالي العالمي الخاضع لهيمنة الدولار.
يوضح الاقتصادي براد سيتسر ـ وهو مسؤول سابق في وزارة الخزانة الأمريكية، وزميل بارز الآن في الاقتصاد الدولي بمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك – أنه وبالنسبة لبنكٍ عالمي «تعد عدم القدرة على العمل بالدولار فعليًا حكمًا بالإعدام. تمكنت الولايات المتحدة من الاستفادة من ذلك». وقد طُبقت هذه السلطة بشكلٍ من أشكالها على فنزويلا، بمحاولات ترامب الإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو. أظهرت العقوبات فعاليتها، مع تسببها بشلّ صادرات النفط والنظام المصرفي في غضون أيام.
زاد تفوق الدولار أيضًا من حدّة الضغط على روسيا، وهو من ضمن الدوافع المحتملة للتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016، لا سيما مع حرص الرئيس فلاديمير بوتين على التخلص من عقوبات الولايات المتحدة، خاصة بالنسبة للمقربين منه إذ قيدت سنوات العقوبات من حركة أموالهم في النظام المصرفي العالمي. سهّلت هيمنة الدولار من فرضِ مثل تلك القيود.
يختتم الكاتب مقاله بالتنويه إلى انعدام الأبديات في الاقتصاد العالمي؛ ما يعني انتفاء ديمومة هذه الحقبة أكثر من غيرها. يرى البعض احتمالية حدوث نتائج عكسية من طريقة استخدام إدارة ترامب للدولار. شكلت فرنسا وألمانيا وبريطانيا مؤخرًا شركة تجارية تهدف لإتاحة تبادل الغذاء والدواء بين الشركات الأوروبية والإيرانية، بالاعتماد على نظام المقايضة للالتفاف على العقوبات.
اتهم عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي بينوا كوري الولايات المتحدة في خطاب حديثٍ له باستخدامها الدولار لفرض سياساتها على الآخرين قائلًا: «يمنح موقع مصدّر العملة الاحتياطية العالمية قوةً نقدية دولية، وتحديدًا القدرة على تسليح إتاحة الاستفادة من النظم المالية ونظم المدفوعات»، معقبًا أنه وبمواجهة «قوة إكراه» مماثلة، كان حتميًا على أوروبا رفع «المكانة العالمية» لليورو، باستخدام العملة «أداةً لإظهار التأثير العالمي».
للصين أيضًا أفكارها وطموحاتها الخاصة بشأن مسار التاريخ الصحيح. تعزى مشاريع شبكة السكك الحديدية والطرق البحرية والبرية العامة من آسيا إلى أوروبا جزئيًا لتمكين نقل البضائع الصينية دون الاعتماد على خطوط الشحن الخاضعة لإشراف ومراقبة الولايات المتحدة. فضلًا عن تأسيس الصين للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ودفاعها عنه والذي ينصبّ في مفهوم إيجاد مصدرٍ بديل لرأس المال.
لكن رغم احتمالات المستقبل تلك، يؤكد الكاتب بأن الدولار ما يزال حاليًا ـ كما كان منذ فترة طويلة ـ أقرب نموذجٍ لليقين في اقتصادٍ عالمي شديد التقلب.
المصدر: ساسة بوست