2024-11-14 06:04 م

المعارضة اليهودية للصهيونية بين مناهضة العنصرية ومناهضة الاستعمار

2018-05-12
هناك حركات يهودية مناهضة للصهيونية منذ نشوئها، لبعضها منطلقات دينية وبعضها الآخر يساري وعلماني. للاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام، الذي ادلى اعضاءه بشهاداتهم على امتداد الاسابيع العشرة الماضية، "أجدادٌ" لا يقلون حدّة تجاه الصهيونية من أصدقائنا هؤلاء.

خلال الأسابيع الماضية، نشر "السفير العربي" عشرة مقاطع مصورة للمخرج إيال سيفان، بعنوان "أصوات يهودية ضد العنصرية"، وهي تعرض مقابلات مع أعضاء "الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام UJFP" حول مواضيع مثل العنصرية، مناهضة الاستعمار، الصهيونية... إلخ. تأسس هذا التنظيم في العام 1994 عقب توقيع اتفاقية أوسلو، بتركيز واضح على فلسطين. وعلى النقيض من الحركات والمنظمات الصهيونية اليسارية مثل حركة "السلام الآن"، و"ج ستريت" وغيرها، التي تستنكر الاحتلال من دون التشكيك في الأيديولوجية ونظام الهيمنة القابع خلف الاحتلال ومسائلتهما، فإن الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام يحلل القضية الفلسطينية من خلال عدسة الاحتلال الاستيطاني ويحاول أن يوصل الأصوات العلمانية والتقدمية اليهودية للعامة في فلسطين وإسرائيل وفي فرنسا من خلال محاربة العنصرية والاستعمار والتمييز.

هذه محاولة لتعيين السياق العام للموضوع من خلال تحليل مقاطع الفيديو التي تعامل مع الخلفية السياسية الفرنسية من جهة، وتقدم رؤية عامة للمعارضة اليهودية للصهيونية.

أن تكون منظمّة يهوديّة مناهضة للصهيونية في فرنسا

فرنسا هي البلد الثاني الذي به أكبر عدد من السكان اليهود في العالم بعد الولايات المتحدة. وبناء على ذلك، فقد كانت دوماً هدفاً للدعاية الإسرائيلية. فقد شنت الحكومات الإسرائيلية المتتابعة حملات لزيادة الهجرة اليهودية الفرنسية إلى إسرائيل عبر التلاعب بمسألة "معاداة السامية". أحد أكثر الداعمين حماسة ونشاطاً في الدعاية لإسرائيل في فرنسا هو "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا ــ CRIF"، وهو المعادل الموضوعي لمنظمة "أيباك" (AIPAC) في الولايات المتحدة الأميركية، وعُرف بدعمه الاعمى لإسرائيل. كما أنه يدعي تمثيل يهود فرنسا ولكنه يتجاهل أي أصوات مضادة داخل هذه البيئة ويحاول إلغاءها. وخلال العقود الماضية، تحوّل حضور العشاء السنوي الذي ينظمه "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا" إلى ضرورة حتمية للساسة الذين عادة ما يعبرون في المناسبة عن حبهم لإسرائيل ورفضهم لـ"معاداة السامية". مؤخراً، قام "المجلس التمثيلي" بالضغط من أجل إدراج مناهضة الصهيونية بشكل قانوني في تعريف معاداة السامية، لتجريم أي انتقاد لإسرائيل، وهو لاقى قبولاً ودعماً من ساسة فرنسيين وفي المقام الاول الرئيس الفرنسي نفسه، إيمانويل ماكرون، الذي قال إن "مناهضة الصهيونية هي اختراع لشكل جديد من معاداة السامية".

لمواجهة احتكار الهوية اليهودية من قبل الصهيونية، ومصادرتها لأصواتهم، اتخذت المنظمات المناهضة للصهيونية، أو تلك غير الصهيونية قراراً بأن تتكلم من منطلق الذات اليهودية. ولم تكن هذه بالخطوة السهلة بالنسبة لأغلب أعضاء الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام. لكن، ولإنهم رأوا أن إسرائيل والصهيونية تقومان بمصادرة أصواتهم، فقد قرروا أن يعتنقوا، من منظور سياسي وثقافي، هويتهم اليهودية (الموروثة بالولادة). وبهذا نبذوا احتكار الصهيونية للهوية اليهودية، ورفضوا أن يتم استيعابهم أو تمثيلهم من قبل إسرائيل وسياساتها واستغلالهم كبيدق في الإدارة العنصرية تجاه المسلمين/ العرب والسود.

وعلى الرغم من اتفاقهم مع مبادئ مناهضة الصهيونية لليهودية الأرثوذكسية (الاصولية)، إلا أنهم لا يشعرون أنها تمثلهم. لسبب أول، وهو أنه على الرغم من أن أغلبية أعضاء الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام هم يهود، إلا أن المنظمة منفتحة على أي شخص يلتزم بأهدافها، بينما الاتحاد نفسه فيتبنى العلمانية. والسبب الأهم، هو أن أعضاء هذا الاتحاد - وهو أمر أيضا ينطبق على أغلب المنظمات اليهودية غير الصهيونية أو المناهضة لها - يطرحون هويات يهودية أخرى بعيدة عن تلك الهوية العرقية/ القومية التي تطرحها الصهيونية أو التي تطرحها الحركات الدينية اليهودية المناهضة للصهيونية. تلك الهويات اليهودية تجد جذورها في النظرة الشاملة ( (Universaliste والمتنوعة، والتي قد تكون علمانية أو دينية، وهي تنتمي الى الحيز الخاص: ممارسة تتنوع ما بين التقيد الصارم بالطقوس اليهودية (الطعام الحلال، احتفالات البار والبات متسفا للصبيان والبنات قبيل البلوغ، تقديس السبت، الصلاة في الكنيس وهو المعبد اليهودي... إلخ) وصولاً إلى عدم الالتزام الكامل بهذه الطقوس...

في منتصف الانتفاضة الثانية، في العام 2002، لعب "الاتحاد" دوراً ريادياً في تأسيس "حركة يهود أوروبيون من أجل سلام عادل EJJP "، والتي تحولت الآن إلى منظمة يهودية فيدرالية موجودة في عشرة دول من بينها بلجيكا، ألمانيا، إيطاليا، السويد... إلخ. هذا بخلاف جماعات من الأميركيتين (مثل "الصوت اليهودي من أجل السلام Jewish Voice for Peace" و"الشبكة اليهودية العالمية المناهضة للصهيونية IJAN")، المنضمّ كلاهما إلى حركة "المقاطعة، وسحب الاستثمار، والعقوبات BDS"، وقد موضع أغلبها أعماله بما يتجاوز الصراع ضد الصهيونية وسياسات إسرائيل التدميرية. أغلبهم ينتمون إلى حركات أكبر، نسوية، مناهضة للعنصرية، مناهضة للاستعمار، ضد عنف الشرطة.. إلخ. كما أن "الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام" والذي ينبذ الإقرار بأي تراتبية للعنصرية، كان على سبيل المثال، ضمن طليعة المنظمات في فرنسا التي حذرت من نمو "الإسلاموفوبيا" (الرهاب من الإسلام) واستخدمت هذا المصطلح بوضوح تام للتعبير عما يحدث بدون مرواغة.

تظهر المقاطع العشرة التي تتناول مواضيع مثل العنصرية المؤسسية أو عنصرية الدولة، معاداة السامية، مناهضة الصهيونية، ومناهضة الاستعمار.. إلى اي مدى تتصل القضية الفلسطينية بالأحداث والقضايا العالمية الكبرى. لكنها أيضا تظهر إلى أي مدى تعتبر آليات الإقصاء والتمييز وعنف الدولة في فلسطين أحد مصادر التوضيح لكل ذلك على المستوى العالمي.

على الرغم من أنهم أقلويون في الفضاء العام والاعلامي، إلا أنهم قد اختاروا مكان تموضعهم، وهو الى جانب المضطهدين. إنهم بمثابة تذكير هام لكل من يريد أن يتعامل مع الصهيونية، تذكير يقول بأن الصهيونية ليست اليهودية بأي حال من الأحوال، وأنها احتلال وعنصرية وهيمنة. أكثر من ذلك، وكما صرح أحد أعضاء "الاتحاد" في أحد المقاطع المصورة: "أعتقد أن هناك الكثير من الأسباب لمناهضة الصهيونية، وأن تكون يهودياً هو أحد هذه الأسباب".

لقد وجد هذا الطرح المناهض للصهيونية منذ ما يزيد عن مئة عام. وعلى الرغم من ذلك، فلعله لا يوجد إدراك كاف لدى هذه الجماعات الجديدة لمبلغ ما تدين به للجماعات اليهودية السابقة عليها والمناهضة للصهيونية. المنظمات الحالية هي جزء من تاريخ طويل من الحركة اليهودية المناهضة للصهيونية.

المعارضة اليهودية المبكرة للصهيونية

ظهرت الصهيونية في أوروبا كردة فعل لكل من استيعاب اليهود في الغرب ولمعاداة السامية أيضاً. أثارت الصهيونية وبرنامجها، بمجرد ظهورها في أوروبا في القرن التاسع عشر، جدلاً وقلقاً بين العديد من اليهود. لم تسعَ الصهيونية إلى تمثيل كل اليهود فحسب، بل إنها سعت أيضا لمحو تراثهم التاريخي مهددة الوضع الذي خص هذه الطائفة. وكان إنكار ورفض "المنفى" وهو مفهوم شديد المركزية في الديانة اليهودية، وإلغاء وطمس التفسيرات والمعاني اليهودية. جاء النقد من المجتمعات والشخصيات اليهودية من كل أنحاء العالم وفي المقام الاول من أوروبا نفسها، ومن اليهود في العالم العربي بمجرد معرفتهم بها، لكن أيضاً من الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية، حيث عبّرت المجتمعات اليهودية المنظمة عن معارضة قوية للصهيونية.

كان هناك ثلاث اتجاهات نقدية هامة، أولاً، الاتجاه الليبرالي المناهض للتفرقة، ثانياً، الاتجاه الديني الناقد للخاصية العلمانية للصهيونية (أسموها المسيح الدجال)، وثالثاً الاتجاه الاشتراكي والشيوعي الناقد للمنحى الرأسمالي والقومي للصهيونية.

التحرر مقابل الصهيونية

في البداية، حين ظهرت الصهيونية، كانت ينظر إليها بوصفها تشكل تهديداً لوضع اليهود الذين كانوا يؤمنون بالتحرر كمثال لعصر التنوير في فرنسا وألمانيا وبريطانيا. كانوا يشعرون بأنهم ألمان وفرنسيين وبريطانيين أولاً وقبل كل شيء، وأن المناداة بوطنية يهودية لا يعرِّض وضعهم للخطر بسبب خلق فصل بين القوميات فحسب، بل يوفر مسوغاً لمعاداة السامية وإقصاء الأعضاء اليهود من المجتمع الوطني. أثيرت هذه الجدلية أيضاً في المملكة المتحدة من قبل المعارضين للصهيونية قبل وبعد قرار الحكومة البريطانية تبني إعلان بلفور. ومن بين المعارضين كان كلود مونتيفيور (رئيس الجمعية الأنجلو يهودية وأحد مؤسسي اليهودية الليبرالية البريطانية) وإيدوين مونتاغو (وزير شؤون الدولة للهند وعضو مجلس الحرب آنذاك) (1).

نقد ديني للصهيونية

أثير النقد الديني(2) للصهيونية خارج وداخل الحركة الصهيونية في آن، وكان يحمل ثلاث محاجات رئيسية. أولا، أن اليهود ليسوا أمة ولكنهم مجتمع إيماني. ثانيا، وعلى أساس الحجة الثيوقراطية، فإن الصهيونية هي المسيح الكذاب الذي يهدد الخلاص الالهي الحق، وكان هذا بالتحديد رأي "الحريديم" أو اليهودية الأصولية وشديدة الأصولية. ثالثاً، أن الصهيونية لا تطبق المبادئ اليهودية مثل العزوف عن العنف والعدالة مع الآخرين.

في الحقيقة، إن فكرة الاحتلال اليهودي لفلسطين لم تكن ذات شعبية بين المجتمعات اليهودية. فالدعوات للهجرة إلى فلسطين قلما لاقت استجابة، كما أن الأغلبية من اليهود الذين كانوا مقيمين في فلسطين بالفعل نظروا بعين الشك للهجرات اليهودية الأولى في الثمانينات من القرن التاسع عشر.

اثنان من أكثر الجماعات الحريدية المضادة للصهيونية هما "ساتمار" و"ناطوري كارتا". الاثنان موجودان في الولايات المتحدة مع فروع لهما في فلسطين، ويعتبران إسرائيل دولة غير شرعية. ناطوري كارتا والتي تنعم باهتمام خاص بين العرب، نشأت في العام 1938 في القدس بسبب انقسام داخل "جماعة أجوداث إسرائيل" التي كانت بدأت تتواءم مع الصهيونية(3).

كل من هذين الفريقين شديدي الأصولية يرفضان حتى اليوم المشاركة في الانتخابات ويدعوان اليهود لعدم التصويت، ويرفضان الخدمة في الجندية. وبما أنهم مقيمون في فلسطين، فإنهم يعتبرون أنفسهم في المنفى.

قبل تأسيس إسرائيل، أظهرت جماعات أخرى نفوراً من الصهيونية، وأما "المجلس اليهودي الأمريكي" الذي ولد من اليهودية الإصلاحية التي نشأت في ألمانيا وتطورت في الولايات المتحدة فقد تأسس في العام 1942، وهي السنة ذاتها التي اجتمع فيها قادة الصهيونية في الولايات المتحدة الامريكية لتأليف "برنامج بيلتمور" الذي كان يهدف لتأسيس دولة يهودية في كل فلسطين(4). وهو اعتبر اليهود جماعة دينية ونبذ فكرة الأمة، ومن ثَمّ فإن هدفه المعلن كان مكافحة الصهيونية وفكرة تأسيس دولة يهودية في فلسطين . بعد ذلك بفترة وجيزة فتح المجلس اليهودي الأمريكي أبوابه للناقدين العلمانيين للصهيونية.

الناقدين الاشتراكيين والشيوعيين للصهيونية

هناك حركتان أساسيتان لهما أهمية خاصة في المجال. من جانب، الحزب الشيوعي الفلسطيني، ومن الجانب الآخر، وحركة ال"بوند" الاشتراكية (Bund أو "حزب العمال اليهودي") التي تأسست في الامبراطورية الروسية(5). كلاهما كانتا حركتين علمانيتين نبذتا الصهيونية كحل ل"المسألة اليهودية"، ورفضتا الانقسام بين اليهود وغير اليهود.

وقت أن تأسست في الثمانينات من القرن التاسع عشر، رفضت حركة البوند أي تفرقة عرقية أو إقليمية، مفضلة أن تقاتل من أجل حقوق اليهود كأقلية وطنية بداخل البلاد التي يعيشون فيها، وأن يتبنوا نموذج الاستقلال الذاتي في الشتات بدلاً من التأسيس على أساس اقليم الذي طرحته الصهيونية. علاوة على ذلك، فإن البوند اعتبر أن الحركة الصهيونية هي منظمة استيعابية من حيث أنها تبنت أجندة وهيكل وأهداف الرأسمالية، والتي لم تتجاهل صراع الطبقات فحسب ولكنها في فلسطين ستعيد إنتاج نماذج الاستغلال والهيمنة نفسها التي وجدت في أي مكان آخر. وهذا ما حدث بالفعل مبكراً، حين قررت الصهيونية - كجزء من سياسة حزب العمال اليهودي التي هدفت إلى إقصاء القوة العربية العاملة - جلب 2000 عامل من اليهود اليمنيين ليحلوا محل العرب(6). وكان عليهم تحمل الاستغلال والتمييز في مجتمع ليس فقط يهدف إلى خلق دولة يهودية، ولكن أيضا خلق "يهودي جديد" يتبع نموذج "اليهودي الأممي" في غرب أوروبا والولايات المتحدة، بل وفي الواقع دولة متجانسة من "الأغيار" الأوروبيين اليهود الذين يدّعون أن لديهم مهمة نشر التحضر(7).

وعلى الرغم من أن "البوند" لم ينشط في إسرائيل إلا في العام 1951، إلا أنه كان لديه أعضاء هناك منذ عشرينات القرن العشرين. آخر أعضاء المنظمة يموتون الآن، لكنهم ظلوا يدعون للاشتراكية على الرغم من أن قلة منهم ظلوا غير صهاينة (ولم يكونوا مناهضين للصهيونية)(8).

عقب تأسيسه في عشرينات القرن العشرين، انحرف الحزب الشيوعي الفلسطيني، العضو في "الاممية الشيوعية"، عن طريق أسلافه بالنسبة للمسألة الصهيونية. فقد اعتبر الصهيونية حركة حليفة للإمبريالية البريطانية وأن كل تحرك "للمنظمات الصهيونية يمهد الطريق للرأسمالية الاستعمارية على حساب استغلال الجماهير"(9). وباكتساب أعضاء عرب منذ أواخر عشرينات القرن العشرين، فإنه في نهاية المطاف انقسم في العام 1944. في البداية نبذ التقسيم في العام 1947، ثم اتبعت كل من الفصائل اليهودية والعربية تصويت الاتحاد السوفييتي (الذي وافق على التقسيم).

اليهودية المناهضة للصهيونية في زمن إسرائيل

أثارت الصهيونية اعترضات بمجرد ظهورها، إذ كانت تشكل أقلية. لكن دعم المؤسسات الاستعمارية والدولية للحركة، إلى جانب الإبادة الجماعية النازية لليهود، قلبت الموقف في نهاية المطاف. على أية حال، بمجرد أن تلقت الضوء الأخضر من السلطات البريطانية للاستيطان في فلسطين، أظهرت الصهيونية أنها حقيقة تمثل كل ما تخوف منه نقّادها. لقد بدا بسرعة أنه ــ وبعيدا عن الفلسطينيين ــ هناك آخرون يعانون من الأيديولوجية الصهيونية وممارساتها وعنصريتها، ومنهم اليهود المزراحي أو اليهود العرب والذين جُلبوا في الخمسينات من القرن العشرين وتمّ وضعهم كدروع بشرية ضد العرب الآخرين، ثم الفلاشا أو اليهود السود الذين أتوا بالأساس من أثيوبيا. فقد اعتبروا همجاً. وفي محاولة استيعابهم فإن المجتمعَين تعرضا لجهود من أجل انتزاعهما من ثقافاتهما. ومن ضمن هذه المحاولات كان مصادرة واختفاء المئات من الرضع اليمنيين من أهاليهم. كما أن هذين الجماعتين كانتا ضحايا هيمنة اجتماعية في مساحة محكومة بالأساس باليهود الأشكيناز (الاوروبيون).

عقب تأسيس إسرائيل، استمر الحزب الشيوعي الذي وضع نفسه ضمن الطيف السياسي الصهيوني، في التعبير عن صوت مختلف في ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية. في ستينات القرن العشرين، ظهرت منظمات يسارية، أحيانا من تحت عباءة الحزب الشيوعي. واعتبر بعضهم نفسه منتمياً الى "الأممية الرابعة" ومن بينهم، "المنظمة الاشتراكية في إسرائيل" التي تأسست في العام 1962 وبعد ذلك عرفت باسم النشرة الخاصة بها، "ماتزبن" (Matzpen). هذه المنظمة دعت أولاً إلى وحدة الطبقة العاملة من اليهود والعرب واندماج اليهود ليس فقط في فلسطين ولكن في المنطقة. ثانياً، دعوا إلى حل للقضية الفلسطينية في محيطها العربي وليس فقط في "منطقة الانتداب" الفلسطينية التي لم تكن موجودة قبل الإدارة البريطانية. ثم دعت المنظة إلى صراع ضد الإمبريالية وضد التمييز وقمع الشعب الفلسطيني. بعد فترة وجيزة من تأسيس المنظمة، أصبحت ماتزبن بشكل معلن مناهضة للصهيونية وأحدثت هزة في المجال السياسي حين وصفت الصهيونية بإنها "استعمارية بطبيعتها"، وعرفتها بأنها أحد نماذج الاحتلال الاستيطاني. كان ذلك خطاً فاصلا بين المنظمة وبين الجماعات والأحزاب اليسارية الأخرى(10).

وعلى الرغم من أنها كانت جماعة صغيرة جدا وهامشية، إلا أنها أصبحت لسنوات العدو الأول للحكومة الإسرائيلية. هذا الاهتمام السلبي الذي حظيت به المنظمة جعلها معروفة خارج البلاد، حيث كان يتم دعوة أعضائها من قبل العديد من المنظمات اليسارية إلى جانب منظمات الطلبة العرب والفلسطينيين وحركات المقاومة الفلسطينية. الذين قاموا بالتواصل معها. في حقبة السبعينات، كانت "ماتزبن" على اتصال مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ثم بعد ذلك مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ولسنوات، استمرت المنظمة في نشاطها وألهمت جماعات أخرى على هامش المجتمع، مثل "حركة الفهود السود في إسرائيل" – وهي مستهلمة أيضا من حركة الفهود السود الامريكية. اعتنقت حركة الفهود السود في إسرائيل نهج "ماتزبن" في مناهضة الصهيونية أثناء كفاحها من أجل الحصول على حقوق الإسرائيليين اليهود من الملونين الذين كانوا يعانون من العنصرية ومن التمييز. وبالرغم من أن هذه الحركة لم تستمر سوى لعام واحد – حيث أنه تم اعتقال بعض أعضائها أو دفعهم للرحيل أو أغرائهم بمناصب حكومية لتهدئتهم وكسب أصوات في الانتخابات – إلا أنهم كانوا ضمن المجموعات الأولى التي تصل إلى الفلسطينيين. لاحقا قام اليهود العرب بتقديم بدائل أكثر تقليدية وقومية، خاصة في أحزاب جناح اليمين الديني مثل حزب شاس.

بينما طالبت "ماتزبن" بنزع الصفة الصهيونية عن إسرائيل، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، إلى جانب إدانتها لسياسة التمييز العنصري الإسرائيلية، فإن بعض أعضائها طالبوا أيضا بأن يعترف الفلسطينيون بحق تقرير المصير "للأمة العبرية"(11) كوسيلة لطمأنة الجمهور اليهودي، ولإلزامهم بالتخلص من النظام الصهيوني. "إلغاء المؤسسات والتأسيس للمساواة مع الفلسطينيين وإدماج شعوب البلاد في اتحاد اشتراكي إقليمي"(12). تسبب شعار "الأمة العبرية" في جدل داخل المنظمة حيث اعتبر الأعضاء الآخرون أنه يشكل خطرا على حقوق السكان الأصلييين وهم الفلسطينيون.

في فترة السبيعينات من القرن العشرين، حدثت ثلاثة انقسامات بداخل "ماتزبن" لأسباب أيديولوجية واستراتيجية، إلا أن كل المجموعات التي انبثقت من هذه الانشقاقات ظلت مناهضة للصهيونية. وفي نهاية الثمانينات توقفت عن التواجد كجماعة متماسكة وفاعلة. ومع ذلك فإنها استمرت كمصدر إلهام للنشطاء اليهود المناهضين للصهيونية في إسرائيل والشتات، وحتى وقت قريب كان أعضاؤها المتبقون نشطين. في الوقت الحالي، احتلت منظمات المجتمع المدني والحركات والمنظمات الأكثر مرونة موقع الصدارة على حساب الأحزاب السياسية، حيث أنهم يقدمون نوعاً آخر من النشاط أكثر فاعلية على الأرض لكن أيضا أكثر تخصصاً (هدم المنازل، الحقوق المدنية... إلخ). علاوة على ذلك، فإن حركة "المقاطعة، وسحب الاستثمار، والعقوبات" تقدم نفسها كمظلة للمنظمات والمجموعات المتنافرة. يمكننا أيضاً أن نضيف رجوح كفة الإعلام كما يبدو في عدد من الصحف والمجلات البديلة (غير الصهيونية أو المناهضة لها)، والتي توجد بداخل وخارج فلسطين ــ إسرائيل، وتوفر تحليلات للقضية الفلسطينية من خلال كشف منظور الاستعمار الاستيطاني (ينشر مركز الإعلام البديل AIC نشرة بثلاث لغات، وهناك مجلة +972، ومجلة موندويس Mondoweiss.. إلخ) .

مناهضة الصهيونية بوصفها منظومة للسيطرة والهيمنة

وهكذا وبوضوح، هناك أصوات ناقدة ضد الصهيونية منذ ظهورها، ومثابرة على ذلك. كما أن المحاجات المثارة منذ ذلك الحين وحتى الآن متشابهة في الجوهر. كما أن توقعات النقاد السابقين للصهيونية قد ثبت صحتها. فإسرائيل حقيقة دولة علمانية متجذرة في قومية عرقية إقصائية تستخدم الدين كوقود لتأجيج عنصرية الدولة والتمييز ضد الفلسطينيين بدءاً من التطهير العرقي وحتى حرمانهم من حقوقهم المدنية. علاوة على ذلك، فإنها أحد البؤر الاستيطانية الرأسمالية، وتتسم بأشكال هامة من الظلم الاجتماعي.

كان التلاعب باليهودية وبالهوية اليهودية أدوات بيد الحركة الصهيونية وإسرائيل تمّ استخدامها لإلحاق الضرر بفلسطين والفلسطينيين والعرب، كما أضرت باليهود على مستوى العالم. حاولت كل من الحركة الصهيونية وإسرائيل - بنجاح تام - فرض معادلة في كل مكان وعلى كل شخص مفادها أن اليهودية تساوي الصهيونية وتساوي إسرائيل. وهي معادلة أضرت باليهود حيث أنها اقتلعتهم من مجتمعاتهم الوطنية وشجعت على ظهور معاداة السامية، لكنها أيضا أضرت بفهم القضية الفلسطينية، إذ أنها تحاول منع وتجريم أي تحليل نقدي سياسي للصهيونية بوصفها مشروع استعماري استيطاني ولإسرائيل بوصفها دولة احتلال استيطاني.

في رفضه للتلاعب باليهودية والهوية اليهودية من قبل الحركة الصهيونية وإسرائيل، فإن "الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام UJFP" وغيره من المناهضين العلمانيين للصهيونية، يسلطون الضوء على الأيديولوجيا الصهيونية ونظام الهيمنة – القومية العرقية، العنصرية، والرأسمالية...

(1) كوثر قديري، "إعلان بلفور" ــ السفير العربي - 17-11-2016

(2) كان الذين يدعمون حمل جنسيتين من الذين ينتمون للحركة الصهيونية ينتقدون الاتجاه العام للصهيونية وفكرة تأسيس دولة يهودية في فلسطين.

(3) تشارلز غلاس "يهود ضد الصهيونية: اليهود الإسرائيليين المناهضين للصهيونية"، نشرة الدراسات الفلسطينية 5 (اجزاء 1 و2) خريف 1975 – شتاء 1976 صفحات 56-81.

(4) توماس أ. كولسكي، يهود ضد الصهيونية، المجلس اليهودي الأمريكي 1942-1948. صحيفة جامعة تمبل 1990.

(5) Algemeyner Yidisher Arbeter Bund in Lyte, Poyln un Russland
باللغة الـ"يديشية" اللغة المستخدمة من قبل معظم العمال اليهود في أوروبا الغربية والإمبراطورية الروسية. كان حزب العمل اليهودي العام في ليتوانيا وبولندا وروسيا حزباً اشتراكياً يهودياً علمانياً في الإمبراطورية الروسية، تأسس في عام 1897 وهي السنة التي انعقد فيها أول مؤتمر صهيوني في بازل بسويسرا.

(6) جوزيف مسعد ثبات القضية الفلسطينية، مقالات عن الصهيونية والفلسطينيين، صفحة 57.

(7) جوزيف مسعد ثبات القضية الفلسطينية، مقالات عن الصهيونية والفلسطينيين، صفحة 57.

(8) شاهد وثائقي إران تربينر عن البوند في إسرائيل

(9) جويل بينين، "الحزب الشيوعي الفلسطيني"، 1919-1948. مجلة "ميريب"، آذار/ مارس 1977.

(10) ران جرينشتاين، الصهيونية واستياءها، قرن من الانشقاق الراديكالي في إسرائيل / فلسطين ، صفحة 165.

(11) المنظمة الاشتراكية في إسرائيل (ماتزبن) ــ المشكلة الفلسطينية والنزاع الإسرائيلي العربي، 10 أيار/مايو 1967

(12) متوفر على موقع ماتزبن: هذا يشكل النقطة الثانية عشرة من المبادئ الأساسية لماتزبن التي اعتمدت عام1978 وعدلت عام 1973