عُرفت منطقة «شرق البحر المتوسط» أو (Eastern Mediterranean)، التي تضم دولاً عدة في هذه الناحية الجغرافية بترابط ثقافي جمع بلدانها تاريخياً بشكل كبير.
حيث كان يشمل مصطلح (دول شرق المتوسط) سابقاً إقليم بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن) المرتبط والمتصل ثقافياً وتاريخاً مع كل مصر وقبرص وتركيا واليونان، والتي هي جزء من هذا الحوض الشرق متوسطي.
وترتبط شعوب هذه المنطقة، جغرافياً، وثقافياً، من حيث الأكلات الشعبية والعادات والتقاليد والعرق واللغة. فالسوري واللبناني والفلسطيني والأردني والمصري، بالإضافة إلى الماروني القبرصي وبعض شعوب البحر الأبيض المتوسط الأخرى تتحدث اللغة العربية.
لكن اليوم، توشك هذه الدول المترابطة ثقافياً، على صدام كبير ربما يغير شكل المنطقة كلها، حيث إنها تتصارع ضمن تحالفات وتكتّلات كبيرة على حقول الغاز الضخمة في قاع البحر المتوسط.
تزداد حدة هذا الصراع بعد إعلان وزراء الطاقة في 7 دول شرق متوسطية، الإثنين 14 يناير/كانون الثاني، شملت مصر والأردن وفلسطين وقبرص واليونان وإيطاليا وإسرائيل، إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF)، بهدف «تأسيس منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء في مواردها الطبيعية، بما يتفق ومبادئ القانون الدولي، وفقاً لبيان وزارة البترول المصرية».
وأضاف البيان أن من أهداف المنتدى «العمل على إنشاء سوق غاز إقليمية بين هذه الدول، وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية؛ بهدف تأمين احتياجاتهم من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم».
باب التطبيع الأكبر مع إسرائيل
للوهلة الأولى، نجد أن هذه الأهداف ربما تكون جيدة وإيجابية لدول المنطقة، لكن الجديد أو المستغرب هو دخول كل من إيطاليا وإسرائيل في هذا المنتدى، فالأولى لا تقع فعلياً في منطقة شرق البحر المتوسط. إلا أنه بإمكاننا تنحية ذلك جانباً، من باب تطوير العلاقات الاقتصادية للدول العربية الشرق متوسطية مع روما، من خلال إنشاء خط أنابيب للغاز الطبيعي برعاية الاتحاد الأوروبي، وربط حقول الغاز شرقي المتوسط بإيطاليا عبر قبرص واليونان.
أما إسرائيل فدمجها في المعادلة، وربط مصالح هذه الدول العربية بها، وفتح أكبر باب اقتصادي للتطبيع معها منذ بدء عملية السلام العربي قبل نحو 45، يضع علامات استفهام على دورها في هذا المنتدى المحوري الخطير.
حيث يأتي ضم إسرائيل للمنتدى الذي اتخذ من القاهرة مقراً له، في الوقت الذي يتم فيه استثناء كل من تركيا وسوريا ولبنان، وهي دول شرق متوسطية، ولها حصة في حقول غاز مكتشفة في شرق البحر المتوسط، بعضها متنازع عليه مع إسرائيل.
في حين يشهد التعاون العربي- الإسرائيلي في مجال تصدير الغاز أحداثاً كبيرة خلال السنوات الماضية، ففي عام 2005 وقّعت كل من مصر وإسرائيل اتفاقاً بتصدير الغاز المصري للأخيرة لمدة 20 عاماً، بواقع 60 مليار قدم مكعب/ سنة.
وبدأت مصر في استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل بكميات تصل إلى 100 مليون قدم مكعب غاز يومياً، في الربع الأول من عام 2019، وسيرتفع تدريجياً ليصل إلى 700 مليون قدم مكعب في اليوم، وذلك ضمن اتفاقية الـ15 مليار دولار التي وقعتها مؤخراً شركة دولفينوس المصرية الخاصة مع الشركاء في حقلي تمار ولوثيان الإسرائيليين للغاز.
كما أن الأردن أيضاً كان قد وقع، في الثالث من سبتمبر/أيلول 2016 مع تجمّع شركات حقل «لفاياثان» الإسرائيلي، ممثلة بشركة نوبل إنيرجي الأمريكية، اتفاقية تصل قيمتها إلى 15 مليار دولار على مدار 15 سنة، مقابل ما مجموعه 45 مليار متر مكعب من الغاز. وبناء على هذه الاتفاقية ستدفع شركة الكهرباء الأردنية للتجمع شركات حقل لفاياثان مليار دولار سنوياً من إجمالي مصاريفها السنوية والبالغة 3.5 مليار دولار.
التفوق الإسرائيلي
وبعد تدشين هذا المنتدى وإشراك إسرائيل فيه كلاعب رئيسي فيه، ستحقق السياسات الإسرائيلية العديد من المكاسب في منطقة شرق المتوسط، في مجال يضمن لها تفوقاً اقتصاديّاً كبيراً، عنوانه الطاقة.
إذ يرى مراقبون أن تأسيس هذا المنتدى يحمل أبعاداً كبيرة، إذ إنه يربط مصالح إسرائيل رسمياً بمصالح مصر والأردن وفلسطين، كما أنه سيجعل من إسرائيل كياناً محورياً في الاقتصاد الإقليمي، ولاعباً رئيسياً على الصعيد الدولي؛ بسبب الإمكانات التكنولوجية والتمويلية المتوفرة لدى تل أبيب، التي لا تتوفر لأي من أعضاء المنتدى الذين يصارعون مشاكل اقتصادية كبيرة، ويقيمون اقتصادهم على القروض والمعونات.
وحول استثناء دول مثل تركيا ولبنان وسوريا من هذا المنتدى، وضم إسرائيل التي تعتبر عدوة لسوريا ولبنان وخصماً لدوداً لتركيا، يعتقد محللون أن المنتدى يعد العدة لبناء جبهة معادية لتركيا، ويضع مصر مع إسرائيل في خندق واحد معاد لتركيا.
إذ يرى المحلل السياسي الأردني عمر عياصرة، أن المنتدى يشكل «اصطفافاً إقليمياً لمواجهة تركيا ومعاداتها، فكيف يتم استثناؤها رغم أن أنقرة طرف فاعل ومهم ولا يمكن الاستغناء عنه».
ويرى عياصرة أن المنتدى الإقليمي الجديد هو «تماهٍ عربي في المشاريع المصيرية مع إسرائيل، التي ما زالت عدوة لنا رغم أنف كل اتفاقات السلام». مشيراً إلى أن ثمة حصصاً ستوزع ومكاسب من الاكتشافات، التي يجري التستر عليها في شرق المتوسط، متساءلاً: «هل ستكون الاكتشافات مفيدة لنا، أم أننا سنكون مجرد شهود زور على أمر لا نعرف حقيقته؟».
واقعية معادلة «أمن الطاقة» في المنطقة
وزراء الدول السبع، الذين اجتمعوا الإثنين 14 يناير/كانون الثاني في القاهرة، أكدوا أن الاكتشافات الغازية الكبيرة في الحقول البحرية بشرق البحر المتوسط سيكون لها «تأثير عظيم» على تطور الطاقة والتنمية الاقتصادية بالمنطقة، مشيرين أن التوسع في الاكتشافات الجديدة والاستغلال الأمثل لها سيكون له «بالغ الأثر على أمن الطاقة بالمنطقة».
لكن، يرى الخبير الاقتصادي د. حسام عايش، أن اعتماد دول عربية -محدودة الإمكانات- على هذا المنتدى لتحقيق أمنها من الطاقة، هو أمر غير واقعي، مؤكداً أن إسرائيل هي صاحبة النفوذ الأقوى في المنتدى، فهي التي تملك الإمكانات الأكبر في مجال الطاقة.
ويضيف عايش لـ «عربي بوست» أن إسرائيل كالتاجر، وهي تريد مصلحتها الآن فقط، وبالتالي من المؤكد أنها لن تسمح لدول عربية مثل الأردن والسلطة الفلسطينية من الحصول على كامل حقوقهم في الطاقة لاحقاً، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها لتأمين الأمن الطاقي، ولن تصدق نواياها.
ويعتبر عايش أن الأردن والسلطة الفلسطينية تعتمد على إسرائيل في مجال الطاقة، فالمناطق الفلسطينية واقعة تحت احتلال، ولن تسمح تل أبيب للسلطة بالتنقيب عن الغاز قبالة سواحل غزة على سبيل المثال. أما الأردن، فبعد توقيعه لاتفاقية الغاز مع إسرائيل أصبح مرهوناً لها لـ15 عاماً قادمة، وبتكلفة مرتفعة جداً.
استثناء تركيا وبناء المحور المنافس
وبحسب بيان الدول السبع المؤسسة لمنتدى غاز شرق المتوسط، فيمكن لأي من دول شرق البحر المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز أو دول العبور، ممن تتفق مع المنتدى في المصالح والأهداف، الانضمام لعضويته لاحقاً، بعد استيفاء إجراءات العضوية اللازمة التي يتم الاتفاق عليها بين الدول المؤسسة.
وأوضح وزراء الدول السبع، أن المنتدى» سيكون مفتوحاً لانضمام دول أخرى أو منظمات إقليمية أو دولية بصفة مراقبين»، لكن هل ينطبق هذا الأمر على تركيا؟
يرى عايش أنه من الصعب جداً انضمام تركيا لاحقاً لهذا المنتدى، فمصالحها وسياساتها تتعارض بشكل كبير مع محور دول المنتدى.
ويضيف أن أنقرة إذا أرادت الدخول في اللعبة -وهو أمر مستبعد- فلن تقبل بأن تكون تحت شروط الآخرين، بل ستريد الدخول بشروطها، فهي لن تكتفي بصفة «المستفيد» فقط، بل اللاعب الرئيسي والفاعل، فهي لديها علاقاتها واتفاقياتها في الطاقة مع إيران وروسيا وقطر، وتريد الحفاظ عليها أيضاً، ولا تريد خسارتها.
وجهاً لوجه
ويؤكد عايش أن الدول السبع بتدشينها لهذا المنتدى، ستدخل في تنافس كبير وتضارب مصالح مع المحور التركي، وستواجه الدول هذه أنقرة في حوض المتوسط، إذ لأنقرة كما لغيرها حقول غاز مكتشفة، وبعضها متنازع عليها مع اليونان، أو (قبرص اليونانية) على وجه التحديد.
وباستمرار تجاهل قبرص للتحذيرات التركية، فقد هددت تركيا بشكل متكرر منذ العام 2012 على الأقل بأن أي إجراء أحادي من قبل قبرص اليونانية يتجاهل الحقوق التركية أو حقوق قبرص التركية، سيقابَل برد مناسب يضمن حقوق ومصالح تركيا.
في النهاية، أصبحت منطقة شرق المتوسط، التي جمعتها الجغرافيا والثقافة منذ الأزل، على شفا مواجهة بالفعل، اتضحت سابقاً وستتضح أكثر، بعد تدشين محور الدول السبع في القاهرة.
دول عدة تقف اليوم على خطوط المواجهة ضمن مجموعتين، تربط المصالح السياسية بين أطراف كل منهما. في المجموعة الأولى مصر وإسرائيل وقبرص واليونان والأردن والسلطة الفلسطينية، وفي المجموعة الثانية دول مستثناة من الكعكة، لكنها ترفض ذلك، هي تركيا وقبرص الشمالية وسوريا ولبنان، ومن خلفها لاعبون إقليميون آخرون، هما روسيا وإيران.
فازدياد وتيرة التنافس والتنازع على غاز حوض شرق المتوسط يضع كل طرف شريك بالنزاع أمام التحالف والالتجاء، لحلفاء أصحاب نفوذ أكبر، ربما يتدخلون بقوتهم العسكرية لحماية سفنهم أو مصالحهم في تلك المنطقة.