2024-11-28 01:33 ص

شيوخ في مخاض السياسة: هكذا وظفت المملكة الدين لتبرير قتل خاشقجي

2018-10-29
توظيف الدين لأغراض سياسية هو الأسلوب المفضل لدى المملكة العربية السعودية في إدارة الأزمات، تجلى ذلك في منع القطريين من إداء فريضة الحج بسبب الحصار المفروض على بلادهم، ويتجلى الآن بأشكال متعددة في الأزمة التي فجرها اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول يوم 2 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ.

ومنذ اعتراف السعودية بقتل الصحفي جمال خاشقجي، داخل قنصليتها بتركيا، تهاطلت الفتاوى من شيوخ بلاطها الذين سارعوا لتوظيف ترسانتهم الدينية لتبرير القتل وتبرئة النظام السعودي من دم الضحية، وهو ما حرص محمد بن سلمان، على تنظيم خيوطه المتناثرة، حيث لم يقبل منهم انزواءً أو سكوتًا، فإما أن تُغرد لي، أو تجد نفسك داخل السجون، وقد يعتمد توظيف الدين في قضية خاشقجي على 3 وسائل أساسية:

الوسيلة الأولى: توظيف المنابر لخدمة السياسة.. منبر الحرم في المقدمة

يتم ذلك بجعل رجال الدين المشهورين أبواقًا للنظام السياسي وخياراته التي لا علاقة لها بالعقيدة الإسلامية، فيتحول الخطاب الديني من وظيفته الدعوية إلى الدعاية السياسية الفجة، وليس أدل على ذلك مما يفعله الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس من على منبر الحرم المكي.

كان خطاب السديس المسيّس حاضرًا - كعادته - في قضية اغتيال خاشقجي، ومع تزايد الأدلة التي تؤكد "تورط" ابن سلمان في مقتل خاشقجي داخل القنصلية، وقف عبد الرحمن السديس من فوق منبر المسجد الحرام يؤيد قرارات ولي الأمر الحكيمة، ويبرئه بشكل غير مباشر من دم خاشقجي، قائلاً: "مسيرة التجديد برعاية ولاة أمرها الميامين، وحرص واهتمام الشاب الطموح المحدّث الملهم ولي عهد هذه البلاد المحروسة، ماضية في رؤيته التجديدية الصائبة، ونظرته التحديثية الثاقبة رغم التهديدات والضغوطات".  
واصل السديس - الذي يتولى منصب وزير شؤون الحرمين - تصريحاته، فيما يتصل بقضية خاشقجي، وخرج مشيدًا بنهج المملكة في تحكيم الشريعة وتحقيق العدالة ومحاسبة كل من يثبت مخالفته للشريعة بإشراف الملك سلمان وولي عهده، وذلك في بيان نقله موقع "الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي"، وهو ما استنكره عدد من الدعاة والعلماء حول العالم منهم الشيخ التونسي بشير بن حسن، الذي وصف تصريحات السديس بأنها تجارة بالدين من فوق منبر الحرم لخدمة سيده. 
ليست هذه الحادثة الأولى للسديس، فخطابه المسيس حاضر دومًا في كل مشهد يمس ولاة الأمر، من انقلاب مصر الذي أشاد فيه بدور المملكة إلى حصار قطرالذي توعد فيه كل من تعاون مع ما أسماها بالفئة الضالة الإرهابية، فزادت مواقفه من تزايد حضوره في الفضاء الديني، خاصة بعدما زاد توظيفه السياسي لمنبر الحرم بعدما تم اعتقال شيخ الحرم صالح آل طالب في موسم الحج السابق.   

في هذا الصدد، قال الإمام النووي في آخر الباب الأول من كتاب الجمعة: "يكره في الخطبة أمور ابتدعها الجهلة، منها: المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم"، "ومن صفات علماء الآخرة - بحسب قول ابن الجوزي - أن يكونوا منقبضين عن السلاطين، محترزين عن مخالطتهم".

مقابل هذا القول، تنطلق خطب السديس المنبرية بمثابة بيان سياسي يشيد بآل سعود ويشيد بمواقفهم السياسية، ويدعو للملك وولي عهده وإنجازاته، ما يعني أن السديس ليس مجرد داعية، وإنما متحدث ديني باسم المملكة، ولسان ديني مُعبر عن ولي الأمر، وهو ما مكنه لأن يكون وزير شؤون الحرمين وتصبح له الكلمة العليا في سياسة الحرم وتوجيهاته ما دام في خدمة آل سعود.

الوسيلة الثانية: التبرير الإلكتروني والإعلامي

يضطلع بهذه المهمة الدعاة في تغريداتهم التي لا تختلف في شيء عما يفعله "الذباب الإلكتروني" في دفاعه "الأعمي" عن كل ما يصدر عن القصر الملكي، فإلى جانب هذا الذباب المنظم، هناك تنظيم آخر على مستوى شيوخ السلطة الجاهزين للقيام بهذا الدور وبوسعهم أن يوظفوا وقائع تاريخية لإضفاء مشروعية دينية على ما يحدث راهنًا.  

هذا ما فعله الشيخ صالح المغامسي على موقع إعلان الولاء المفضل لدى المشايخ الدينيين السعوديين "تويتر"، تعليقًا على تصريحات محمد بن سلمان لـ"وكالة بلومبيرغ"، التي نفى فيها اختطاف أو قتل خاشقجي في مبنى قنصلية بلاده، ففي الـ4 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ غرد صالح معبرًا عن ثقته في القائم على أمور الدولة والاعتزاز بالدِين، وختم تغريدته "سلمّك الله يا أبا سلمان".
لكن ثقة المغامسي في قادته لم تلبث طويلاً، فقد اضطرت المملكة إلى الاعتراف الرسمي بمقتل خاشقجي في رواية "هزيلة" لم يصدقها أحد، ما اضطره إلى الحديث للناس بأن يصبروا ويثقوا في القيادة، وإن ضربت ظهورهم وأخذت أموالهم وقتل المعارضون داخل قنصليات بلادهم.

دارت بوصلة الداعية البكاء - كما يصفه البعض - مع السلطة حيث دارت الروايات السعودية، ما اضطره للتبرير، فغيَّر وجهة الحديث أكثر من مرة، وتعليقًا على البيان السعودي الرسمي، الذي ينحو فيه منحى التبرير، قال المغامسي في حديثه لقناة "العربية" السعودية: "محمد بن سلمان لم يأمر بقتله، وإنما أراد من بعض رجاله احتجاز خاشقجي ومفاوضته للرجوع إلى بلده".  


ظلت بوصلة المغامسي نحو قبلة السلطة تسبح بحمدها، فلم يكتف بهذا الحد، وإنما واصل تبريره لقتلة خاشقجي باستدعاء التاريخ، واستشهد بحادثة قتل الصحابي خالد بن الوليد لمالك بن نويرة خلال حروب الردة، ظنًا منه أنه يستحق القتل، رغم عدم وجود أمر من الخليفة بقتله، وذلك ينطبق على خاشقجي حين قُتل دون أمر من القيادة السياسية.

توصيف المغامسي للجريمة بالقتل الخطأ هي محاولة لفتح باب العفو عن القتلة، بحسب الباحث الإسلامي عصام تليمة في مقال له، فقد حاول المغامسي الاستدلال لرأيه، بأن جريمة قتل خاشقجي خطأ وارد، لكنه وقع في أخطاء كبيرة، منها أن خالد بن الوليد كان في حالة حرب، وهو القائد العام للجيش وقتها، كما يخلط المغامسي بين أحكام الحرب وأحكام السلم، بحسب تليمة.


ربما حادثة خاشقجي تمثل الصورة الأحدث في استدعائها لسياق تعامل المغامسي مع سلطة بلاده، لكن الحال بين التبرير للحاكم والمغامسي ممتد، فالمغامسي لا تفوته مناسبة إلا وحرص على إظهار طاعته لولي الأمر وفطنة ولي العهد، واصفًا أفعاله مع أزمة خاشقجي في تغريدة له، بالبصيرة والحكمة من الانزلاق إلى مهاترات يحب أعداؤه جره إليها، وهو السياق الذي سار عليه المغامسي مسبقًا في كونه الزائر الديني الدائم للشؤون المعنوية للجنود في عاصفة الحزم.

الوسيلة الثالثة: الخلط المتعمد بين الدفاع عن الوطن ونصرة أولي الأمر  

حَرص بعض الدعاة على التبرير الدائم والمطلق لأفعال المملكة وسياسة ابن سلمان مهما بلغت، ومع اعتراف السلطات السعودية بمقتل خاشقجي داخل القتصلية، نتيجة لشجار حدث بينه وبين الفريق الأمني الذي جاء ليفاوضه على العودة، تزاحم رجال الدين للدفاع عن هذه الرواية، داعين العامة لقبول تقدير ولي الأمر "الملهم" للأمر.

وبعد تصاعد الاتهامات عن إصدار ابن سلمان أوامر بتصفية خاشقجي، شارك الشيخ محمد العريفي في هاشتاغ "كلنا ثقة في محمد بن سلمان"، ولم يكتف العريفي بتأييد سياسات المملكة الجديدة المتمثلة في ابن سلمان، وإنما تبعها الحفاوة بولي العهد، إذ نشر العريفي صورته برفقة ابن سلمان على حسابه مثنيًا عليه شاكرًا له.

أما الشيخ عائض القرني فلم يترك شاردة ولا واردة إلا دخل بها على ملوك آل سعود، فبعد اعتراف السعودية بمقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصليتها كتب القرني مقالاً بموقع "المواطن" بعنوان "خيانة الوطن جريمة كبرى والتنكر لحقه رذالة ونذالة"، يستنكر فيه ما يتعرض له ولاة الأمر من مؤامرات، ويدعو فيه لقادة المملكة.


ولم يرسل القرني الداعية والشاعر الفصيح في حادثة مقتل خاشقجي برقية تعزية لأهله ولا طالب بإظهار الحقيقة، وإنما أعاد القرني في تاريخ 15 من أكتوبر/تشرين الأول نشر شعره في التغزل بابن سلمان، الذي شاركه في هاشتاج "كلنا ثقة في محمد بن سلمان" الذي كتبه له في 24 من سبتمبر/أيلول 2018، وهو التاريخ الذي يوافق ذكرى اعتقال ابن سلمان لرفاقه القدامى أيام الصحوة، في اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017.

ليست مواقف القرني والعريفي مستحدثة، فهي تسير باضطراد منتظم لا نشاز فيه، وتجعل من الولاء لابن سلمان منذ بات وليًا للعهد خطًا لا حياد عنه، فالعريفي في نسخته الأخيرة لا يترك فرصة إلا تقرب بها إلى ولي العهد، ففي حصار قطر كتب العريفي داعيًا السعوديين للوقوف خلف القيادة وعدم التهاون أو المساومة في دعم الملك وولي عهده. 

ما القرني في نسخته الأخيرة فقد انقلب القرني بعد اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017 على رفاقه القدامى، مشيدًا بما صنعه ابن سلمان، وواصفًا من اعتقلهم بـ"الخلايا الاستخباراتية"، وشارك  القرني في هاشتاغ "إلا السعودية"، ووصف "رؤية 2030" التي أطلقها ابن سلمان بأنها "طريق السعودية لتكون الدولة العظمى بقيادة سلمان الحزم ومحمد العزم"، وهنا تكمن المفارقة في سرعة تقلب القرني، لكنه تقلب منتظم كذلك باتجاه السلطة.

هكذا يتناوب الدعاة والمشايخ الذين اختاروا الالتفاف حول ولي العهد محمد بن سلمان، على إصدار فتاوى تتعارض مع الحد الأدنى للعقل، فقد حرص ولي العهد على إبقاء عدد من المشايخ خارج سجونه لاستخدامهم كأحد الأدوات الفاعلة في تبرير التغييرات، لذلك، لا يُقصي ابن سلمان البعد الديني من صورة الدولة، لكنه يعيد تشذيبه وتوظيفه بما يتوافق مع التغييرات الحديثة.

ويعتبر مراقبون أن هؤلاء المشايخ الذين كانوا من أبرز علماء الوهابية، اقتصر دورهم بعد مسك ابن سلمان مقاليد السلطة وزمام الحكم على الإفتاء لصالح جور السلطان، وتصدر عنهم بين الفينة والفينة كيلا من المديح والغزل، اعتقادًا منهم أن ذلك سيمنع التفاف "الحبل السلماني" على أعناقهم.
نون بوست