علي مراد
بين المسرَّب في وسائل إعلام أمريكية وصهيونية، والواضح من المؤشرات حتى الآن، تبدو السعودية بقيادة محمد بن سلمان غير معنية بمعارضة قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتبار القدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني. صحيح أن ترامب لم يعلن بعد بشكل رسمي خطّته لعملية التسوية المزعومة، لكن خطوته حول القدس في السادس من الشهر الجاري كانت تعبيرًا واضحًا عن "الحل" كما يراه للقضية الفلسطينية. لكن أين دور السعودية فيها وما علاقة خطوة ترامب بما يسمى "صفقة القرن" مع محمد بن سلمان؟
تخادم على سبيل نجاة
تبدو إدارة ترامب مصرّة على المضي قدمًا في فرض قرار اعتبار القدس عاصمة لكيان العدو رغم المعارضة الدولية. أسقط الفيتو الأمريكي يوم أمس الاثنين في مجلس الأمن مشروع القرار المصري للحؤول دون نقل الدول سفاراتها الى القدس. بدت كل من واشنطن و"تل أبيب" معزولتين بعد الفيتو، فحتى الآن لا تبدو أي دولة لها تبادل دبلوماسي مع "تل أبيب" على استعداد للحاق بترامب في خطوته، رغم أن الأخير نُقل عنه بأن دولًا كثيرة ستحذو حذوه بنقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس. من غير المنطقي الاعتبار أن الخارجية الأمريكية لم تدرس القرار جيدًا قبل أن يعلنه ترامب، ومن المعلوم جيدًا أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تقدّم تقاريرها وتقويمها قبل الإقدام على خطوة بحجم قرار ترامب. هنا تصبح الفكرة منطقية جدًا عندما نعتبر أن الإصرار الأمريكي هذا، يعود لأسباب داخلية تخصّ دونالد ترامب.
كما بات معلومًا بأن الرئيس الأمريكي يواجه خطرًا كبيرًا يمكن أن يطيح به بعد الإطاحة بفريقه الواحد تلو الآخر، في تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالية الذي يقوده "ميولر" حول صلة ترامب وفريقه بروسيا وتأثير موسكو على نتائج انتخابات الرئاسة العام الماضي. بعد توجيه الاتهام لمستشار الأمن القومي السابق "مايكل فلين" هناك أسماء أخرى مرشّحة للتساقط، وصهر الرئيس "جاريد كوشنر" على رأس قائمة المهددين بالإدانة. هنا من الطبيعي أن يسعى ترامب إلى تحصين نفسه واتخاذ إجراءات تقيه خطر الإدانة وبالتالي العزل.
ليس هناك أفضل من كسب اللوبي الاسرائيلي داخل الولايات المتحدة إلى صفّه، فمن المعلوم جيدًا أن هذا اللوبي يتمتّع بقوة تأثير كبيرة داخل الكونغرس (صاحب السلطة في إقالة الرؤساء) عبر مجمّع المال والسلاح (أكبر مموّل للحملات الانتخابية في الولايات المتحدة)، وهو موجود في وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث وقوة تأثيره تاريخيًا في السياسة الأمريكية مثبتة.
إن خطوةً كالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، بعد تحاشي إقدام رؤساء أمريكيين سابقين عليها، تعتبر خدمة كبيرة يقدّمها ترامب لـ"تل أبيب" وبالتالي على هذا اللوبي رد الخدمة لترامب المتهاوي وتثبيت قدميه لإكمال ولايته الحالية إن لم يكن دعمه لنيل ولاية ثانية عام 2020. بالتوازي مع قرار ترامب حول القدس، يصوّت الكونغرس الأمريكي على قانون إصلاح النظام الضريبي، الذي يقول كثير من المراقبين إنه مفصَّل على مقاس الشركات الأمريكية لزيادة أرباحها، وهنا أيضًا خدمة أخرى يقدّمها ترامب لرأس المال اليهودي الداعم للكيان الصهيوني والمؤثر في السياسة الخارجية الأمريكية.
صفقة ابن سلمان – ترامب
قد يبدو للمتابعين عن كثب للعلاقة الحالية بين إدارة ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن الرجلين يتشابهان في كثير من النواحي. الاثنان مثيران للجدل، فترامب بقراراته التي اتخذها منذ دخوله الى البيت الابيض اتّسم بالتهوّر والعدائية مع الحلفاء قبل الخصوم، وابن سلمان أيضًا منذ بدئه بالإمساك بتلابيب السلطة في السعودية اتخذ خطوات يُنظر إليها على أنها متهوّرة وطالت من يفترض أنهم حلفاؤه فضلًا عن أقاربه.
في الواقع، ما يرشح من مؤشرات يجعلنا نؤمن أن الرجلين يمرّان بظروف معقّدة وصفقتهما المثيرة للجدل تتسارع خطوات تنفيذها بشكل مثير. ابن سلمان يريد الجلوس على العرش بعد الاطاحة بكل الأطراف التي قد تشكّل خطرًا عليه في المستقبل، ولم يعد أمامه سوى خطوة تبرير التطبيع مع الكيان الصهيوني وفرضه على المجتمع.
سعودية ابن سلمان في المرحلة المقبلة – بعد قرار واشنطن الاستراتيجي بعدم الانخراط بحرب جديدة مباشرة في المنطقة - ترى أن عليها أن تعتمد على حليف إقليمي "ذي خبرة" لمواجهة إيران، وخصومها المتزايدون جراء السياسات الفاشلة في الإقليم أوصلوا الرياض إلى قناعة بأن هذا الحليف لن يكون إلا "إسرائيل". لكن المجتمع تبيّن أنه ليس جاهزًا بعد لإسقاط الخطوة عليه ومن هنا يكثّف الأمير الشاب من حملاته للتأثير على فئة الشباب السعودي عبر شيطنة الفلسطينيين وابتزاز قياداتهم والضغط عليهم للقبول بالتنازل. إلّا أنه ورغم كل ما يقوم به سيكون من الصعب عليه أن يخرج ليعلن التطبيع قبل إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، لتأتي خطوة ترامب لتزيل عن كاهله عبء تحمّل التبعات عندما يحين الوقت لإعلان التطبيع رسميًا.
يتّضح من خلال ردّ الفعل السعودي الهزيل على خطوة ترامب والمؤشرات التي أطلقتها الرياض في الأيام الماضية، ان ابن سلمان كان في جوّ خطوة ترامب العدائية حول القدس، وهذا ما سرّبته الصحافة العبرية قبل حوالي عشرة أيام. لماذا لا يكون ترامب عمليًا بخطوته حول القدس قد سهّل العملية على محمد بن سلمان وأزال عن كاهله عبئًا عبر القيام بالخطوة التي ستفتح الباب على مصراعيه لفرض الحلّ كما يريدونه ويريده نتنياهو؟
الأخبار التي تحدّثت عن تعهّد ابن سلمان للأمريكيين بالعمل على تنفيس الشارع العربي تبدو منطقية جدًا بالنظر الى ما تكتبه الصحافة السعودية وما تتداوله ما تسمى "النخبة" السعودية على مواقع التواصل الاجتماعي. التعويل على خفوت رد الفعل الشعبي في العالمين العربي والاسلامي واضح، وما إيفاد وزير الأوقاف السعودي لحضور القمة الاسلامية في اسطنبول، وتصريح الجبير عن الاستعداد للتطبيع مع العدوّ إلّا دليل على ذلك.
يعتقد ولي العهد السعودي أن مدة شهر أو حتى شهرين ستكون كافية لامتصاص ردود الفعل الغاضبة، ليخرج ويقول بالفم الملآن للفلسطينيين والعرب انه علينا أن نتقبّل الأمر الواقع الذي فرضه الأمريكيون ونمضي بالحلّ من دون القدس لأننا لن نجني شيئًا إذا أردنا أن نواجه أمريكا. حينها (في حال نجاحه) يعتقد ابن سلمان بأنه سيتمكّن من المضيّ قدمًا في تنفيذ بنود صفقته مع ترامب بسلاسة، ولن يتحمّل أكلافًا باهظة تؤثّر على مستقبله السياسي، كون الأمريكيين هم الذين بادروا وهو عمليًا كان "براغماتيًا" واختار المضيّ مسلِّمًا بالأمر الواقع المستجِد.
إسقاط بنود الصفقة بيد الشعب الفلسطيني
في السادس من الشهر الماضي، استدعى محمد بن سلمان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وكما تسرّب في الصحافة الغربية فإنه طلب منه الموافقة على دولة فلسطينية لا قدس فيها ولا إزالة مستوطنات من الضفة الغربية، مع تقديم مغريات ومليارات من الدولارات. يزور أبو مازن الرياض اليوم ويلتقي الملك سلمان وولي عهده، وبحسب ما ذكره أحد مستشاري عباس لصحيفة سعودية، سيتركّز الحديث حول "التطورات الميدانية في الاراضي المحتلة" بالإضافة الى بحث "ما بعد الفيتو الأمريكي".
من خلال الثناء والمديح الذي كاله أبو مازن للسعودية في خطابه أمام مؤتمر القمة الاسلامية في اسطنبول، يمكن القول إن رئيس السلطة الفلسطينية لن ينتهج خيارًا رافضًا للتوجه السعودي المهادن لقرار ترامب (السعودية تدفع جزءًا مهمًا من ميزانية السلطة)، وهو الذي حتى الآن لم يسمح للشارع "الفتحاوي" في الضفة الغربية بالانخراط بقوة وفاعلية على الأرض والاشتباك مع قوات الاحتلال الاسرائيلي عند خطوط التماس.
في المقابل هناك إصرار من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركتا "حماس" و"الجهاد الاسلامي" على تصعيد الحراك الميداني المنتفض تدريجيًا للوصول إلى حالة الانتفاضة العارمة على الأرض، لكن ستبقى الانتفاضة منقوصة من دون وجود جماهير "فتح" في قلبها، وهنا يبرز حرج أبي مازن أمام السعوديين، إذ ان الشارع يغلي وكلما سقط شهيد جديد ازداد حرج السلطة أكثر.
بحسب ما هو ظاهر حتى الآن، تبدو الأمور في الأراضي الفلسطينية المحتلة ذاهبة نحو التدحرج وليست هناك أيّ بوادر
لخمود الشارع الفلسطيني، وهذا ما سيحاول أبو مازن شرحه لمحمد بن سلمان في الرياض في لقائهما اليوم. سيكتشف الأمير المغمور قريبًا أن صفقته مع ترامب سيتعثّر تنفيذ بنودها بالمدة الزمنية التي وضعها بالتنسيق مع صهر ترامب، وعلى الشعب الفلسطيني المنتفض تُلقى رهانات باقي شعوب المنطقة والعالم الاسلامي لإسقاط بنود صفقة ابن سلمان – ترامب عبر الإصرار على بقائه في الشارع، إذ ان الأساس يبقى التحرك الفلسطيني أولًا والإسناد العربي والإسلامي من قبل الشعوب ومحور المقاومة سيكون حاضرًا للإسناد، لإعادة القضية الفلسطينية إلى أَلِقها وإرتداد خطوة ترامب على "تل أبيب" وبالًا وخسارة استراتيجية تذهب معها بنود "صفقة القرن" إلى المجهول.
(العهد)