2024-11-26 06:23 م

معادلة البحر: كيف حوَّل حزب الله كنز الغاز الاستراتيجي الى نقطة قوة؟

2018-02-17
"لولا النفط لكانت منطقة الشرق الأوسط مثالاً للاستقرار والسلام. فقد شكلت مصادر الطاقة التي تم اكتشافها مع بداية القرن العشرين نعمة ونقمة لدول المنطقة. هذه المصادر، تُعتبر من العوامل الرئيسية التي تتغير على إثرها السياسات وهي التي تُحدِّد شكل الصراعات الحاصلة والتي كانت سبباً في إعادة رسم الخريطة الجغرافية للمنطقة أو تقسيمها"، بهذه الكلمات اختصر المفكر أفرام نعوم تشومسكي عام 2004، أسباب غزو أمريكا للعراق.

الكلام ما يزال ساري المفعول، طالما تمتلك منطقة الشرق الأوسط مصادر الطاقة التي شكَّلت الأساس المادي لمعظم الصراعات في المنطقة. واليوم، فإن اكتشاف الغاز في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط شكَّل دافعاً أكبر لهذه الصراعات. فالدول المُطلة على هذا الحيز الجغرافي وتحديداً سوريا ولبنان وفلسطين، أصبحت تدخل حسابات الدول والأطراف ولكن من بوابة الثروة النفطية، وباتت تُشكِّل مسرحاً لصراعات سياسية وعسكرية خفية، هدفها السيطرة والتحكم بمستقبل تدفق الطاقة من هذه الدول الى السوق العالمية.

وفي ظل هذه الصراعات، يسعى الكيان الإسرائيلي للتحكم بهذه المطامع. فمنذ مطلع الألفية الجديدة، اعتبر الخبراء السياسيون والاقتصاديون، أن منطقة شرقي البحر المتوسط، تحوي "كنز إسرائيل الاستراتيجي" وهو ما يجب ادخاله في الحسابات العسكرية والسياسية. لكن تطور الصراعات في المنطقة بين محور المقاومة و"تل أبيب"، فرض العديد من المعادلات السياسية والعسكرية التي أثَّرت بالنتيجة على الأبعاد الأمنية والعسكرية والسياسية لقدرة "تل أبيب" على إدارة هذا الكنز. في حين شكَّلت معضلة "الشرعية" التي يعيشها الكيان الإسرائيلي وارتباط الغاز ببديهيات السوق، سبباً في تراجع القيمة الاستراتيجية له. ما خلق تحديات عديدة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأمنيا، جعلت حسابات "تل أبيب" الاستراتيجية خاضعة لواقعٍ مُعقَّد لم يتمكن العقل الإسرائيلي من السيطرة عليه حتى الآن.

اليوم يعيش الكيان الإسرائيلي حالة من التخبُّط في ظل التبدُّل في موازين القوة. فقد تغيَّرت الموازين لا سيما العسكرية وبات مضطراً للتفكير ملياً، لارتباط الحسابات العسكرية بالاقتصادية والسياسية. وهو الأمر الذي جاء كنتيجة للصراعات القائمة حيث يفرض محور المقاومة معادلاته.


ومن بين هذه المعادلات، معادلة البحر الجديدة التي فرضها حزب الله عام 2006، والتي أحدثت تحولاً في مسار الحرب حينها، ظهر متأخراً، لكنه أدخل القيادة العسكرية والسياسية في حسابات المخاطر الكبرى التي يُشكلها حزب الله في إدارته العسكرية للصراع لا سيما على المدى الاستراتيجي.

حالياً، يجري الحديث عن تهديدات إسرائيلية، للغاز اللبناني في شرق البحر المتوسط. ويجري معها الحديث عن احتمالات الحرب. يقرأها البعض حرباً نفسية ومحاولةً إسرائيلية للشعور بالقوة. في حين يتعاطى معها البعض على أنها تعبيرٌ عن حربٍ وشيكة. وبعيداً عن الدخول في جدال وقوع الحرب، نجد لزاماً تقديم قراءةٍ جديدة حول الواقع الحالي لحسابات الأطراف تجاه مصادر الطاقة في المنطقة بالإضاءة تحديداً على حسابات الكيان الإسرائيلي الخاصة بالغاز وكيف استطاع حزب الله فتح صفحةٍ من المعادلات العسكرية الجديدة والتي لها آثار أمنية واقتصادية وسياسية. فكيف تحوًّلت الأولويات الإستراتيجية للدول والأطراف من النفط الى الغاز في المنطقة؟ وما هي انعكاسات هذا التحوُّل على حسابات الكيان الإسرائيلي؟ ولماذا يُشكِّل هذا الكنز الاستراتيجي مُعضلة جديدة للكيان؟ وما قصة معادلة البحر التي فرضها حزب الله عام 2006 وباتت السقف الأدنى لمعادلات محور المقاومة اليوم؟

التحوُّل في أولويات الدول من النفط الى الغاز!

منذ العقد الماضي تحوَّل اهتمام الدول والأطراف الى غاز البحر المتوسط. فبعد أن شكَّل النفط والغاز محور السياسات في المنطقة، والعامل الرئيس في تفاعلات دولها مع الغرب وفيما بينها، احتل غاز شرق المتوسط أهمية استراتيجية جعلته محركاً للسياسة في المنطقة بعد النفط الخليجي. ما ألقى مفاعيله السياسية والاقتصادية على عدد من بلدان المنطقة، لا سيما مصر وفلسطين المحتلة ولبنان وسوريا وتركيا وقبرص واليونان. حيث أنه ومنذ التسعينات أثَّر اكتشاف الحجم الضخم لاحتياطات الغاز في شرق البحر المتوسط، على سوق الطاقة المحلي والعالمي إن على مستوى الاستهلاك والسعر أو على مستوى البيع والشراء بين دول المنطقة. وهو ما انعكس على المصالح الاقتصادية للأطراف الإقليمية والدولية، وبالتالي على المصالح السياسية وما يتعلق بمجمل هذه المصالح من حسابات الحرب والسلم ومعادلات الصراعات.

أثر التحوُّل على الكيان الإسرائيلي

إن تبدُّل الحسابات الاستراتيجية للأطراف الغربية نتج عن التحوُّل في اهتمامات الطاقة، حيث تم إيلاء الأهمية للغاز الذي يحويه البحر المتوسط، في محاولة لجعله بديلاً عن الغاز الروسي، وهو ما أثر في الحسابات الخاصة بالكيان الإسرائيلي. لماذا؟

- ينظر المُخطط الإسرائيلي الى الغاز في شرق البحر المتوسط، على أنه كنز استراتيجي يوفر أكثر من حاجة المستوطنات والمصانع من الطاقة. مما يعني أن الاستحواذ عليه والتحكم بمستقبله هو من الأمور التي تُمكِّن الكيان من استثمارها على الصُعد كافة لا سيما السياسية والعسكرية. خصوصاً أن هذه السيطرة تعني امتلاك "تل أبيب" لورقة ذات قيمة استراتيجية تُمكِّن الكيان من لعب عدة أدوار بالوقت الذي تُمكِّنه أيضاً من حجز مكانة لها في التسويات التي تخص صراعات المنطقة.

- يعتبر المُخطط الإسرائيلي أن ما يفيض من الغاز على الحاجة الإسرائيلية، يضمن مصلحة اقتصادية وتجارية للكيان، حيث تتحول "تل أبيب" إلى مركز لتصدير الغاز في هذه المنطقة بل كمتحكم في لعبة سوق الطاقة العالمية.

من هنا، فإن العقل الإسرائيلي يسعى لاستثمار هذا الكنز وعلى كافة الأصعدة. وهو ما يرى فيه المُخطِّط، آثاراً سياسية واقتصادية تُرسِّخ الطرف الإسرائيلي كقوة إقليمية كبيرة بمعزل عن الحاجة للدعم الأميركي، وتجعله يستند على أساس اقتصادي سينعكس مستقبلياً على المصالح الإستراتيجية والبنية الداخلية للكيان. وبالتالي، أدخلت "تل أبيب" هذا الكنز في حسابات أمنها القومي. من هنا يمكن فهم أسباب التغيرات الحاصلة في المنطقة لا سيما على صعيد بنية بعض الأنظمة، وعلاقتها بالكيان الإسرائيلي، ومساعي التطبيع الحاصلة.
بعد إبراز أهمية هذا الكنز الاستراتيجي بالنسبة للكيان الإسرائيلي، يأتي السؤال حول معضلة الكيان في التعاطي مع هذا الكنز.

مطامع "تل أبيب": معضلة الكنز الاستراتيجي بين الواقع والمُخَطط

كان سهلاً على الكيان الإسرائيلي اعتبار الغاز في البحر المتوسط كنزاً استراتيجياً. لكن القدرة على الاستفادة من هذا الكنز، تبقى رهن قدرة "تل أبيب" على الخروج من مخاطر ثلاثة واقعية لا تنعكس على ملف النفط والغاز فقط بل على الأمن القومي الإسرائيلي. وهو ما نُشير له فيما يلي:

أولاً: الخطر الاقتصادي

يكمن الخطر الاقتصادي الذي يؤثر على قدرة الكيان الإسرائيلي في إدارة هذا الملف، بارتباط الغاز، كغيره من مصادر الطاقة، ببديهيات سوق الطاقة العالمي. الأمر الذي تحكمه عادة التسويات بين الأطراف، وهو ما تفتقده "تل أبيب" لأسباب تتعلق بشرعية وجودها بالإضافة الى النظرة الحقيقية للاعبين تجاه المصالح والتي تتخطى الإعتبارات السياسية. وهنا فإنه من خلال مراجعة سلوك شركات النفط العملاقة فيما يتعلق بالغاز في الشرق الأوسط، يبدو واضحاً توجهها الحالي والمستقبلي نحو الاستثمار مع كل من الدول ذات الشرعية كمصر وقبرص منذ سنوات ولبنان وسوريا - مع بدئهم استقطاب عقود الشركات حالياً - دون توجه الى الكيان الإسرائيلي. فوجدت "تل أبيب" نفسها خارج حسابات اللاعبين الكبار. أمام هذا الواقع ماذا فعلت "تل أبيب"؟

رضخت "تل أبيب" للواقع الحالي، والذي يفرض عليها التفكير بالشراكة مع الآخرين دون السعي للتفرد. وهي ستخضع بالتالي لسياسات سوق الطاقة وآلياته. في حين تسعى "تل أبيب" لجعل الغاز محور المصالح المشتركة مع الدول العربية ذات العلاقة معها، وهو ما يُبرِّر مساعي التطبيع الإقتصادية المنشأ والسياسية الظاهر. لكن التفكير الإسرائيلي بالمنحى الإقتصادي وكيفية تأمين عامل الإستقرار الذي يحتاجه السوق لجذب اللاعبين، يواجه تحديات ومخاطر أخرى.

ثانياً: الخطر السياسي

يرتبط هذا الخطر بشكل مباشر بالمعضلة الاقتصادية حيث تخضع التوجهات السياسية للمصالح الاقتصادية، وهو ما يجعل الغاز رهناً لتسويات سياسية تأخذ الواقع الاقتصادي له بعين الاعتبار. الأمر الذي لا تمتلكه "تل أبيب". حيث أن المصالح الاقتصادية للاعبين لن تستطيع مراعاة الواقع الخطير الذي تعيشه المنطقة. وهو ما يُبرِّر مساعي واشنطن الحالية لضمان الحصة الإسرائيلية في محاولة لتأمين هذا العامل.

ثالثاً: الخطر الأمني والعسكري

يتعلق الخطر الأمني والعسكري المتعلق بالغاز، بالواقع الجيوسياسي والجيوعسكري لشرق البحر المتوسط. وهو ما دخل في معادلات الصراع والتي سنُبينها فيما يلي.

الخطر العسكري: حزب الله ومعادلة البحر

كيف يمكن شرح معضلة الخطر الأمني والعسكري الإسرائيلي وعلاقة ذلك بالتحوُّل في معادلات الصراع بين محور المقاومة والكيان الإسرائيلي؟


ينطلق البحث في معضلة الخطر الأمني والعسكري والتي تتعلق بكنز الغاز الإستراتيجي لـ"تل أبيب"، من معادلة جديدة أرساها حزب الله عام 2006 وهي معادلة البحر. معادلة أضافت لمحور المقاومة قدرة على المناورة العسكرية والأمنية، وتحسين شروط لعبة الصراع لصالحه. تقوم هذه المعادلة على استهداف نقاط قوة جديدة للكيان وتحويلها الى تهديد له، مع التركيز على نقاط القوة الإقتصادية للعدو. وهنا نُشير للتطور المرحلي والزمني في استفادة محور المقاومة من هذه المعادلة:

- قبل العام 2006 كانت عدة نقاط اقتصادية لا سيما المجمعات الترفيهية والصناعية شمال فلسطين المحتلة هدفاً لصواريخ حزب الله.
- خلال  حرب 2006 استهدف حزب الله البارجة الحربية "ساعر 5" بصاروخ أرض بحر، كما تم استهداف ميناء حيفا الاقتصادي.
- خلال عام 2012 قُصفت "تل أبيب" للمرة الأولى بصواريخ المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة.
- خلال حرب 2014 غطت صواريخ المقاومة الفلسطينية كل الأراضي الفلسطينية وتم استهداف منصة "نوعا" البحرية بصاروخين أُطلقا من قطاع غزة.

كيف أثَّر هذا التحوُّل على المُخطِّط الإسرائيلي؟

أهم تأثيرات هذا التحول ظهرت من خلال التالي:

أولاً: تعرُّض السلاح البحري الإسرائيلي للخطر: خلال العام 2006 كان استهداف حزب الله للبارجة الحربية "ساعر 5" كابوساً جديداً على الجيش الإسرائيلي، وبداية تهديد فعلي خارج معادلات البر المُعتادة. وهو ما لم تشعر به "تل أبيب" منذ حرب 1967 عند اغراق المدمرة "إيلات".

ثانياً: تعرُّض المنشآت النفطية للخطر: هذا التحوُّل، لم يستهدف السلاح البحري للجيش الإسرائيلي، بل شرَّع جعِل منشآت حقول الغاز هدفاً لنيران المقاومة، وأثبت ضعف الإجراءات العسكرية المعتمدة لتأمين المنشآت النفطية. مما اضطر حكومة العدو الى رفع ميزانية خاصة لتأمين الجبهة البحرية للكيان وإضافتها الى ميزانية تأمين الجبهة الداخلية. ليُصبح الخطر على هذه المنشآت مُساوياً للخطر على الداخل الإسرائيلي!

 ثالثاً: تعديل جوهري في القوة البحرية الخاصة: حيث عمل الجيش الإسرائيلي على تشكيل قوة بحرية خاصة تُساند القوة الجديدة، من خلال إضافة تعديلات على وحدة حرس السواحل كما تم إنشاء قوة حماية خاصة للمنشآت البحرية النفطية تتمتع بأهم وسائل الحماية البحرية العسكرية كماً ونوعاً ورُبطت مباشرة برئاسة الأركان العسكرية. وتمت توسعة نطاق عمل هذه القوة ليشمل المياه الدولية قبالة الساحل الجنوبي اللبناني وصولاً الى رفح. حصلت عملية تطوير القوة البحرية الإسرائيلية بالتعاون مع القوات الأمريكية التي زوَّدت الجيش الإسرائيلي بمنظومة مراقبة واستطلاع ورصد وإنذار مبكر تمتلك تقنيات جديدة تكونت من أنظمة استشعار مُتصلة بالأقمار الصناعية، لمراقبة الجبهة البحرية وحماية المنشآت النفطية. بالإضافة الى أنظمة دفاع صاروخي وأخرى هجومية لإستخدامها في عملية الضربات الاستباقيه للأهداف البحرية.

الخاتمة والقراءة المستقبلية

من خلال ما تقدم، يبدو واضحاً أن الكيان الإسرائيلي لم يعد قادراً على التحكم بمعادلات الصراع التي باتت أقوى منه وعلى الصعد كافة، حيث بات مضطراً للتفكير بنتائج أي سلوك. ولأن التوجهات الإسرائيلية الحالية تتحدث عن مساعي لتحقيق الخمسين بالمئة من القدرة التشغيلية لحقول الغاز التي يسيطر عليها الكيان، فإن الهدوء والإستقرار بات شرطاً تسعى "تل أبيب" لتأمينه لأسباب تتعلق بشروط السوق وذلك لضمان المصلحة الغربية وجذب اللاعبين. لكن الغرب الذي ينظر لغاز البحر المتوسط كبديلٍ عن الغاز الروسي، ما يزال يجد في الواقع الذي تعيشه المنطقة خطراً غير قابلٍ للحل. حيث تفتقد "تل أبيب" للشرعية الذاتية كطرف، بالإضافة لإفتقادها لشرعية التصرف بما لا تملك. شرعية باتت رهن معادلاتٍ جديدة تكبح جماح استخدام "تل أبيب" للقوة بهدف السيطرة على مطامع ومنابع المنطقة. بالإضافة الى كل ذلك، تأتي طبيعة الصراع القابل للإنفجار في أي لحظة، في ظل التغيُّر في سقف المعادلات، حيث أن أي مواجهة ستبدأ من حيث انتهت آخر المعارك. هكذا باتت "تل أبيب" تعيش تحت رحمة معادلات حزب الله. فهل يرضخ الكيان الإسرائيلي، لهدوءٍ طويل الأمد؟ أم يختار مساراً بات معروف النتائج؟

 باحث في إدارة المنظومات والشؤون الاستراتيجية