سلام السعدي
تراجعت الإدارة الأميركية عن قرارها السابق، والذي لم تمض ثلاثة أشهر على إعلانه، بسحب قواتها العسكرية من سوريا وذلك بإعلان الإبقاء على نحو مئتي جندي وتأكيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب موافقته “مئة بالمئة” على هذه الخطوة، كما قال.
هكذا جاء القرار الجديد كحل وسط يرضي طرفين داخل الإدارة الأميركية. الطرف الأول هو الرئيس ترامب المشغول بالاستحقاق الانتخابي القادم، بعد نحو عام ونصف العام، أكثر من أي قضية أخرى. وعد ترامب قاعدته الشعبية بالانسحاب من سوريا وببناء جدار على الحدود الأميركية مع المكسيك، وهو يحاول الإيفاء بهذين الوعدين متعاميا عن العواقب الوخيمة التي قد تترتب عليهما وعازما استخدام كل الوسائل، الدستورية منها وغير الدستورية، لتحقيق ذلك. ففي قضية الجدار، أغلق ترامب الحكومة الأميركية وأعلن حالة الطوارئ في سابقتين خطيرتين تهددان مبدأ الفصل بين السلطات.
أما بخصوص الوجود العسكري في سوريا، فقد قرر تجاهل جميع الحقائق التي تؤكد على ضرورة استمرار الوجود العسكري الأميركي في شمال سوريا لتحقيق الأهداف التي أعلنتها إدارة ترامب أساسا، وتتمثل بإنهاء تنظيم داعش ومنع ظهوره من جديد، فضلا عن إبقاء الضغوط على النظامين السوري والإيراني.
يقدر تقرير لمركز الدراسات الدولية والإستراتيجية أن أعداد الجهاديين في العالم تبلغ اليوم نحو 230 ألف مقاتل، وهو ما يقارب أربعة أضعاف العدد الذي قدرته وكالات الاستخبارات العالمية بعد وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001 والبالغ نحو ستين ألف مقاتل. ويتركز أكبر عدد للمقاتلين الجهاديين في سوريا بوجود ما بين 40 و70 ألف مقاتل. بالنسبة للمؤسستين العسكرية والاستخباراتية الأميركيتين، فإن ترجمة تلك المعطيات على أرض الواقع تفضي للاعتقاد بأن كل الشروط ستكون مهيئة لعودة تنظيم داعش بمجرد مغادرة الولايات المتحدة.
هنالك تقارير استخباراتية بدأت بالظهور تؤشر إلى أن عناصر داعش في سوريا والعراق قد استطاعوا إعادة التجمع والتمركز في مناطق نائية تحضيرا لشن حرب عصابات طويلة تشبه تلك التي قادتها حركة طالبان في أفغانستان وأدت، في نهاية المطاف، بعد نحو عقد ونصف العقد على انطلاقها، إلى إجبار الولايات المتحدة على الجلوس معها على طاولة المفاوضات. لقد تحول تنظيم داعش من تنظيم ثابت يسيطر على مناطق جغرافية محددة إلى شكل جديد من التمرد الذي يتحرك بمرونة وفاعلية وقادر على العودة إلى شكله القديم بمجرد توفر الظروف الملائمة.
وليس الانسحاب الأميركي هو الشرط الوحيد المساعد على عودة تنظيم داعش ولكن أيضا وأساسا، قدرة التنظيم على تحشيد عشرات الآلاف من الشباب غير المتعلم والفاقد للأمل، مستغلا معاناتهم الاقتصادية والإنسانية المتفاقمة باستمرار.
والحال أن محاربة داعش ليست ولم تكن، تشكل الأساس الذي تبنى عليه السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة. فللأخيرة أهداف أخرى تتعلق بإبقاء هيمنة سياسية على دول المنطقة، تتحقق عبر الإبقاء على تواجد عسكري واسع ومستدام، بالإضافة لعوامل أخرى كثيرة.
وبهذا المعنى، لقد وفرت الحرب السورية فرصة للإدارة الأميركية لتأسيس وجود عسكري في شمال وشرق سوريا بالتعاون مع شريك محلي منضبط وفعال، هو القوات الكردية. ولقد نجحت الولايات المتحدة في استغلال تلك الفرصة وتثبيت وجودها العسكري في بيئة نزاع شديد ومتعدد الأطراف وبفاعلية كبيرة.
من جهة أخرى، يتيح ذلك التواجد إبقاء الضغط السياسي والاقتصادي على نظام الأسد وحليفيه روسيا وإيران. لقد توقفت الولايات المتحدة عن المطالبة بتنحي بشار الأسد كما أوقفت الدعم الذي كانت تقدمه إدارة الرئيس السابق باراك أوباما للمعارضة المسلحة في محاولة لاحتواء النزاع وتثبيت نوع من الاستقرار. في نفس الوقت رفضت واشنطن تطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية مع النظام السوري الذي تعتبره جزءا من المشروع الإيراني في المنطقة وترغب بالتالي بمواصلة الضغط عليه.
اليوم، تسيطر الولايات المتحدة والقوات الكردية التي تدعمها على معظم الثروة النفطية للبلاد، وهو ما يزيد من المصاعب الاقتصادية التي تواجهها الدولة السورية ويزيد من أعباء الدعم الاقتصادي المترتب على الحليفتين؛ روسيا وإيران.
أخيرا، تعتبر تكلفة الوجود العسكري الأميركي في سوريا شديدة الانخفاض، على الصعيدين المادي والبشري، ما يجعل من قرار الانسحاب خطأ استراتيجيا. دعا كل ذلك المؤسسات الأميركية والحزب الجمهوري لتكثيف الضغوط على الرئيس الأميركي واقتراح حل وسط يحفظ ماء وجه الرئيس والوجود الأميركي معا.
العرب اللندنية