بين غمرة الملفات الحياتية الضاغطة التي تطبق على انفاس المواطن اللبناني ووقوفه الحذر على عتبة استحقاق انتخابي طال انتظاره، اخذت الاجواء اللبنانية انفاسها مع هبوط الطائرة الدبلوماسية السعودية ربوع الوطن، مخلفة "صدمة" توسم فيها الشارع اللبناني "الايجابية"، وهذا ما انسحب ايضا على اجواء اغلب القوى والاطراف السياسية التي رحبت بالعودة السعودية حد وصولها للوقوف على "الحافة" ولكن دون ان تسمح لنفسها الغوص اكثر في النوايا السعودية والمأمول من النتائج، متسمكة في آن بخيط الحرص على العلاقة مع الرياض دون اهتزاز ودون ايضاً الوصول الى حد رفع الكلفة.
زيارة الموفد السعودي الأخيرة الى لبنان فسرها البعض بانها تستهدف اعادة لملمة ساحة قوى 14 آذار على ابواب الاستحقاق الانتخابي النيابي والعمل على رأب الصدع بين رأسيه، رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وذلك في اطار تعزيز جبهة المواجهة في وجه حزب الله وتبعاً لها طهران ومشروعها التوسعي في المنطقة. في حين رأى البعض ان الهدف من الزيارة هو اعادة ترميم الصورة السعودية في لبنان بعد ما خلفه حدث استقالة الحريري من تحفظات، وذلك عبر اعادة فتح قنوات التواصل مع الاخير ودعوته لزيارة المملكة. الا ان حقيقة الامر مغايرة في جانب كبير منها عن ما طرح من تفسيرات حول واقع الزيارة، خاصة وان الخطوط الجوية اللبنانية السعودية لطالما كانت مفتوحة امام زيارات صقور وطيور قوى الرابع عشر من آذار، وان مهمة الجمع قابلة للاحياء دون الحاجة لاجراء زيارات بروتوكولية رسمية تشمل الرئاسات الثلاث على ما تمثل الرئاستين فيها، أقله، من توجه سياسي مغاير لسياسية المملكة اضف اليه ما حملته المواقف الصادرة عنها والتي رافقت حدث استقالة الحريري وتحديدا اتهام رئيس الجمهورية ميشال عون المملكة باحتجازه.
اذا زيارة الموفد السعودي الى لبنان أقل ما يقال فيه انه جاء كنتيجة للصدمة الاولى التي خرج بها سعد الحريري باستقالته من على منبر الرياض، حيث استطاعت المملكة من خلال مشهد الاستقالة تهديد خطوط دفاع حزب الله الحكومية التي شلكت المظلة الشرعية التي امنتها لها التسوية الاخيرة بانتخاب الرئيس عون ووصول الحريري الى رئاسة الحكومة، مفرملة من خلال ذلك استمرار الحريري وحكومته من الانزلاق في سياسية حزب الله الذاهبة الى تشريع ابواب التواصل والتعاون مع النظام السوري والسيطرة على هواء القرار الحكومي وتوجهات رئيسه. فكان خيار سقوط الحكومة باستقالة سعودية متلفزة اهون الشرور وانجعها لاعادة التوازن الى دفة القرار السياسي في البلد، فأتت الترجمات بالاجماع الداخلي على عودة الحريري الى لبنان ومن ثم عودته عن الاستقالة وتأكيد الاطراف السياسية على الالتزام بسياسة النأي بالنفس والحفاظ على استقرار لبنان، فاذا بالعودة السعودية الرسمية الى لبنان تحط غير مشفوعة باي جملة اعتراضية قد تتناول من قريب او بعيد حدث الاستقالة سلبا او ايجابا، وانما اتت بشكل زيارة طبيعية وتأكيدا لاستمرار الدور الطبيعي للمملكة في دعم ورعاية لبنان، حيث ان وجودها ليس ظرفي وانما دائم وفق قاعدة التوازن الداخلي ووفق صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، وربما دلالات ذلك يمكن قراءتها من خلال تصريح ولي العهد محمد بن سلمان الاخير باعتباره ان "سعد الحريري الآن وضعه افضل في لبنان"، غامزا من قناة مرحلة انزلاق الحريري في محبة حزب الله ومسايرته التي سبقت الاستقالة.
ولكن أمام هذا المشهد يبقى السؤال ماذا بعد زيارة الموفد السعودي لبنان وهل لبنان امام صدمة جديدة؟
بالطبع تساؤلات عدة تطرح حول فحوى زيارة الحريري الى المملكة والنتائج المرتقبة من عودة العلاقات السعودية- اللبنانية. كل ما يمكن قوله في هذا المجال ومن خلال المعطيات الاخيرة الى ان السعودية مقدمة على مرحلة جديدة في سياستها الداخلية والخارجية، مشرعة فيها ابواب التواصل على مصراعيه، مخترقة بذلك كل صيغ الاحتكار بكافة اشكاله، مطلقة العنان لآفاق جديدة في ملفات استراتيجية حساسة. من هنا فإنّ دعوة الحريري لزيارة المملكة ليست سوى للتاكيد على دوافع الاستقالة ونتائحها وتأكيد الحريري التزامه بكسب الرهان. وفي هذا المجال لا بد من الاشارة ايضا الى الاجندة السعودية الجديدة التي تسعى المملكة لانفاذها، حيث قامت مؤخرا بنشر لائحة بالشركات التي اختارتها لبناء أول مفاعلين نووين ضمن برنامج يمكن ان يشمل 16 مفاعلا يتزامن ذلك مع محادثات بينها وبين واشنطن للحصول على التكنولوجيا الضرورية لبناء هذه المفاعلات. أضف الى ذلك دعم المملكة مشروع توطين التصنيع العسكري من خلال تشكيل شركة للصناعات العسكرية لديها. على ما يحمل ذلك من انعكاسات قد تشكل صدمة مدوية غير معروف مدى ارتداداتها ومن ستطال من الدول.
(ميرفت ملحم - محام بالاستئناف)