2024-11-26 08:23 م

مَهَمَّةُ أناطها ترامب ببن سلمان

2018-04-05
لم يكن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مقابلته، يوم الاثنين الماضي، مع مجلة "ذا أتلانتيك" الأميركية، يقدم أوراق اعتماده لإسرائيل، ولوبيها في واشنطن، وكذلك لليمين الأميركي المتطرّف فحسب، بل إنه انخرط في عملية إعادة كتابة للتاريخ وتزييف للحقائق، دع عنك الواقع المعاش. المفارقة هنا، أن تلك المقابلة تبعها تقرير صحافي استقصائي في مجلة "ذا نيوركر" للصحافي ديكستر فيليكز بعنوان: "أمير سعودي يبحث عن نسخة جديدة للشرق الأوسط"، أكد معطى تقديم أوراق الاعتماد، إذ أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كانت تبحث "عن عميل لتغيير المنطقة، ووجدت ضالتها في الأمير محمد بن سلمان، فقرّرت احتضانه ليكون عميلها لتحقيق التغيير فيها". ويؤكد التقرير، نقلا عن مسؤولين أميركيين سابقين، ما هو معروف الآن، من أن ارتقاء بن سلمان إلى ولاية العهد في السعودية على حساب ولي العهد السابق، محمد بن نايف، وأولاد عمومته الآخرين، كان نتيجة دعم مباشر من بيت ترامب الأبيض. وسبق لترامب أن تباهى بانقلاب القصر على بن نايف، بقوله: "لقد وضعنا رجلنا في القمة". وفي تقرير فيليكز ما يؤكد هذا المعطى، في الإشارة إلى دور صهر الرئيس ومستشاره، جاريد كوشنر، في تسويق بن سلمان لدى ترامب، متجاوزا في ذلك قلق الوكالات الأميركية الأخرى المعنية وتوجسها. وبعيدا عن التفاصيل الكثيرة هنا، ينسف هذا التقرير، ما نسب إلى ولي العهد السعودي من تباهٍ ليس في محله من أن "كوشنر في جيبه"، فالحقيقة أن بن سلمان هو من في جيبي كوشنر وترامب. ولا يُنسى هنا كيف أن ترامب لم يتردّد في المؤتمر الصحافي الذي جمعه ببن سلمان في البيت الأبيض، الشهر الماضي، في إحراجه، وأمام الكاميرات، عبر مطالبته بضخ مزيد من الأموال في الولايات المتحدة، على الرغم من أن السعودية تعهدت بأربعمائة مليار دولار، لكن يبدو أنها لم تشبع نهم ترامب.
كشفت مقابلة بن سلمان مع "ذا أتلانتيك" الكثير، وحفلت بمغالطات كثيرة وكبيرة ضمن مساعيه المستميتة لتسويق نفسه رجل "الإصلاح" الذي يمكن الرهان عليه أميركيا في الشرق الأوسط. لا يمكن هنا الإحاطة بكل ما جاء في المقابلة ومزاعمها، لكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى بعض أهم ما كشفته، وأهم مغالطاتها. لعل أهمه إدراك محمد بن سلمان حقيقة الدور الذي أنيط به، وشريكه، ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، من إدارة ترامب، لناحية تفكيك المنطقة وإعادة صياغتها، بحيث لا يبقى لها هوية جامعة، وبحيث تكون إسرائيل مركزها، والديكتاتوريات العربية حارستها. في تقرير "ذا نيوركر" ينقل فيليكز عن مستشار ترامب السابق، ستيفن بانون، وغيره، أنه مع تسلم إدارة ترامب مسؤولياتها، تمّ تخويل كوشنر الإشراف على إعادة صياغة الشرق الأوسط. وليس خافيا على أحد أن كوشنر هو رجل إسرائيل في البيت الأبيض، وتاريخ علاقات عائلته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وإسرائيل عموما، لا يحتاج تفصيلا. وإدراكا منه ذلك، فإن محمد بن سلمان تماهى في مقابلة "ذا أتلانتيك" مع ما يريده كوشنر وما تريده إسرائيل في المنطقة. يتجلى ذلك من عدة نواح من خلال المقابلة:
أولا، حديثه عن إسرائيل حليفا في المنطقة، ومواءمتها ضمنيا ضمن ما وصفه بـ"محور الاعتدال"، والذي يتكون، حسب رأيه، من السعودية والإمارات ومصر والبحرين وعُمان والأردن. أما المقابل، فهو "مثلث الشرِّ"، والذي يتكون من إيران والإخوان المسلمين، وتنظيمي داعش والقاعدة. لاحظ هنا أن خطوط التقسيم في تفكير بن سلمان ليست سنية - شيعية، حيث أنه وضع إيران الشيعية مع الإخوان المسلمين السنة، كما أنه في موضع آخر جمع حماس السنية مع حزب الله الشيعي. بمعنى آخر، ليست الهوية الجامعة للمنطقة التي يريدها بن سلمان عربية ولا إسلامية، بقدر ما أنها قائمة على الموقف السياسي الذي لا يرى في إسرائيل (اليهودية)، و"حق وجودها" في فلسطين مشكلة.
ثانيا، عدم تردده في تأكيد "حق اليهود" في جزء من أرض فلسطين عندما سئل عن ذلك بوضوح، وإن كان وضعها بصيغة أنه "للفلسطينيين والإسرائيليين الحق في أن يكون لهم أرضهم". وليس خافيا هنا الدور الذي يلعبه بن سلمان لمحاولة فرض "صفقة القرن" التي تعمل عليها إدارة ترامب، على الفلسطينيين، وهو كان هدّد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بضرورة قبول ما يملى عليه أو أن يستقيل.
ثالثا، دفاعه عن الحكم الاستبدادي في المنطقة، على أساس أنه يمثل الاستقرار وما يريده الناس. ففي مقابلته، جادل بن سلمان، من ناحية، عن "الملكية المطلقة" في السعودية، وقدمها أنها تمثل بناءً وثقافة مجتمعية، في حين سخّف مسألة الديمقراطية في المنطقة، وجعلها إحدى أدوات "مثلث الشرِّ" للسيطرة. وحسب زعمه، فإن الإخوان المسلمين "يريدون أن يوظفوا النظام الديمقراطي كي يحكموا الدول، ويبنوا خلافة ظل في كل مكان. وبعد ذلك، سيتحولون إلى إمبراطورية إسلامية حقيقية".
وفيما يتعلق بالمغالطات، ومحاولاته عبر المقابلة إعادة كتابة التاريخ، هنا ثلاثة منها: زعمه أن "الإخوان المسلمين" وإيران هما منبع التطرف في المنطقة، وإغفاله دور المملكة الرسمي في  الفكر المتطرّف في العالم الإسلامي. مرتبط بذلك نفيه المعلوم نصا ومنطوقا من أن الفقه "الوهابي" هو الذي ساد عقودا طويلة في المملكة، عبر تحالفه، منذ القرن الثامن عشر، مع آل سعود، وهو التحالف الذي ترتب عليه إقصاء المذاهب الفقهية الإسلامية الثلاثة في السعودية، المالكية والحنفية والشافعية، وفرض فهم المدرسة الوهابية لمذهب الإمام أحمد بن حنبل. وهو فرض لم يقتصر على السعودية، بل إنه شمل مقدسي المسلمين الأعظم، مكة المكرمة والمدينة المنورة، بحيث حرم المسلمون في الحج والعمرة من رحمة سعة الفقه وتعدّده. وبالتالي، يكون تساؤل بن سلمان، في المقابلة، عن تعريف الوهابية، مستنكرا بذاته. زعمه أن "مثلث الشر" المتمثل بإيران والإخوان المسلمين وتنظيمي داعش والقاعدة يريدون نشر الإسلام بالسيف، عكس مقاربة مملكته. للتذكير فقط، فإن المؤسسة الفقهية السعودية، وفي مقدمتها مفتي المملكة الأسبق، عبد العزيز بن باز، رحمه الله، تفتي، وما زالت، أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين الحرب إن لم يقبلوا بالإسلام أو دفع الجزية. هذا هو الفقه السائد، على الأقل إلى اليوم، في السعودية وهي من نشرته ومولته، ومن رحمه، إيديولوجيا، خرجت "داعش" و"القاعدة"، وليس من رحم الإخوان المسلمين، ولا حتى إيران، التي هي الأخرى لها سياسات سيئة تضاهي سوء سياسات السعودية، في سياقات أخرى.
كل هذا الضرر، وغيره الكثير، أوقعه بن سلمان، وهو مستعد لإيقاع خرابٍ أكبر في فضاء العروبة والإسلام. من أجل ماذا؟ من أجل مُلكٍ يبتغيه على حساب دمار أمة وشعوب ومنطقة.
"العربي الجديد"