جلال سلمي
يكاد اسمها لا يُذكر كثيرًا في مسار العلاقات الدولية، لكن في الحقيقة يُشار إليها على أنها من أقوى حلفاء "إسرائيل" في منطقة آسيا الوسطى، إنها أذربيجان التي زار رئيس أركانها الجنرال نجم الدين صادِقوف، الأربعاء، 24 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، "إسرائيل"، للقاء نظيره الإسرائيلي، بغية توطيد العلاقات العسكرية.
وترمي الزيارة التي تُعدّ الأولى من نوعها، إلى عقد عدة صفقات أمنية بين البلدين، ومنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، تم توقيع العديد من الصفقات التي شملت تزويد "إسرائيل" لأذربيجان بوسائل قتالية بلغت كلفتها مئات ملايين الدولارات حتى يومنا هذا، ومما شملته هذه الصفقات طائرات بدون طيار.
وفي هذا السياق، يبدو أن التساؤل المطروح هو: ما السر وراء تقارب البلدين بهذا الشكل؟ تتعدد العوامل التي تجمع بين الطرفين، غير أن العوامل أدناه قد تكون الأساسية في توضيح سر التقارب بينهما:
علاقات متبادلة الاعتمادية
إن طبيعة العلاقات الدولية تقوم على علاقات دبلوماسية سياسية تنشأ من التنوع في القدرات والحاجة لتبادل هذه القدرات وفقًا لاحتياجات المصلحة القومية، ويكمن في جوهر العلاقات السياسة النفع والمصلحة، وبهذا الجوهر يظهر للسطح طابع الاعتمادية المُتبادلة التي تعني تقديم الدولة الأولى مصلحةً معينةً للدولة الثانية التي تُقدم للدولة الأولى مصلحةً مختلفة.
ومن هذا المُنطلق، تُغطي "إسرائيل" 40% من حاجتها للنفط عبر استيراده من أذربيجان، أما الأخيرة فتحتاج إلى التقنية الإسرائيلية العسكرية المُتقدمة لمواجهة التحديات الجيوسياسية القادمة من أرمينيا التي تحتل جزءًا من أراضيها ومن دول آسيا الوسطى الأخرى، حيث يختلف التوجه السياسي لأذربيجان عن هذه الدول، فهي قريبة إلى القطب الأمريكي، أما دول آسيا الوسطى فتناور ضمن المحور الروسي الصيني.
ميزان قوى متوازٍ
ضمن الحاجة المُتبادلة أيضًا، تحتاج أذربيجان إلى تقنية عسكرية متطورة، وتحتاج لدعمٍ إسرائيليٍ وأمريكيٍ، لمواجهة أرمينيا التي تتهمها أذربيجان بارتكاب جرائم فظيعة بحق المواطنين الأذريين العُزل في منطقة خوجالي عام 1992، وتتهمها أيضًا باحتلال إقليم قرة باغ، ولأن أرمينيا تُعدّ حليفًا وثيقًا ومُخلصًا لروسيا، فإن أذربيجان بحاجةٍ إلى قطبٍ منافسِ لروسيا، يدعمها في مواجهتها الأمنية والدبلوماسية والحقوقية لأرمينيا.
يُذكر أن أربيجان تُحاذي إيران ولا تربطهما علاقات وثيقة، ما يجعل "إسرائيل" تنظر إلى أذربيجان على أنها دولة يمكن التوافق والتحالف معها دبلوماسيًا واقتصاديًا وأمنيًا لمواجهة النفوذ الإيراني، وبتلك الاعتبارات الجيوسياسية والأمنية يجمع بين الطرفين علاقات وثيقة، تلك العلاقات التي دفعت "إسرائيل" إلى التراجع عن تلويحها بطرح "مذابح الأرمن" التي تدعي أرمينيا بأن الدولة العثمانية ارتكبتها بحق الأرمن بين عامي 1915 و1923، "للكنيست" للاعتراف بها.
إذ إن تحركها الأمني والجيوسياسي مع أذربيجان كان، على الأرجح، سيشهد انعكاسات سلبية، لا سيما في ظل وجود علاقات تاريخية و"عرقية" وأمنية واقتصادية مُشتركة بين أذربيجان وتركيا، أدت، في الغالب، لدفع "إسرائيل" لأخذها بعين الاعتبار.
وفي هذا الإطار لا يمكن إغفال العوامل الأخرى في دفع "إسرائيل" للتراجع، من قبيل تخوفها من اعتراف برلمانات الدول الأخرى بما تقوم به بحق الفلسطينيين كجرائم، وخشيتها من انزلاق علاقاتها المتدهورة أصلًا مع تركيا التي تربطها بها توجهات إستراتيجية لتوريد الغاز "الإسرائيلي" نحو أوروبا عبر الأراضي التركي، نحو المزيد من التدهور.
لكن يبدو أن الموقع الإستراتيجي لأذربيجان وحدودها الواسعة مع إيران، بالإضافة لنوعية العلاقة التي تربطها مع "إسرائيل"، أدى دورًا أساسيًا في دفع "إسرائيل" للتراجع، حرصًا على سلامة هذه العلاقات ذات الصبغة الإستراتيجية.
توجه إستراتيجي ضمن سياسات الولايات المتحدة
كما سلف ذكره، ترتبط أذربيجان بالولايات المتحدة و"إسرائيل" انطلاقًا من حاجتها لظهير دولي يدعمها في مواجهتها لأرمينيا، غير أن للتوجه الإستراتيجي الأمريكي حيال المنطقة أيضًا دورًا كبيرًا في انجذاب الولايات المتحدة نحو أذربيجان، ولعل زيارة مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي جون بولتون، السبت المنصرم، 27 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، لموسكو، ومنها مباشرة إلى جنوب القوقاز التي جاءت على رأسها أذربيجان، تعكس معلم مهم للتوجه الإستراتيجي لتعزيز العلاقات مع هذه الدول.
ويتأكد هذا التوجه عند النظر إلى مضمون المواضيع التي تم مناقشتها مع الجانب الأذربيجاني، حيث تم تباحث قضايا الأمن الإقليمي وتوريدات الغاز لحلفاء أمريكا الأوروبيين، سعيًا لإيصال الغاز الأذربيجاني إلى نقطة توفير بديل للأوروبيين عن الغاز الروسي.
والجدير بالذكر أن واشنطن أبدت دعمها الكبير لمشروع بناء "الممر الجنوبي" لنقل الغاز الطبيعي من حقل شاه دنيز "بحر قزوين" 2 الأذربيجاني، وينطلق خط نقل الغاز من أذربيجان، مرورًا بجورجيا، ملتقيًا في تركيا بخط أنبوب الغاز الطبيعي العابر للأناضول "تاناب"، ومنها إلى جنوب أوروبا، وتحديدًا إيطاليا، ويُعدّ هذا المشروع المنافس الأساسي لمشروع السيل الشمالي ـ 2 الروسي.
ولعل هذه الميزات الاقتصادية، ما يجعل الولايات المتحدة تولي أهميةً للحفاظ على مستوى جيد من العلاقات مع أذربيجان، ويجعلها تتوسط دومًا لتهدئة الأوضاع بين أذربيجان وأرمينيا، حرصًا على عدم تعريض المشاريع الجيواقصادية الإستراتيجية لأي تهديد أمني، وتُشجع هذه الإستراتيجية المدعومة أمريكيًا، "إسرائيل" للتقارب من تركيا وأذربيجان، في سبيل النظر لنقل غازها الطبيعي للأوروبيين، عبر ذات الخط.
وإلى جانب التوجه الطاقوي، تجدر الإشارة إلى أن إقناع الولايات المتحدة لأذربيجان بلانضمام للعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، يضمن لها نجاعة تحركها نحو الضغط على إيران عبر هذه العقوبات، وذلك لأن أذربيجان تمتلك حدودًا كبيرة مع إيران، ويجمعها بعض المشاورات المُتعلقة بإنشاء مشاريع نقل الغاز الطبيعي لأوروبا، ما يعني تعطيل أو تأجيل أذربيجان لهذه المشاورات، بضغطٍ أمريكي، سيكفل فرصة كبيرة لخروج العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران بنتائج إيجابية.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية الحاليّة تستند إلى إستراتيجية "العصا الغليظة" التي تعني تأسيس قواعد جغرافية تضمن إمكان التدخل الظرفي والجزئي المبني على التعاون التكاملي مع الدول الحليفة لتشكيل "أحزمة أمنية" تُساهم في احتواء وتطويق الطرف المُنافس أو الغريم، الذي يُعدّ في هذه المعادلة إيران وروسيا، وهذا ما يدفعها، على الأرجح، صوب تأسيس ركائز تعاون وطيدة مع دول جنوب القوقاز، وعلى رأسها أذربيجان.
وعليه، عند وضع متانة الروابط بين الولايات المتحدة وأذربيجان من جهة، والولايات المتحدة وجورجيا التي تعتبر شريكًا أساسيًا للولايات المتحدة وحلف "الناتو" في المنطقة، بعين الاعتبار، يُفهم سبب تقارب أذربيجان و"إسرائيل" الوثيق، على أنه نابعٌ من اشتراكهما التوجه الإستراتيجي ضمن القطب الغربي.
في الختام، ترتبط الدول على الساحة الدولية بمنافع وتوجهات مُتبادلة تُحدد مدى متانة أو ركاكة علاقاتهما، فكلما زاد حجم المنافع المُتبادلة، ازدادت هذه العلاقة متانةً وإستراتيجيةً، وهذا هو سر التقارب بين أذربيجان و"إسرائيل"، حيث تربطهما العديد من المنافع والتوجهات المتبادلة المشتركة.
* باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية