2024-11-24 06:07 م

هلاك برنارد لويس: المستشرق الصهيوني الاستخباري الأكثر تأثيرا في السياسات الأمريكية

2018-05-22
توفي المستشرق الجاسوس المحرض اليهودي الصهيوني، برنارد لويس، مخلَفا إرثا من التضليل والخبث الفكري والدسائس، ويرى فيه كثيرون أنه أحد أكثر المؤثرين في سياسات الهيمنة والسيطرة الأمريكية في عهد سطوة المحافظين الجدد وبعد الحرب العالمية الثانية دخل دائرة التجسس ضد العرب والمسلمين.

ربما بدأ برنارد لويس حياته دارسا لتاريخ العرب، ثم تحول إلى مستشرق صهيوني كاره لهم ومعاد وحاقد، وخصوصا منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، وتحديدا بعد حرب 67، وكان لا يرى بأن الحرية تصلح لهم، وأنه من الخطأ التعامل معهم على أنهم دول وإنما قبائل متنازعة متصارعة، هكذا كانوا وهكذا هم على مر العصور كما يزعم احتقارا وخبثا وتصهينا.

انضم لويس إلى الحركة الصهيونية وتبنى أحقادها وخبثها وترويجها للأساطير والروايات والقراءات المضللة، كان مولعا بلقاء القادة والزعماء والشخصيات البارزة، ويُعرف أنه احتقاره للعرب وما كان يرى لهم أي تأثير، هذا ما انتهى إليه رأيه بعد مرحلة التصهين التي استقر عليها منذ أواخر الستينيات وحتى وفاته.

في أوائل العام 1916 وُلد برنارد لويس في إنجلترا لعائلة يهودية أشكينازية من الطبقة الوسطى، وبدأت عليه ملامح حبه للغات والتاريخ، فاهتم في سن مبكرة، وتحديداً الحادية عشرة من عمره، بدراسة اللغتين العربية والعبرية، ثم الأرامية، ومنها انتقل إلى اليونانية والفارسية واللاتينية والتركية. ارتاد جامعة ويلسون والجامعة التقنية وتابع دراساته العليا في جامعات لندن وباريس. وعمل لمدة في وزارة الخارجية البريطانية في خلال الحرب العالمية الثانية في اللجنة العربية-البريطانية المشتركةـ وهي وكالة استعمارية تعمل على إضعاف العالم العربي والحفاظ على التفوق البريطاني عليه. درس لمدة ثلاث سنوات في كلية الدراسات الشرقية الأفريقية في جامعة لندن. انتقل في عام 1974 من جامعة لندن إلى جامعة برينستون.

يعتبر لويس من أكثر المؤرخين تأثيراً في السياسات الغربية والأمريكية، تحديدا، إذ تفرغ بعد الحرب العالمية الثانية لدراسة العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط. وتعتبر كتبه وأبحاثه ومقالاته مراجع لكل الراغبين في أوروبا وأمريكا بدراسة العالم الإسلامي والتاريخ العربي. وتعتبره المحافل العلمية الخبير المخضرم في تاريخ العالم الإسلامي، وخصوصاً الإيراني والتركي والعربي. كان رائداً في إجراء الأبحاث التخصيصية حول التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للعالم الإسلامي وأشرف بشكل معمق على أرشيف الإمبراطورية العثمانية وتاريخ آخر إمبراطورية إسلامية. لا يخشى أن يصور في كتبه التاريخ المتألق والغني للعالم الإسلامي قبل عصر الحداثة لكنه بأسلوب مهين وشيطنة ظريفة يحاول أن يروج أن هذه العظمة لم تأت من عقلانية الفلاسفة وعلماء العلوم الإسلامية الكبار بل ترجع لفترة في تاريخ الإسلام راجت فيها الحركات الصوفية وإتباع سلوك الدراويش

وعلى هذا، سعى برنارد لويس في ما كتبه إلى التركيز على جزء من تاريخ الإسلام الذي كانت تروج فيه أفكار الانزواء وممارسة الطقوس الصوفية والعرفان البعيد عن الاجتماع وعن السياسة. ولم يُخف لويس تأييده الواضح والصريح لكل الحملات الصليبية، ويرى أن الاعتذار عن هذه الحملات هو محض حماقة. وكان له أبحاث معمقة حول الفرق المختلفة في العالم الإسلامي. نال شهادة الدكتوراة على رسالته حول "ظهور الفرقة الإسماعيلية". ومن الموضوعات الأخرى التي جذبته كان الوضع التاريخي والاجتماعي لليهود في المجتمعات الإسلامية.

وبعد قيام الكيان الإسرائيلي الغاصب ركز مطالعاته وأبحاثه على التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلدان العربية التي كانت تخضع لسيطرة الإمبراطورية العثمانية. وأغلب هذه الأبحاث تمحورت حول كيفية سقوط وتفكك الإمبراطورية العثمانية.

وألف ثلاثة كتب تعتبر مراجع لكثير من الغربيين حول الإسلام والعرب: (العرب في التاريخ 1950 والشرق الأوسط والغرب 1964 والشرق الأوسط 1995). ترجمت هذه الكتب إلى أكثر من 20 لغة وهو ما جعل اسم برنارد لويس يلمع دون أي منازع له في المحافل الجامعية والبحثية الغربية بصفته الباحث الأول في تاريخ الإسلام والعرب.

وربما عرف برنارد لويس أكثر من أي شخص آخر تأثير الانشقاقات والتفرق في كيان الأمة الإسلامية، فانكب على توجيه صناع القرار في أمريكا، تحديدا، لتقسيم أهم منطقة في العالم "الشرق الأوسط"، كما أطلق عليها، مستفيدا من التجارب التاريخية في الانقسامات العقدية في العالم الإسلامي مع قصة تفكك الإمبراطوريات العظمى.

قام برنارد لويس في عام 1979 ولأول مرة في اجتماع لأعضاء "منظمة بيلدربرغ" في النمسا بالحديث عن مخططه، إذ شرح خطته حول تقسيم دول الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة يمكن إدارتها من قبل زعماء الاقتصاد والسياسة المشاركين في مؤتمر بيلدربرغ. يتضمن المخطط تقسيم دول الشرق الأوسط على أساس اللغة والعرق والمنطقة. ووفق هذا الطرح يتوجب على بريطانيا أن تدعم الأقليات القومية: الدروز في لبنان والبلوش، الأتراك والأكراد في إيران، العيسويون في أثيوبيا، الفرق الدينية في السودان، القبائل العربية في الدول العربية المختلفة، الأكراد في تركيا و…..لتتحول إلى دويلات صغيرة وضعيفة تتصارع مع بعضها البعض، بما يشغلها عن أي تفكير في بناء قوة ذاته مستقلة ومكتفية ذاتيا.

ولم يكن معنيا بالجوانب السياسية، فقط، في مخطط التقسيم هذا، بل ما هو أهم من ذلك، وهو السيطرة على جميع المناطق الغنية بالطاقة وآبار النفط. وبهذا يسهل للتخلص من احتمال وجود إمكانية لأن تشكل تهديداً في المستقبل.

ومنذ سنوات السبعينيات من القرن الماضي أقام برنارد لويس علاقات قوية مع المحافظين الجدد في أمريكا، حيث يعد من أهم وأبرز مستشاري وملهمي الرئيس بوش الأب وبوش الابن. فسوق الكثير من أفكاره وسمومه الأيدلوجية لحكومة بوش حول قضايا "الشرق الأوسط" والحرب على الإرهاب، حتى إنه اعتُبر منظر سياسات الهيمنة والتسلط والتدخل الأمريكية في المنطقة. كما شارك في التفكير الإستراتيجي لاحتلال العراق، ونقلت إحدى الصحف الأمريكية حضوره المكثف مع بوش وديك تشني في أعقاب أحداث سبتمبر، وعرض موضوع احتلال العراق من منظور "صراع الحضارات" و"الإرهاب الإسلامي".

***

وربما لم يحظ مستشرق بشهرة إعلامية واسعة في الغرب، تتردد أصداؤها في العالم كله، مثلما حظي برنارد لويس الذي يعدونه "عميد دراسات الشرق الأوسط، وحجة تاريخ الإسلام والعرب"، بل و"حكيم العصر"، وتتسع دائرة "الترويج له" في جميع أجهزة الإعلام الغربي المقروءة والمسموعة. ولكن رغم الشهرة الواسعة، لم يضف برنارد لويس في حقيقة الأمر إلى الدراسات التاريخية المتصلة بالإسلام والمسلمين سوى رسالته للدكتوراه عن "الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين"، وحتى هذه تجاوزتها بحوث العديد من المؤرخين في الغرب والشرق، وفقا لدارسين.

يعدَه بعض الدارسين الغربيين آخر ممثل للاستشراق الكلاسيكي بعد مكسيم رودنسون وكلود كاهين ولويس غارديه وسواهم، و يعتبر من بين أكثر الكتاب والمنظرين الغربيين قرباً من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، خصوصاً بعد أحداث سبتمبر 2001.

ولد لويس من أسرة يهودية في لندن، وفي عام 1936 تخرج في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في بريطانيا، وحصل على الدكتوراه من الكلية نفسها. ويُجيد لويس اللغات العبرية والآرامية والعربية واللاتينية واليونانية والفارسية والتركية، وكان إلى وقت قريب أستاذا فخريا لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون في الولايات المتحدة (حصل على الجنسية الأميركية عام 1982)، ويُذكر هنا أن الجامعات الأمريكية لها باع في استقدام المستشرقين لدعم الدراسات العربية والإسلامية لديها، ومن بين هؤلاء هاملتون جب الذي استقدمته جامعة هارفرد وغوستاف جرونبوم الذي دعته جامعة كاليفورنيا.

وكتب متابعون أن لويس ينتمي إلى الاستشراق الأمريكي الجديد الذي أحدث تحولا وظيفيا بانتقال المستشرق التقليدي إلى خبير ومستشار في مراكز البحث الأميركية التي ترسم السياسات الخارجية تجاه العالم العربي والإسلامي، إذ اعتمدت الإدارة الأميركية، خصوصاً في عهد جورج بوش الابن، على سموم بعض المناوئين للعرب والإسلام وفي طليعتهم مارتن كريمر (تلميذ لويس) وودانييل بايبس.

بعد حرب الأيام الستة كتب لويس أول مقال له حول الصراع العربي - الإسرائيلي واستنتج "أن الإنسان الذي يتمتع بإرادة طيبة من الصعب أن يكون معادياً لإسرائيل من دون أن يكون ضد العرب".

وموقفه من القدس موغل في أوحال التضليل، إذ إن كتاباته في هذا حاولت إقناع القارئ الغربي بأن الوجود الإسلامي في القدس وجود غير مشروع، فيه افتئات على المسيحيين واليهود، وأنهم مغتصبون لموقع المسجد الأقصى، واهتمامهم بالقدس اهتمام طارئ، ومن ثم يصبح تمسك الفلسطينيين بالقدس مجرد نكتة، وتعد على حق اليهود "التاريخي" في المدينة.

واشتدت الحاجة إلى أفكار وتنظيره بعد هجمات سبتمبر، والأطروحة الأساسية التي دافع عنها بثَها في كتابين: "ما الذي حصل؟ الإسلام، والغرب، والحداثة" (2002) و"أزمة الإسلام حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس" (2003).

ويعتقد لويس أن الإسلام يفتقر إلى النقد التاريخي للنصوص الدينية، كما حصل في المسيحية الغربية، وقد عمق فرضيته في كتابه المشار إليه سابقاً "أزمة الإسلام"، وهو لا ينكر وجود اتجاه عقلاني/ نقدي حين كان المسلمون في ذروة حضارتهم و"لا ريب في أنه وُجِد لاهوت عقلاني أو ليبرالي أيام المأمون والمعتزلة والفلاسفة وابن رشد، ولكنه ضمر ومات منذ زمن طويل، وانتصر عليه التيار الحَرْفي المتشدد منذ سبعمائة سنة على الأقل أي التيار المتمثل بالمذهب الحنبلي. وربما وجد اللاهوت الليبرالي أي التفسير العقلاني الحر للدين مستقبلاً في الإسلام كما حصل في المسيحية الأوروبية بعد عصر التنوير، أما الآن فلا يوجد شيء من هذا القبيل، وهذا الفهم الانغلاقي يتعارض كلياً مع الحداثة العلمية والفلسفية المعاصرة".

وتصدى كثيرون لضلالات لويس، ولعل أبرزهم المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد صاحب الأطروحة الشهيرة "الاستشراق"، وقد أحدثت أفكاره تأثيراً في مجمل الخطاب الاستشراقي الذي بدأ اليوم يندرج تحت مسمى دراسات الشرق الأوسط.

***

في سيرته الذاتية التي كتبها بالتعاون مع بنتزي إليس تشيرتشل، يشير المستشرق اليهودي البريطاني الأمريكي برنارد لويس إلى اهتمامه المبكر بالعالمين العربي والإسلامي، قائلاً في الصفحة الأولى من الكتاب: "على مدار حياتي المديدة كنت مهتماً بصورة أساسية بدراسة الشرق الأوسط. بدأ هذا الاهتمام عندما كنت طالباً صغيراً في المدرسة، وتعاظم منذ ذلك الوقت، وأصبح هوايةً في البداية، ثم نوعاً من الهوس، وأخيراً مهنةً. لقد حاولت منذ اللحظات الأولى أن أفهم المجتمعات من الداخل، من خلال تعلم لغاتها، وقراءة الكتابات [التي أنجزت في تلك المجتمعات]، والارتحال إلى بلدان هذه المجتمعات، والإصغاء إلى أهلها وتبادل الأحاديث معهم".

يؤكد الكلام السابق شغف لويس بالشرق، وسعيه منذ صباه إلى فهم الشرق اعتمادا على القراءة التاريخية. ولعل ذلك الشغف، وهذا الانشغال المستمر بالشرق على مدار عقود من الزمن، هو الذي وجهه لدراسة تاريخ الشرق الأدنى في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، حيث قام بتحضير رسالته عن الطائفة الإسماعيلية مع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في باريس، بعد أن أخبره أستاذه في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية المستشرق البريطاني، هاملتون غِب، أنه ليس مؤهلاً للإشراف عليه في الموضوع الذي اختاره، ونصحه بالتوجه إلى باريس. وكان الاثنان غِب وماسينيون، حسب لويس، مستشرقين بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، إذ إن اهتماماتهما لغوية وأدبية وثقافية ودينية.

اللافت للانتباه أن لويس يخلص من دراسته عن الحشاشين (الذين انبثقوا من بين غُلاة الشيعة، واتخذوا لأنفسهم مظهراً متطرفاً عنيفاً، مركزين على قتل المسلمين، خصوصاً الحكام والملوك والأمراء وقادة الجيوش ورجال الدين)، يخلص إلى القول إنهم يمثلون انحرافاً عن الإسلام السائد. "فالإسلام، مثله، مثل المسيحية أو اليهودية، دينٌ ينطوي على رسالة أخلاقية، والجريمة والابتزاز ليس لهما موضعٌ في معتقداته أو ممارساته". والاستنتاج السابق يتماشى مع كثير مما كتبه لويس عن الإسلام في كتبه وأعماله الموسوعية، وهي وجهة نظر سيتحول عنها المؤرخ البريطاني عندما يبدأ في توظيف معرفته لخدمة السلطة وتوجيه مشروع المحافظين الجدد إلى تفتيت العالم العربي وإعادة تشكيله على أسس عرقية وقومية ودينية ومذهبية.

ولعله يؤمن بتوظيف المعرفة في خدمة السلطة وغايات الإمبراطورية، وربما نجد أثر هذا في حديثه عن عمله في خلال سنوات الحرب العالمية الثانية في جهاز المخابرات البريطانية بدءاً من نهاية 1940 أو بداية عام 1941. فقد قضى سنوات الحرب يقوم بأعمال لا يستطيع، كما يقول و"استناداً إلى قانون السرية"، أن يتحدث عنها بالتفصيل في مذكراته. ونُقل في نهاية عام 1941 ليعمل في جهاز المخابرات البريطانية M16، ليقوم بترجمة النصوص المكتوبة باللغة العربية، بصورة أساسية، أو بتلخيصها، وكان بعضها مكتوباً بالشيفرة. وقد تعاون كما يقول مع أحد المجندين في فرع آخر من M16، وكان يتقن الألمانية، في تتبع عميل سوري للمخابرات الألمانية، بمقارنة مصادر لويس العربية بمصادر المجند الآخر الألمانية. وكان خلال فترة خدمته في الحرب يقوم بتحويل المكالمات الهاتفية التي ترصدها المخابرات البريطانية إلى نص مكتوب.

وليس ثمة شك في أن لويس عمل توظيف التاريخ في خدمة السياسة وصناعة القرار، سواء في مسقط رأسه بريطانيا أو في بلده الثاني الذي اختار الرحيل إليه فيما بعد "أمريكا". وهو أمرٌ يخالفُ تماماً ما يشدد عليه في مذكراته بالقول إنه ليس "من المسموح بالنسبة إلى المؤرخ أن يعيد تشكيل النتائج التي يتوصل إليها لكي تخدم بعض غاياته السياسية والأيديولوجية. هذه خيانة لروح عمل المؤرخ".

وتكشف مذكرات لويس عن ثلاثة أمور أساسية تلخص أعماله وتوجهاته:

- دفاعه عن الإمبراطورية:

يعلن لويس بصورة لا لبس فيها عن انتمائه الواضح منذ الصغر لفكرة الإمبراطورية البريطانية، إذ يقول: "منذ مرحلة الطفولة التي عشتها في لندن خلال العشرينيات، كنت أشعر بالفخر بحقيقة كوني جزءاً مما يمكن أن نسميه أعظم إمبراطورية في التاريخ، وبكل تأكيد الإمبراطورية الأكبر والأوسع في ذلك التاريخ، التي تمد حكمها ونفوذها المباشر أو غير المباشر إلى ما يزيد على ثلث مساحة الكرة الأرضية، وتُحِل، في أماكن عديدة من العالم، الحضارةَ مكان البربرية، وتَجلِب إلى أجزاء مختلفة من الإمبراطورية الحريةَ والعدل بدلاً من الحكم المستبد أو السلطوي". كما إنه يميز الإمبريالية البريطانية عن الإمبرياليات الأخرى، ممتدحاً الدورَ التنويريَ الحضاري لتلك الإمبراطورية التوسعية التي يفتخر بالانتماء إليها: "لقد كرست السلطة الاستعمارية، في الإمبراطورية البريطانية، على عكس غيرها من السلطات الاستعمارية، اهتماماً كبيراً بنشر التعليم، وعلى نحو أكثر وضوحاً بالتعليم الجامعي. كان الهدف أن يكون هناك في كل مستعمرة من المستعمرات البريطانية جامعةٌ واحدةٌ على الأقل، على أن يُبذل فيها بعض الجهد والوقت لتعليم تاريخ شعبها، أي تاريخ ذلك البلد بصورة أساسية". وعلى هذا الأساس عملت جامعة لندن كما يذكر لويس على إعداد باحثين في التاريخ المحلي لكل واحدة من المستعمرات، وساهم هو نفسه، من خلال عمله أستاذاً في قسم الدراسات الشرقية والإفريقية، في إعداد مقررات دراسية لتُدَرس في جامعات المستعمرات.

ويضيف لويس منحازا للإمبراطورية والتجربة الاستعمارية: "إن المهاتما غاندي ما كان لينجح في نضاله ضد الاستعمار البريطاني لولا أنه كان يفعل ذلك في مواجهة عدو ديمقراطي متحضر، وإن نضاله السلمي ما كان ليدوم أسبوعاً واحداً لو أن عدوه كان هتلر أو ستالين أو صدام حسين". وهو في موضع آخر، ولدى حديثه عن طلبته في جامعة لندن الذين كانوا يأتون من المستعمرات ليُعِدوا رسائل دكتوراه ينتقدون فيها ما تفعله القوات الاستعمارية البريطانية في بلادهم، يقول: "إن في إمكانه أن يطلق على هذا النوع البريطاني من الاستعمار "الإمبريالية الديمقراطية".

- ارتباطاته الإسرائيلية وتعاطفه مع الكيان الغاصب:

كتب لويس في مذكراته: "رغم أن اشتغالي الأساسي كان، ولبعض الوقت، منصباً على التاريخ الإسلامي العام، فإنني لم أنسَ أبداً اهتمامي بالدراسات العبرية واليهودية التي قادتني يوماً إلى حقل الدراسات شرق الأوسطية". ومن هنا فإن رحلات لويس إلى إسرائيل، وقبل ذلك إلى فلسطين، لم تنقطع منذ أربعينيات القرن الماضي. كما أنه أمضى أوقاتاً طويلة في الجامعات ومراكز الدراسات الإسرائيلية على مدار حياته الأكاديمية والبحثية،وقد كتب بعض الدراسات باللغة العبرية، وترجم شعراً عن العبرية لعدد من الشعراء اليهود المعاصرين. وهو يشير في أكثر من موضع من مذكراته إلى صلاته بالسياسيين الإسرائيليين.

- علاقته الوطيدة بالإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن:

يُقرَ لويس بأن علاقته بالمحافظين الجدد في إدارة جورج بوش الابن تعود إلى فترة مبكرة نسبياً من إقامته في الولايات المتحدة. بدأت هذه العلاقة أثناء رحلة إلى أمريكا ألقى فيها لويس عدداً من المحاضرات. وازدادت هذه العلاقة قوة بعد إلقائه محاضرةً حول الوضع في الشرق الأوسط وسياسة القوى الخارجية على جمهور محدود في واشنطن. وبعد انتهاء محاضرته اقترب منه شاب صغير وأخبره أنه يعمل مساعداً للسِناتور الديمقراطي هاري م. جاكسون "سكوب". ولم يكن هذا الشاب الذي عرفه على السناتور جاكسون سوى ريتشارد بيرل، الذي يُعد واحداً من أكثر المحافظين الجدد تأثيراً في إدارة جورج بوش الابن. وقد توثقت هذه العلاقة مع أعضاء آخرين في جماعة المحافظين الجدد، ومع نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، ومع الرئيس الأمريكي جورج بوش، فيما بعد.

في العام 2002، أي بعد الإغارة الأمريكية على أفغانستان، وفي زمن التحضير لغزو العراق، شهدت تل أبيب أمسية لتكريم برنارد لويس، كان من بين الحضور فيها بوب ولفوويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي حينذاك دونالد رامسفيلد، والذي تحدث ليلتها قائلاً: "لقد علمنا برنارد لويس، كيف نفهم التاريخ المعقد والمهم للشرق الأوسط، وكيف نستعمله (التاريخ) ليوجهنا إلى المرحلة القادمة من أجل بناء عالم أفضل للأجيال القادمة".

بعد عام وفي مارس 2003 كان لويس يقدم الحجة الفكرية لغزو العراق حين قال: "إن غزو العراق سينبثق عنه فجر جديد، وإن القوات الأمريكية ستُستقبَل كما لو أنها محررة"، الأمر الذي ثبت كذبه باعتراف الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في مذكراته الصادرة حديثا "قرارات مصيرية"، عندما اعترف أن: "ما فعلناه في العراق كان خطأ فادحاً"، لتنهار أسطورة برنارد لويس ومنهجه الاستشراقي أو الاستخباري.

ولعل من أفضل من تصدى لمقولات لويس المضللة، إلى جانب المفكر الناقد الراحل، إدوارد سعيد، كان الكاتب المصري الأصل، الفرنسي الجنسية آلان جريش، في مقال شهير له بمجلة "اوموند ديبلوماتيك" الفرنسية، عنوان "برنارد لويس وجينة الإسلام"، وفيه ينقد وينقض الرؤية العنصرية عند لويس للمسلمين، وفي نهاية مقاله يتهكم ساخراً بالقول: "لا بد أن عالماً أمريكياً سيكتشف قريباً (جيناً) للإسلام، ذاك الذي يفسر لنا لماذا المسلمون مختلفون عن باقي البشرية المتحضرة"، ويُرجع جريش العبارة السابقة إلى إدوارد سعيد، العربي الفلسطيني الذي تصدى طويلاً لأكاذيب لويس حين أشار إلى أن: "جوهر أيديولوجية لويس في ما يخص الإسلام هو أنه لن يتغير، وأن أي فكرة سياسية تاريخية أو بحثية عن امسلمين عليها أن تبدأ وتنتهي من كون المسلمين لن يتغيروا".

ثم هذا المستشرق الجاسوس مُولَد كبير لأفكار الإسلاموفوبيا، وتحذيراته من انتشار الإسلام لاسيما في أوروبا تمثل اليوم أحد الدوافع لتنامي العنصرية الغربية وزيادة المد اليميني في أوروبا

***

وكتبت عنه صحيفة "واشنطن بوست" أنه "باحث بارز في تاريخ الشرق الأوسط، عمل بعمق على تشكيل الآراء الغربية للمنطقة ونظَر للهيمنة والسيطرة الغربية، خلَف أكثر من 30 كتابا ومئات المقالات". وقالت عنه إنه متمكن في ما لا يقل عن اثنتي عشرة لغة، وتتبع خطوط الصدع التي تشكل الشرق الأوسط الحديث، مثل الانقسامات الطائفية وصعود الإسلاميين الراديكاليين والدكتاتوريات الراسخة.

كان جاسوسا للمخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. تناول الشاي في مطبخ غولدا مئير تكريماً لدعمه المتحمّس لإسرائيل. تناول الغداء مع البابا يوحنا بولس الثاني واستضافه شاه إيران. وامتدت سمعته إلى أبعد من الأوساط الأكاديمية، مما جلبته إلى ثنايا سماسرة السلطة وواضعي السياسة في واشنطن بعد انتقاله إلى جامعة برينستون في عام 1974، وهكذا بدأ عهدا من المسارات المتناقضة.

صداقة برنارد لويس -والقرابة الأيديولوجية- مع صقر الحرب الباردة والداعم الوفي لإسرائيل، السناتور "هنري "سكوب" جاكسون، فتحت له الأبواب البارزة في واشنطن، مما أتاح له، في نهاية المطاف، نفوذا وتأثيرا ومكانة مفضلة بين كبار مسؤولي البيت الأبيض ومخططي البنتاغون قبل غزو العراق عام 2003.

وكان يرى بالاحتكاك الذي لا مفر منه بين العالمين الإسلامي والغربي، وخصوصا مع "توسع نفوذ المتشددين الإسلاميين والجماعات الأخر"، وأعاد إحياء عبارة "صراع الحضارات" التي كتبها في وقت سابق في مقال بعنوان "جذور الغضب الإسلامي" في عام 1990، أي قبل عامين من تبنيها من الالمفكر والباحث في جامعة هارفارد، صمويل هنتنغتون. ورأى"لويس" كذلك بأن مشاكل المنطقة كانت في معظمها ذاتية ولم تكن موروثة من الاستعمار أو التدخل الخارجي.

في أعماله الأخيرة، ومنها الكتب الأكثر مبيعات بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر: "ما الخطأ"؟ (2002) و"أزمة الإسلام" (2003)، استقطب لويس بشكل متزايد جمهورًا غربيا واسعًا. ملأ عقولهم بأفكار خبيثة ومضللة عن المسلمين، لكنه أيضا وبخ القادة الغربيين لفشلهم في إدراك مدى وصول جماعات مثل القاعدة.

ومن أحسن من وصف برنارد لويس المفكر الناقد الألمعي الراحل، إدوارد سعيد ، قال عنه إنه بائع متجول لمدونات المدارس القديمة حول الحاجة إلى الهيمنة والسيطرة والتوجيه القوي للمنطقة.

وخلاصة سموم برنارد لويس وقناعته الراسخة بعد تصهينه "أن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تركوا لأنفسهم سوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات وتقوض المجتمعات، ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم و تدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية". وأسلوبه يتصف بالانتقائية، فهو يختار من الحقائق والسياقات التاريخية ما يؤيد رؤيته، وكتاباته عززت وكثفت الصورة النمطية للإسلام باعتباره تهديدا للغرب وهو يعرفنا معرفة عميقة ولكنه يعرفنا كما يهوى وتملي عليه صهيونيته وأحقاده.