2024-11-26 03:28 م

«دماء على الرداء الأبيض».. رزان النجار في رحلة إلى السماء برصاصات إسرائيلية

2018-06-04
في الآن ذاته الذي كان فيه المغيب يلملم شتات ألوانه،  ليوم الواحد من يونيو (حزيران) 2018، كانت مآذن مساجد غزة، تستعد لإعلان انتهاء نهار يوم 16 رمضان، حين أصابت نيران قوات الاحتلال الإسرائيلي، قدم شاب فلسطيني شرق محافظة خانيونس، خلال مشاركته في جمعة مسيرات العودة الكبرى العاشرة «من غزة إلى حيفا» كما أطلق عليها المنظمون، فيما كانت المسعفة رزان النجار، تقف حينها على بعد متر من السياج الفاصل تترقب بعيون يقظة كعادتها منذ 60 يومًا لتطوعها ضمن الطاقم الطبي على الحدود، وهي تبدل قفازاتها البيضاء التي امتلأت دمًا، حتى تفطنت حواسها إلى سقوط أحد المشاركين مصابًا أو شهيدًا؛ فتهرول إليه لانتشاله.

لما انفجر صوت المصاب، والتوت قدمه إلى جانبه، زفرت رزان التي ترتدي رداءها الطبي أنفاسها،  ورفعت يديها البيضاء إلى الجنود المتمترسين خلف كثبان الرمل، محاذاة السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وجعلت تتقدم بخطوات بطيئة تارة وتلوح بيديها وتعجل مشيتها تارة أخرى، لضمان عدم إطلاق النار عليها.

كانت رزان تتقدم الفريق المسعف المكون من أربعة أشخاص، يفصلها الآن بضعة أذرع عن المصاب الذي يتقطر دمه رويدًا رويدًا على الأرض، في هذه المسافة، صرخت رزان «يلا يا شباب.. رح يموت المصاب» وهمت تهرول، مشجعة الفريق الذي تقوده، تسارعت أنفاسها، وهي تحجل بين الأشواك، تشق ضباب الغاز السام الذي يغطي المنطقة، دون تريث.

وفي هذه اللحظة، كانت أصابع الجندي الإسرائيلي، تضيق بهدوء على زناد القناصة، وهو يعدل مهدافه نحو صاحبة الرداء الأبيض، ولما اقتربت المسعفة رزان بخطوات من الجريح، انفصل دخان رصاصة عن البندقية، اخترقت أعلى صدر رزان وخرجت من ظهرها، صاح الفريق: «رزان» حتى أخمد مطر قنابل الغاز الذي أعقب رصاص القناصة أصواتهم.

تقدم الشبان المتظاهرون مرة واحدة نحو «ملاك الميدان» – كما لقبها المشاركون – الذي يلفظ آخر أنفاسه لإنقاذها، وكانت الفرق الطبية في المنطقة تخترقهم نحوها، ومرة ثانية، سيل من قنابل الغاز أطلقت جدائلها في السماء وزحفت نحو المسعفين والمشاركين الذين هبوا لإنقاذ رزان والجريح الذي افتدته بروحها وفريقها الذي وقع في حالة إغماء من كثافة الغاز.
«طعام الإفطار أحرقته النار»

لما وضِعت رزان بصدرها المفتت وردائها الممزق، على الشيالة التي انكب عليها الطاقم الطبي في تجربة إنقاذها، كانت عائلتها التي اعتادت الإفطار طوال شهر رمضان دون ابنتهم التي لا تغادر الميدان إلا في ساعة متأخرة من الليل، تحضر الإفطار، حتى وصل خبر إصابة رزان، فانطلقت العائلة إلى المشفى، وطعام الإفطار ظل يغلي على النار.

حين وصلت العائلة إلى باب المشفى، كانت المشاهد وحدها كفيلة بإخبارها الحقيقة، زملاء على جانبي الممرات يبكون بحناجر مجروحة، على وقع آذان المملكة المغربية الذي تصدح به المساجد القريبة، يواسي بعضهم الأخر، ومنهم من ألقى نفسه في زاوية منفردة بعيدة، يأكل حزنه لوحده، وفي غضون هذا الأسى الذي تضج بها الممرات، سألت على غير هدى الوالدة صبرين النجار 42 عام «رزان بنتي.. وينها؟ وينك يما»،  اصطخبت عيون الوالدة حزنًا، وضاق صدرها، لما التف حولها زملاء رزان يواسوها، ردت دون إدراك: «لا لا.. يا عالم بنتي وينها».

دخلت العائلة غرفة العمليات، حيث جثة الشهيدة الصائمة، مسجاة على السرير، يحاذيها بطاقة رداءها الملطخ بالدم، فهوى والداها على جسدها، تضرب أيديهم أجسادهم في لوعة، «رزان» تصيح الوالدة وتقطع حشرجتها باقي الكلام، والدها يمسح بيده الدم المتكتل على جرح ابنته، ويغطي به وجهه، الفعل ذاته كررته الوالدة، وأنزلت رأسه نحو صدر ابنتها، ثم رفعته وهمست في أذنها: «كنتِ دايمًا تقولي ما تخافي علي يما، انا بكون بأمان، هذا هو الأمان يا رزان.. هذا هو».

لما نقلت جثة الشهيدة إلى ثلاجات الموتى، حملت والدتها، معطف الدم والبطاقة التعريفية الطبية لابنتها، ارتكزت قليلًا إلى باب أحد الممرات، فأسندها مجموعة من زملاء ابنتها، مع عبارات مواسية، في أثناء ذلك امتدت زجاجة ماء إلى فم الوالدة، أدارت وجهها في الناحية الأخرى منها، ورفضت أن تكسر صيامها بعد «أن أفطرت على دم وردتي رزان» كما قالت.

«الرصاصة التي فرقت بين ملاكي الرحمة»

في الساحة الخارجية للمستشفى، فشلت كل عبارات المواساة في  تهدئة صرخات خطيب رزان عزت شتات – 24 عامًا – الذي يعيش حالة من الجنون، بفقدان خطيبته رزان، يحاول الجميع إسناده، فيتلوى على الأرض من بين أيديهم، وهو يصيح: «يا الله يا رزان.. ليش ما رجعتي، ليش، حكيتلك، ارجعي، يا الله».

كان الاثنان اللذان تعرفا على بعضهما خلال مشاركتهما على مدار شهرين في التغطية الطبية لمسيرات العودة على موعد مع الزفاف، بعد انتهاء شهر رمضان، حتى أفشلت القناصة الإسرائيلية كل الخطط التي وضعها الاثنان.