أشار مقال تحليلي للكاتب الصحفي والأكاديمي السوداني، ياسر محجوب الحسين، إلى أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأخيرة إلى السودان، فخخت الصراع المكتوم حول البحر الأحمر.
ورأى الكاتب، في مقاله المنشور بموقع "الجزيرة نت"، أن العلامة البارزة في زيارة أردوغان للخرطوم، أيام 24 و25 و26 ديسمبر/كانون الأول الحالي، هي زيارته لبورتسودان وسواكن على الساحل الغربي للبحر الأحمر، اللتين تبعدان عن العاصمة الخرطوم نحو 675 كيلومترا.
وأضاف: ليس هذا فحسب، إذ أعلن أردوغان من هناك موافقة نظيره السوداني عمر البشير على خطة تركية لتطوير جزيرة سواكن التي تضم منطقة أثرية تاريخية تعود للحقبة العثمانية، الأمر الذي صب مزيدا من الزيت على صراع النفوذ المتنامي في البحر الأحمر في ظل تعقيدات إقليمية مستعصية.
وحاول الجانبان السوداني والتركي تفادي استفزاز الدول الإقليمية، بالإشارة إلى أن الاتفاق يهدف إلى ترميم الأثار وتنشيط السياحة، بحسب الكاتب السوداني.
وقال أردوغان إن "بلاده تهدف إلى ترميم ما دمره الاستعمار البريطاني للجزيرة التي كانت يوما مركزا للدولة العثمانية في البحر الأحمر".
وأكد الرئيس التركي أن "الجزيرة ستكون بمثابة قاعدة انطلاق الأتراك نحو الديار السعودية في طريقهم لأداء الحج والعمرة، ضمن سياحة مبرمجة".
بيد أن تقارير تحدثت في نفس الوقت عن وجود ملحق سري للاتفاق، في إشارة إلى جانب عسكري وسياسي يتعلق بالصناعات العسكرية بين بلاده والسودان، خاصة أن محللين أتراكا تحدثوا عن الأهمية الإستراتيجية والعسكرية لجزيرة سواكن والنابعة من أهمية البحر الأحمر باعتباره ممرا مائيا شديد الأهمية لكل القوى الدولية.
فما انعكاسات الخطوة على صراع النفوذ في البحر الأحمر؟ في ظل دخول كل من تركيا وروسيا على الخط، الأمر الذي يعيد رسم النفوذ في البحر الأحمر ويعكس بالضرورة تغييرا في خريطة التحالفات الإقليمية في منطقة البحر الأحمر الملتهبة بالصراع في اليمن والأزمة الخليجية وحصار دولة قطر، وغير بعيد عن تقاطعات القضية تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير عند مدخل خليج العقبة شمال البحر الأحمر للسعودية.
ظل البحر الأحمر منذ زمن موغل في القدم مسرحا للصراع الدولي بين القوى العظمى في فترات تاريخية متعاقبة. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في نطاق الصراع والتنافس على البحر الأحمر، لفرض نفوذهما على هذه المناطق والاستحواذ على مزاياها الإستراتيجية والسياسية والجغرافية والاقتصادية.
وترتكز أهمية البحر الأحمر الإستراتيجية بشكل أساسي إلى موقعه الجغرافي المؤثر في العلاقات الإقليمية والدولية. ويقع هذا البحر متوسطا قارات العالم القديم الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويشكِّل إضافة لذلك نقطة التقاء إستراتيجية بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي.
ومثّل العام 1869 نقلة نوعية في الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر، وذلك بالتزامن مع افتتاح قناة السويس في مصر لتربطه لأول مرة بالبحر الأبيض المتوسط، فيصبح أقصر وأسرع ممر بحري بين الشـرق والغرب، وبديلا في ذات الوقت لطريق رأس الرجاء الصالح الطويل في حركة التجارة الدولية.
ولاحقا ومع اكتشاف النفط الخليجي الذي أصبح أكبر مشغل لماكينة الصناعة الأوروبية والأميركية، تحول البحر الأحمر إلى طريق نفطي إستراتيجي. وفي نفس الوقت أصبح ممرا لنقل السلع المصنعة من أوروبا إلى أكبر سوق لها في آسيا وأفريقيا، لتدخل كل من الصين واليابان والهند في زمرة القوى الاقتصادية العالمية المؤثرة التي يمثل لها البحر الأحمر ممرا حيويّا لتجارتها وحراكها الاقتصادي.
ويشكِّل البحر الأحمر همزة وصل بين الأساطيل البحرية في البحر المتوسط والمحيط الهندي، وهو الطريق الرئيسية التي تسلكها القوى الدولية لتحريك قواتها بين قواعدها المختلفة والمنتشرة حول العالم ونقلها إلى مناطق النزاع.
الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر وتقاطعات مصالح القوى الدولية والإقليمية تعمل على استدامة المخاطر المحدقة بأمن هذا الممر الحيوي، وهي كثيرة ومتنوعة ومطردة.
وأصبح النفوذ في هذا الممر -وحوله- هدفا لقوى إقليمية مترسخة مثل روسيا والولايات المتحدة الأميركية، أو صاعدة مثل تركيا وإيران وإسرائيل. وتندلق مجمل أوضاع البحر الأحمر في مسار جيوستراتيجي ذي إسقاطات طويلة الأمد على المنظومة الدولية والإقليمية.
واليوم ثمة محوران، الأول: الولايات المتحدة الذي يضم السعودية ومصر والإمارات وإسرائيل من طرف خفي. والمحور الثاني: روسيا ويضم تركيا وقطر والسودان. فيما تبدو إيران متربصة بالبحر الأحمر من البوابة اليمنية. وهي إن كانت واضحة العداء للمحور الذي يضم السعودية، فإنه لا يمكن تصنيفها بأي حال ضمن المحور الذي يضم تركيا.
ولذا يصبح القول إن المنطقة تشهد تحولا جديدا يضم نظاما متعدد التحالفات أكثر من كونه نظامين أو تحالفين، الأمر الذي يعزز فرضية عدم الاستقرار.
ويبدو أن الرئيس أردوغان يعطي أهمية للتواجد العسكري في البحر الأحمر عبر البوابة السودانية، ولا يخفي عزمه إعادة نفوذ تركيا إلى القارة السمراء كما كانت قبل قرن من الزمان، إذ حظيت جزيرة سواكن السودانية بمكانة مهمة في عهد الدولة العثمانية، وكانت مركزا لبحريتها في البحر الأحمر، وضم ميناؤها مقر الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر بين عامي 1821 و1885.
وتراقب تركيا ما يجري في منطقة البحر الأحمر التي تشهد تنافسا محموما للسيطرة والتوسع، فقد سلّمت مصر جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، كما تسعى إسرائيل لإقامة مشروع قناة إسرائيلية موازية لقناة السويس، فضلا عن قناعتها بأن البحر الأحمر والسودان يشكلان معبرا مهما للتعاون التجاري والأمني مع دول أفريقيا.
ومن جهة أخرى، وربما بسبب صعوبة انضمام تركيا لمنظومة الاتحاد الأوروبي، لجأت أنقرة إلى تكثيف انخراطها في المنطقة عموما، ووظفت علاقتها -على سبيل المثال بقطر- تحقيقا لهذا الهدف، ودفعت الأزمة الخليجية وحصار قطر نحو تعميق التعاون بين أنقرة والدوحة، حيث عمد الطرفان إلى تفعيل التواجد العسكري التركي في قطر. ومعلوم أن لدى تركيا قاعدة عسكرية في الصومال، وتعكف على تدريب نحو 11 ألف جندي صومالي.
كما حرصت تركيا على تعزيز علاقاتها مع موسكو وتجاوزت بسرعة أزمة إسقاط الطائرة الروسية، بل وقعت اتفاقا لاستيراد منظومات دفاع جوي روسية تسمى "إس 400". وفي هذا الإطار عقدت مباحثات تركية قطرية سودانية في الخرطوم بالتزامن مع زيارة أردوغان لها، على مستوى رؤساء الأركان في الدول الثلاث.
في ذات الوقت اتفقت قطر مع السودان على إنشاء أكبر ميناء على ساحل البحر الأحمر، وسط تنامي التعاون بين البلدين في العديد من المجالات. وتنوي قطر أيضا تطوير ميناء بورتسودان ليكون أكبر ميناء للحاويات يخدم السودان وجيرانه. الأمر الذي يبطل مستقبلا آثار الحصار المفروض عليها من جانب المحور السعودي.
والميناء السوداني الجديد حال إنشائه سيكون مركزا اقتصاديا حيويا مهما، يؤثر على ميناء جبل علي في دبي وبقية الموانئ التي تسيطر عليها الإمارات في القرن الأفريقي، كما سيعزز من نفوذ قطر على ساحل البحر الأحمر.
وفي إطار هذا الحلف غير المعلن، تسعى روسيا لموطئ قدم في منطقة البحر الأحمر بعد سيطرتها على الأوضاع في سوريا. ومن هنا أتت فرصة العرض السوداني مغرية كثيرا لروسيا.
وكان الرئيس السوداني البشير قد طرح في زيارته الأخيرة لروسيا نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على نظيره الروسي فلاديمير بوتين، فكرة بناء قاعدة عسكرية روسية على ساحل البحر الأحمر، في إطار التعاون العسكري بين البلدين والتأمين وحماية السودان من التربصات الخارجية وخاصة التحركات العدائية للولايات المتحدة الأميركية.
أما محور السعودية ومصر والإمارات، ومن خلفه الولايات المتحدة وإسرائيل، يعمل في اتجاهات مختلفة على السيطرة والنفوذ في البحر الأحمر؛ وتعتبر مصر البحر الأحمر مكانا إستراتيجيا ومهما لأمنها القومي بشكل خاص، لاعتماد اقتصادها بشكل كبير على ما تدره قناة السويس من مدخول.
فيما تعتبر إسرائيل البحر الأحمر إستراتيجيا بشكل خاص، لأنه يعتبر منفذها التجاري مع دول آسيا. ومن قبل بنت الولايات المتحدة الأميركية أكبر قاعدة عسكرية لها في أفريقيا، بدولة جيبوتي التي يتمركز فيها نحو أربعة آلاف جندي.
وتمكنت السعودية من خلال الحرب في اليمن، من السيطرة على عدد من الموانئ المهمة المطلة على باب المندب والبحر الأحمر، فيما تهدف حليفتها الإمارات إلى السيطرة على ميناء الحديدة وهو ثاني أكبر موانئ اليمن، كجزء من الإستراتيجية الإماراتية في محاولة السيطرة على أهم الموانئ البحرية في الإقليم.
على صعيد آخر كان تسليم مصر جزيرتي تيران وصنافير للسعودية بعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في أبريل/نيسان 2016، قد فرض وضعا جيوستراتيجيا جديدا، مكن السعودية من السيطرة على مناطق إستراتيجية في البحر الأحمر.
وتتحكم جزيرتا تيران وصنافير في مدخل خليج تيران الممر الملاحي الرئيسي المؤدي إلى ميناء إيلات الإسرائيلي على خليج العقبة. لكن انتقال الجزيرتين إلى السيادة السعودية كان محملا بالالتزامات الواردة في اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، مما يعني أن السعودية ستحل طرفا ثالثا في هذه الاتفاقية، وهذا يعني عمليا وجود علاقات سعودية مع الجانب الإسرائيلي.
(ترك برس)