عامر محسن
«تمّ (في الصحافة الأجنبية) الاحتفاء بصعود «المستهلك الايراني»، الذي يتمتّع بقدرة شراء غير محدودة وبأذواق غربيّة. ولكنّ ما يغيب عن هذه التقارير هو أنّه، تحت هذه الطبقة الوسطى ــــ العليا في ايران، تقبع قاعدة اجتماعية حجمها أكبر بكثير، ووظيفتها الاقتصادية الأساسية ليست الاستهلاك، بل الانتاج» ــــ اسفنديار باتمانغاليجي
كما مع كلّ حدثٍ يجري داخل ايران، سواء كان مظاهرات شعبية أم أزمة اقتصادية أم انتخابات ــــ أو حتّى زلزال ــــ تخرج ردود الفعل «المتوقّعة» (من الإعلام الغربي، من المعارضة الايرانية في الخارج، من الاعلام العربي ونخبه، الخ) وهي كلّها تتكلّم عن نفسها وعن طموحاتها وخططها ورغباتها أكثر بكثيرٍ مما تتكلّم عن ايران.
كما كتب الباحث الايراني اسكندر صادقي ــــ بوروجردي معلّقاً على الاحتجاجات الأخيرة، فإنّ ممّا يصعّب النّقاش حول ايران، ويرفع حجاباً حول ما يجري داخلها، هي عادة الحكّام والنّخب في الغرب بادخال أي احتجاجٍ أو مظاهرة أو حركة اعتراضٍ، مباشرةً، تحت خانة «تغيير النّظام»، واعتبار أنّ النّاس في الشّارع الايراني تتكلّم باسمهم (وهو ما يسمّيه الكاتب «الاستحواذ على الشّعب»). في بلادنا، كما العادة، البعض يتبنّى ويقلّد هذه النّزعات، ثمّ يأخذها الى أبعادٍ أكثر تطرّفاً، بل إنّ ناشطين عرباً قد جزموا بأنّ أحداث ايران نذير لاندثار الدّين فيها وفي المنطقة، أو نهاية «الاسلام السياسي»، أو كلّ ما قد يحلم به القائل ويرغبه. المشكلة هنا، يقول صادقي ــــ بروجردي، لا يقتصر على مسألة الاسقاطات أو مصادرة «الشعب» أو التضامن الكاذب (أن تتضامن «مع نفسك» نرجسيّاً وانت تعتبر أنك تتماهى مع أناسٍ آخرين)، المشكلة الأساس هي أنّ معادلة «كلّ شيء أو لا شيء»، كما يسمّيها، تمنعنا من معرفة حقيقة ما يجري في البلد، والهموم الفعلية للناس وحقيقة مطالباتهم، أو حتى بناء نقاشٍ عن ايران على أساسٍ واقعي.
خطاب «الثّورة في ايران» عليه أن يتجاهل، من هنا، وقائع كثيرة؛ منها أنّ المظاهرات الابتدائية في مشهد قد حظيت بتأييد المحافظين مثلاً، وقد حظي المتظاهرون بدعم خطيب الحضرة الرّضوية يوم الجّمعة، وتناقلت تصريحاته وسائل أنباءٍ محافظة على نحوٍ تأييدي. الخطاب الذي ينطلق من أنّ النّظام «فاقد لشرعيته» عليه أن يتناسى أن البلد خرج للتوّ من انتخابات رئاسية، شارك فيها أكثر من 70% من النّاخبين. وعلى هذا الخطاب ايضاً أن يتجاهل الفارق بين جمهور «الحركة الخضراء» عام 2009 وبين جمهور الاحتجاجات القائمة، أو أنّ احتمالات «الثّورة الملوّنة» في ايران ليست سهلاة. هذا، بالمناسبة، يعود لأسبابٍ عديدة، منها أنّ نموذج «الثّورات الملوّنة» لا يمكن أن ينجح عبر المظاهرات والحملات الاعلامية والدعم الخارجي وحده، بل هي تحتاج دوماً (كما رأينا في اوكرانيا وقيرغيزستان وجورجيا ومصر) الى «لحظة عنف» تكلّل هذا المسار وتستلم الحكم بالقوّة: احتلال المتظاهرين لمبنى البرلمان، طرد الرئيس المنتخب بالقوّة، دخول الضبّاط على الرئيس ليبلغوه بأنّهم ينفّذون «قرار الشّعب». ومن دون «لحظة التتويج» هذه، وهي بالتعريف غير قانونيّة وغير شرعيّة (وغير ديمقراطيّة)، فمن الصعب أن تصل المظاهرات الى مكان أو تقلب نظاماً (هذا، بالمناسبة، هو العنصر الذي تنبّه اليه وليد جنبلاط وحده في «14 آذار»، وشدّد على ضرورة أن تتكلّل التظاهرات باقتحام القصر الجمهوري وتغيير النّظام بالقوّة. وهو قد كرّر مراراً، في السنوات الماضية، أنّ فشل «14 آذار» كان تحديداً في الاستنكاف عن هذا الفعل الحاسم حين كانت الفرصة تلوح).
عن الطّبقة العاملة في ايران
يحاجج اسفنديار باتمانغاليجي بأنّ الاهتمام الاعلامي الغربي بايران اثر الاتفاق النووي قد تركّز على مثال «الايراني الجديد»، الذي يعيش في المدن الكبرى ويسعى الى شراء الماركات الأجنبية وينشىء شركات الـ«ستارت اب»، فيما أنّ «المنسي» في ايران، بحسب باتمانغاليجي، هو العامل الايراني «العادي»، الذي لا يتمتع بهذه الصفات ولا يملك هذه الأولويات ولكنّه يمثّل السّواد الأعظم من الشّعب. يلفت الباحث الى وجود طبقة عاملة في ايران يزيد حجمها على 27 مليون موظّف، تمثّل أكبر طبقةٍ من نوعها في الشرق الأوسط؛ تماثل حجم الكتلة العمّالية في تركيا وتوازي ضعف عددها في السّعودية (أجانب ومواطنون، عمّال منتجون وموظّفو دولة). هذه الفئة المنتجة، بحسب الباحث، قد بنتها الدولة أساساً بالاعتماد على طفرة الولادات التي حصلت اثر الثورة الاسلامية عام 1979 ــــ للمقارنة، كان حجم الكتلة العمالية في ايران عام 1991 أقل من 15 مليون عامل، وكانت توازي ثلثي عدد العمّال في تركيا. هذه الكتلة، التي يعمل الملايين من أبنائها في الصناعات الثقيلة والمؤسسات العامة والقطاعات الانتاجية التي انشأتها الدولة مذّاك، هي أكثر النّاس تأثّراً بغياب الاستثمار والبطالة، وأوّل من يتأثّر برفع الأسعار وتخفيض التقديمات. من هنا، يضيف الكاتب، حين بدأت حكومة روحاني بالتفاوض على الاتّفاق النووي، وجرى رفعٌ جزئي لبعض العقوبات عن ايران، أصرّ المفاوضون على أن يحظى قطاع صناعة السيارات بهذه الإعفاءات لا لأنّ قطاع السيارات حيويّ واستراتيجيّ في ايران، بل لأنّه يوظّف مئات الآلاف من العمّال، وهم تحديداً الفئة التي يجب أن تشعر بـ«فوائد» الاتفاق الدولي حتى تصطفّ خلف حكومة روحاني معه.
من جهةٍ أخرى، يكتب باتمانغاليجي (وهو ليبرالي اقتصادياً، ومؤيّد اجمالاً لسياسات روحاني)، فإنّ سياسات روحاني «النيوليبرالية»، التي تركّز على خفض ميزانية الدولة وتقليص الانفاق الاستثماري والتخلّص من مؤسسات القطاع العام، قد أدّت الى تهميش هذه الفئة تحديداً، وخفض مستوى معيشتها في زمنٍ ارتفعت فيه التوقعات والوعود. ما زاد الطين بلّة كان اعتماد روحاني، على نهج «توافق واشنطن»، على تدفّق استثماراتٍ أجنبية وخاصّة تعوّض نشاط الدّولة، ورهانه على «الانفتاح» اثر الاتّفاق النووي، وهذه الآمال لم تتحقّق. حتّى نفهم من اين تأتي الوظائف في ايران فإنّه من المفيد أن ننظر أوّلاً الى توزّع الدّخل في البلد. يخبرنا الباحث جواد صالحي ــــ اصفهاني (في تحليلٍ للميزانية الايرانية الأخيرة) أنّ في ايران ميزانيّتين للقطاع العام: الأولى هي الميزانية العامّة للدولة، وتضمّ كلّ النفقات «الاعتيادية» من الرواتب الى الدفاع الى الاستثمار الخ. هذه توازي تقريباً 23% من الناتج القومي في ايران، وهي نسبة تقارب المعدّل في العديد من الدول المحيطة. أمّا الميزانية الثانية فهي خاصّة بالشركات العامّة والمملوكة للدولة وقطاعها الانتاجي، وهذه حجمها أكبر من الميزانية الأولى بضعفين، فتصل قيمتهما سويّة الى 68% من الناتج القومي في ايران (ولمن يختزل الاقتصاد الايراني في أنّه اقتصاد «ريع» ونفط، ويقارنه بالدول الخليجية الصغيرة، فإنّ عائد النّفط يمثّل السنة 25% فحسب من «الميزانية الصغيرة»، فيما الضرائب تجلب 30% من العائدات).
من هنا ايضاً، يمكن لنا أن نفهم تأثير لجم الاستثمار والانفاق العام على التوظيف وحالة الطبقة العاملة، في بلدٍ أكثر الدخل فيه يتولّد من نشاط الدولة. لهذه الأسباب، يقول صالحي ــــ أصفهاني، ارتفع معدّل البطالة في ايران باستمرارٍ طوال سنوات روحاني الخمس، على الرغم من أن الظروف الدولية والنقدية قد تحسّنت بشكلٍ كبير في عهده. وميزانية السنة ــــ التي تمّ اقرارها منذ فترةٍ قريبة ــــ لم تكتفِ بخفض الانفاق الاستثماري مجدداً، بل انطلقت ايضاً الى تفكيك آخر مشاريع التقديمات الكبرى التي أطلقها أحمدي نجاد: المنحة المالية المباشرة للمواطنين، التي استبدلت الوقود المدعوم، وقد عارضها روحاني منذ بداياتها، يقول الباحث، وترك التضخّم يأكل من قيمتها ثمّ بدأ هذه السنة باجراءات الغائها تدريجياً (هذا رغم أن المؤسسات الدولية، في وقتها، امتدحت برنامج الدعم المباشر ودوره في خفض الفقر للفئات الدنيا في البلد).
المفتاح: قصّة أحمدي نجاد
لو أردنا التبسيط، فإنّ ثورة الخميني والنظام الذي انبثق عنها قد نجح في مسألتين أساسيّتين. هو، من جهة، قدّم اجابةً على السؤال الذي ندور جميعاً حوله في الشّرق منذ أكثر من قرن: مصدر الشرعية، نظريّة الحكم، وكيف تخلق نظاماً حديثاً بشروطك، يدّعي تمثيل «الإرادة العامّة» ويعيد انتاج نفسه بكفاءة. من جهةٍ أخرى، نجح النّظام ايضاً في امتحان الاستقلال والهويّة، وتحديد ماهية الـ«نحن» وموقع ايران في النظام الدولي، والحفاظ على السيادة بثمنٍ باهظ. ولكنّ المسألة الاقتصادية لم تُحسم يوماً، وظلّت موضع نزاعٍ واختلاف. هناك مثلاً، من ناحية، التوجيهات الأخيرة للمرشد بالتزام بمبادىء «اقتصاد المقاومة»، لمواجهة الظرف الدولي ومخاطره، ولكنّك تجد ايضاً التزاماً مماثلاً، عمره أكثر من عقدين، يحضّ على الخصخصة والاعتماد على القطاع الخاص (وهذه التوجيهات تكون عمومية الى درجة أن السيد الخامنئي، مؤخّراً، قام بلوم حكومة روحاني على عدم التزامها بمبادىء «اقتصاد المقاومة»، فكان جواب روحاني أنّه يفعل ذلك بالفعل، ولكنّه اختلاف على التفسير). بل إنّ واجهة السياسيين والنّخب في ايران، ومن يصل الى الحكم والمراكز العليا في البيروقراطية، أكثرهم من «الليبراليين» الاقتصاديين، وهم قد حكموا ايران فعلياً منذ أيّام رفسنجاني الى اليوم مع استثناءٍ واحدٍ بارز، هو تجربة أحمدي نجاد.
«السردية العامّة» حول أحمدي نجاد، وفي الإعلام الايراني قبل غيره، هي أنّ سياساته «الشعبوية» مصدر كلّ المشاكل، وأنّه عيّن جهلةً في مواقع حساسة وأقصى الخبراء، وأنّ روحاني قد جاء ليصحّح ما اقترفه الرئيس السابق. المشكلة هي أنّني أنظر الى الأرقام وأرى شيئاً مختلفاً، اذ يمكنك أن تصنع سردية معاكسة تعتبر أنّ أحمدي نجاد، فعلياً، قد قاد البلد وسط أصعب ظروف الحصار، وهبوط صادرات النفط بأكثر من النصف، وحربٍ نقدية شرسة، وخرج منه سالماً؛ بل وحصل ارتفاعٌ ملحوظ في مستوى حياة العامّة في عهده، وتمّ بناء قدراتٍ كبيرة في أكثر من قطاع سمحت للبلد بتجاوز العقوبات في مجالات حساسة (من الدفاع الى استخراج الغاز)، وقد حصل نموٌّ في أكثر تلك السنوات مع ذلك كلّه. روحاني، بالمقابل، حظي بظروفٍ مثالية، وأفرج في عهده عن عائدات النفط المحتجزة، ومع ذلك لم يرتفع مستوى الحياة ولم تنخفض البطالة، وأنفقت أرصدة الدولة على مشاريع «الاستقرار النقدي» وعلى تغذية المصارف بدلاً من الصناعات (وسياسات «التسرّب الى تحت» ــــ trickle down economics ــــ هذه، في أكثر دول الجنوب، أثبتت أنها لا تحفّز الاستثمار والتوظيف، بل تذهب الرساميل الى حيث الربح مضمون وسريع، ولو في قطاعات غير انتاجية، وتهرّب الأرباح الى الخارج أو تُستخدم للاستيراد).
ما يزعجني شخصياً في هذا الجّدال هو أنّه، رغم إجماع النخبة الايرانية على رفض أحمدي نجاد وتقييمه سلباً، فهو كان، كلّما عرض على الامتحان الشعبي، يفوز بفوارق هائلة. وبدلاً من أن يعترف الإصلاحيّون بالهزيمة بعد اعادة انتخابه عام 2009، حاولوا التشكيك في شرعيّته، والانقلاب عليه، وقادوا ضدّه مواجهة شعبية شرسة (في وقتٍ كان البلد فيه معرّضاُ لخطر الحرب في أيّ يومٍ، ويواجه حصاراً دولياً). ولكن، هنا جزءٌ من مفتاح الوضع في ايران. أصوات اليوم تختلف عن «الحركة الخضراء»، وإن لم يُنجز انقلابٌ يومها (حين قاد موسوي ومن معه نسبةً معتبرة من الناخبين الايرانيين، تصل الى 30% وتضمّ أكثر النّخب، خلفهم في انقلابٍ داخلي) فهو لن يُنجز اليوم حين تخرج الأصوات من دوائر مختلفة وغير منسجمة وغير منظّمة ــــ آفّة التحليل العربي في هذه الحالات هي أن يقول التقرير الإخباري أنّ متظاهرين قد هتفوا بنداء كذا، ثمّ يبني على ذلك تحليلاً ويستخرج نوايا المتظاهرين. كما كتب اسكندر صادقي ــــ بروجردي عن هتافات «لا لغزّة، لا للبنان»، مثلاً، فهي حقيقةً ليست تعليقاً على السياسة الخارجية بقدر ما هي تعبير عن «عنصرية وعداء للأجانب وللعرب» على حدّ تعبيره، وتشبه شعارات الفقراء في أحزاب اليمين في الغرب، حين يشعرون بالفاقة فيلومون الأجانب على محنتهم. بعيداً عن سوء التفسير والتأويل الرغبويّ، فإنّ الأصوات في شوارع ايران تعبّر عن إشكالٍ أبعد من المظاهرات وأعمق، وخياراتٍ مصيريّة لن تحدّد مسار المواجهة بين ايران والغرب فحسب، بل مستقبل الشعب الايراني وتجربته ككلّ.
(الاخبار اللبنانية)