كان الحج قديمًا رحلة طويلة تستغرق شهورًا وتحفّها المخاطر، إذ لم يكن السبيل إليه مالًا فقط كما هو اليوم على الأغلب، بل كانت مخاطرة كبيرة قد تنتهي بالضياع في الصحراء أو الموت عطشًا، بسبب عدم وجود مياه عذبة في طرق القوافل، مما جعل الحكام والأمراء على مر العصور، يحرصون على حفر الآبار في طريق الحجاج، لكن الخطر الأكبر الذي كان يترصد الحجاج، كان قطاع الطريق الذين يقعدون لهم في الطرق من أجل نهب أمتعتهم.
وارتبط موسم الحج بتجهيزات وعادات واحتفالات وطقوس، وفرحة حقيقية بعودة الحجاج سالمين إلى ديارهم بعد طول غياب، وفي مثل هذه الأيام كانت العادة أن يكون الحجاج قد قطعوا نصف الطريق تقريبًا إلى الأراضي المقدسة، فيما لا تزال الرحلة أمامهم طويلة والشوق كبير إلى بيت الله الحرام.
قوافل الحج.. المحمل الشريف والصرة الهمايونية والسنجق
كانت الدولة العثمانية تولي اهتمامًا كبيرًا للإشراف على الحج وتيسير الطرق إليه، فنظمت القوافل وأقامت الحصون وحفرت الآبار وبنت الخانات على طول الطرق، وكانت أيضًا تشرف على قوافل الحج الرئيسية التي تخرج من مختلف أنحاء الدولة كل عام وتخصص لها الحراس، وتعين على كل قافلة أميرًا للحج يشرف على شؤونها، ويتولى أحيانًا قيادة الجيش المرافق لحراسة القافلة.
وكان الولاة يتعاقدون على استئجار الجمال والخيول، من مشايخ الأعراب والبدو قبل موسم الحج، وكانت القافلة تجمع الحجاج من مختلف الطبقات؛ الأمراء والأثرياء والتجار والفقراء، الأثرياء تحملهم هوادج الجِمال والخيول، بينما الفقراء والمعدمون يقطعون الطريق مشيًا.
وفي أثناء عبورها بين الولايات؛ كانت القافلة وعلى رأسها أمير الحج الخاص بها، تلقى ترحيبًا وحفاوة من الأهالي والمسؤولين في الدولة، الذين يسلمون أمير الحج أموال الأوقاف والهدايا المرسلة إلى الحرمين الشريفين، وإلى أهالي الحرم أيضًا، إذ كانوا يحملون إليهم التحَف والمصابيح والشمعدانات والمواد الغذائية.
وكانت الدولة العثمانية تقيم الحصون والقلاع والمخافر، على طول الطرق لحماية الحجاج من اللصوص، إذ دأبت العادة أن تنطلق القافلة من إسطنبول ومعها الصرّة الهمايونية، والتي تتكون من هدايا سلطانية متميزة تُوزّع على أهل المدينة وأشرافها، وكان يتقدم موكب الحج؛ المحمل الشريف (مجسّم للكعبة المشرفة على مخمل أسود) موضوعًا على ظهر بعير، فيما يرافقه على ناقة أخرى، السنجق (علم رسول الله).
وكانت العادة أيضًا، أن تخرج من قصر السلطان «صُرَّة آلايي»، وهي قوات تُعدّ للاحتفال بخروج المحمل وموكب الحج من أمام القصر السلطاني، وحتى عام 1864م كانت الصرّة تسير برًا بالجمال والبغال والخيول، وبعدها صارت تُرسل عبر السفن الحربية، إلى بيروت أو السويس ومنها إلى جدة أو ينبع، ثم تكمل رحلتها إلى مكة.
قوافل الحجاج.. مني السلام للنبي الهادي
كانت أهم قوافل الحج في العهد العثماني هي قافلة الحج الشامي، التي تخرج من إسطنبول مصطحبة الحجاج من المدينة، وتمر عبر الطريق التجاري، لتصطحب حجاج بلاد الشام والجزيرة وأذربيجان والقوقاز والقرم والأناضول والبلقان، وكان عددها يتراوح ما بين 30 و50 ألفًا.
وكان السلطان العثماني يشرف على إعداد هذه القافلة بنفسه، إلى أن تصل إلى حدود الولاية التالية، فيستقبلها الوالي ويؤمن طريقها ويودعها إلى حدود الولاية الأخرى.
قافلة الحج المصري، كانت إحدى أكبر القوافل أيضًا، وتضم حجاج مصر وشمال إفريقيا، وتحمل معها المحمل المصري وكسوة الكعبة المشرفة الجديدة، وكانت القافلة تنطلق من مصر في الأسبوع الأخير من شهر شوال، وسط احتفالات كبيرة ثم تلتقي في طريقها بقوافل الحج الشامي، فيما كانت قافلة الحج العراقي تضم حجاج العراق وفارس، وتضم قافلة الحج اليمني حجاج اليمن والهند وماليزيا وإندونيسيا.
وكانت طرق الحج التي تؤم مكة، سبعة طرق من جميع أنحاء العالم الإسلامي، أهمها الطريق السلطاني (الرئيسي)، أما أماكن توقف القوافل، فيحددها الحمّالة على أساس وجود آبار فيها للتزود بالمياه والاستراحة، وكان هناك طريق فرعي آخر يقطع الطريق في وقت أقصر، لكنه طريق جبلي وعر يصعب على الجِمال السير فيه خاصة وهي محملة بأشياء ثقيلة، فضلًا عن أن كثرة الجبال فيه تجعله مرتعًا لقطاع الطرق، ولهذا كان الجمّالة يفضلون الابتعاد عنه، لكن قِصرَه بالنسبة للطريق الرئيسي جعله معبرًا للمشاة، ولمن يركبون الخيول، وكان فرسان الخيالة والهجانة التابعين للدولة العثمانية يسلكونه لحفظ الأمن وحماية مكة المكرمة والمدينة المنورة.
أهازيج وداع الحجاج.. «الشوق أقلقني وصوت الحادي»
كانت الأفراح تبدأ في منزل الحاج منذ اختياره في قرعة الحج، إذ يستمر الغناء بالدفوف والزغاريد كل يوم حتى موعد مغادرته إلى الأراضى الحجازية، ومع الأفراح تبدأ الاستعدادت للرحلة الطويلة بتجهيز الملابس، وإعداد الأطعمة الجافة التي سيحملها معه؛ ومنها «الدقة» المصنوعة من السمسم المحمص، والملوخية اليابسة، والخبز الشمسي المحمص، والجبن القريش وكل الأطعمة التي يمكن حفظها لفترة طويلة.
والتراث الشفهى المصري مليء بالأغانى والأناشيد التي يودع بها الناس الحجاج ويستقبلونهم بها، وتعبر عن فرحهم بالحجاج واشتياقهم إلى البيت الحرام، فعلى سبيل المثال، تغني النساء في مناطق الصعيد أثناء إعداد المؤونة ويقلن: «طرف شال الحجيج أبيض من العلامة/ وأبيض من لبن الحليب يا حاج يوم السلامة/ طرف شال الحجيج أبيض من القلوع/ وأبيض من لبن الحليب يا حاج يوم الرجوع».
الاحتفال بمحمل كسوة الكعبة
كانت كسوة الكعبة من أشهر العادات السنوية التي يتقاتل الحكام والسلاطين المسلمون على نيل شرفها، وكان موكب المحمل الذي يحمل كسوة الكعبة والهدايا يصل إلى مكة المكرمة برًا من مصر، ويدخل وسط احتفال شعبي ورسمي كبير، يتجمّع حوله الأهالي والناس ويطوفون الأحياء حتى يصلوا به إلى دار كبير آل الشيبي، سادن الكعبة المشرفة، فيتسلم الكسوة الجديدة استعدادًا لتغييرها في مراسيم تقليدية رسمية، وبحضور الحاكم وأعيان وسادات مكة المكرمة، ويسلّم الكسوة القديمة إلى أمير المحمل الذي ينقلها إلى مصر أو الشام أو إسطنبول.
كان للمحمل ستر من الديباج الأسود، مزخرف بسلوك الذهب والفضة والحرير الأخضر والأحمر، وقد بدأ الاحتفال به في عهد السلطان بيبرس، وخُصصت في حي الخرنفش بالقاهرة دار لصناعة الكسوة، وكان تسليمها يجري وسط احتفال سنوي كبير يشارك فيه رجال الدولة ويحملها موكب يسير في حراسة الجنود، من ميدان القلعة حتى تلتقي باقي المحامل المغربية والجزائرية والتونسية، بعد أن تشارك في الاحتفال الذي يتضمن قراءة القرآن والإنشاد، ثم يمشي الموكب إلى منطقة العباسية، بصحبة رجال الدولة والجماهير والحرس يتقدمهم مأمور الكسوة، استعدادًا للرحيل نحو مكة المكرمة.
يُقال إن سيدنا إسماعيل عليه السلام كان أول من كسا الكعبة المشرفة، وفي حجة الوداع كساها رسول الله من بيت المال بالثياب اليمانية، وكساها بعد ذلك الخليفة عمر بن الخطاب بالقباطي الأبيض المصري، وفي عهد معاوية بن أبي سفيان كان للكعبة كسوتين مرة في الحج وأخرى في شهر رجب وكانت تُطيب بالأطياب، وفي العصر العباسي كانت الكسوة تُصنع من أجود أنواع الحرير والديباج، وفي نهاية العصر العباسي كانت الكسوة تأتي من بعض ملوك الهند وفارس واليمن.
وحرص الفاطميون في مصر على إرسال كسوة الكعبة كل عام، وخلفهم في ذلك المماليك الذين حرصوا طوال عهدهم على ألا ينتزع منهم أحد شرف الكسوة، وبقيت مصر ترسل الكسوة بانتظام لم ينقطع إلا لست سنوات؛ في عهد محمد علي باشا بسبب الصدام بين الوهابيين وبعثة الحج المصرية، وظلت دار الكسوة بحي الخرنفش بالقاهرة التي تأسست عام 1233م تقوم بعملها حتى 1962م عندما أعلن الملك عبدالعزيز أن المملكة ستنال شرف صناعة الكسوة.
مكة في موسم الحج.. خالية من رجالها إلا «قيسًا»
كان أهل مكة جميعًا ينذرون أنفسهم لخدمة حجاج بيت الله الحرام، إذ كان جميع الرجال وحتى الأولاد ينتقلون قبل الحج إلى المشاعر المقدسة، فينصبون الخيام ويوفرون أماكن بيع الطعام والشراب، ومواقع ذبح الأضاحي وكل ما من شأنه توفير الراحة للحجاج، لذا كانت مكة تبقى دون رجالها، مما يجعل النساء والأطفال عرضة لخطر السرقة أو الاعتداء، فكن يتجمعن للاحتفال في الشوارع والأحواش يرقصن على الدفوف.
كان بقاء الرجال في مكة في مثل تلك هذه الأيام أمرًا معيبًا، إذ كيف يتقاعس أحد عن خدمة حجاج بيت الله، وكان يُطلق على الرجل الذي لا يخرج لخدمة الحجاج «قيس»،في إشارة إلى قيس بن الملوح، الذي قيل إنه تخلف عن الحج ليبقى بالقرب من ليلى، وكانت النساء يرتدين ملابس تنكرية وما إن يرين أحد الرجال حتى يطاردنه ويرددن الأهزوجة:يا قيس يا قيس الناس حاجة وأنت هنا ليش
أما في يوم عرفة وبينما يخلو الحرم من الحجاج؛ لتواجدهم في صعيد عرفات، اعتاد أهل مكة في الماضي أن يذهبوا إلى الحرم ومعهم سلال القهوة والمخبوزات، فيما يسمى «يوم الخليف»، إذ يطيب لهم الدعاء والتعبد في الحرم في يوم لا يبدو أن أحدًا يزوره إلا أهل مكة.
كان لأهل مكة والمدينة طقوس خاصة فيما بينهما؛ إذ اعتاد أهل المدينة استقبال وفد من مكة، لزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، في بداية العام الهجري وفي ذكرى الإسراء والمعراج ويقومون بواجب ضيافتهم.
عسى عسى في كل يوم نوقف على باب السلام
ونشاهد البدر التمام شفيعنا يوم الزحام
*من تراث أهل مكة
وفي موسم الحج، يرد أهل مكة الجميل، إذ يقدم وفد من المدينة للحج، فيقيم في ضيافة أهل مكة الذين يستقبلونهم قائلين: «يا أهل طيبة حيّا الله مقدمكم / لمكة الخير أحبابًا وإخوانًا»، فيردّ منشد الركب المدني: «يا أهل مكة ما هذا الندى العطر / وها هو البيت والأركان تزدهر».
عادات استقبال العائدين من الحج حول العالم
حين ينتهي موسم الحج، ومن أجل استقبال الحاج؛ يزيّن أهله جدار منزله بجداريات ورسوم تعرّف كل من يمر أن واحدًا من أهل المنزل قد نال شرف الحج وزيارة البيت الحرام، فتصور الجدارايات، الحاج وهو يطوف بالحرم، أو يقف بعرفات، وتُكتب عبارات مثل: «حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور»، و«أهلًا وسهلًا بحجاج بيت الله الحرام»، ويجامله الجيران لدى وصوله بتوزيع الحلوى والشربات، ويكتسب الحاج توقيرًا في قريته ويُعامل باحترام ويُقدم في المناسبات المختلفة ويصبح لقب «الحاج» جزءًا من هويته.
أما في مكة، فكانت هناك عادة خاصة بالطفل الذي يحجّ لأول مرة، وهي عادة «السرارة»، إذ يجتمع أهله وسط الخيمة، ويمسكون بملاءة بيضاء كبيرة يملؤونها بالمكسرات والحلاوة، والقطع المعدنية المصنوعة من الفضة، ثم تُشدّ الملاءة بقوة ويقف تحتها الطفل، ويغني له الجميع وسط الزغاريد ثم توزع محتويات الملاءة على الحاضرين، وعلى أهالي الخيام المجاورة.