كتب ماسيمو بيجليوتشي، أستاذ الفلسفة بجامعة «سيتي» في نيويورك ومؤلف كتاب «كيف تصبح رواقيًا: حكمة الماضي للوقت الحاضر»، مقالًا نشر عبر موقع «aeon» تناول فيه حل الفلاسفة الرواقيين لمشكلة الغضب.
يقول بيجليوتشي إن الناس يغضبون لأسباب شتى، بعضها تافه، مثل أن يعترضك شخص ما بسيارته على الطريق السريع، وبعضها جاد وخطير، مثل استمرار موت الناس في سوريا دون أن يبالي أحد. لكنَّ أغلب الغضب منشؤه الأسباب التافهة. ولهذا خصصت جمعية علم النفس الأمريكية على موقعها قسمًا لإدارة الغضب. والمثير للاهتمام أنَّ هذا القسم يشبه كثيرًا أقدم أطروحة حول هذا الموضوع بعنوان «حول الغضب» كتبها الفيلسوف الرواقي لوسيوس أنايوس سينيكا في القرن الأول الميلادي.
اعتقد سينيكا أنَّ الغضب جنون مؤقت، وأننا ينبغي لنا عدم التصرف بناء على هذا الغضب أبدًا، حتى ولو كان مبررًا، لأنه «حتى وإن كانت الرذائل الأخرى تؤثر على أحكامنا، فإنَّ الغضب يؤثر على سلامتنا العقلية: إذ تأتي هذه الرذائل في صورة هجمات خفيفة وتنمو بشكل غير ملحوظ، لكنَّ عقول الناس تنغمس فجأة في الغضب. فكثافة الغضب وحدته لا تعتمد أبدًا على سبب هذا الغضب، إذ يصل إلى أعلى المستويات، من أكثر البدايات تفاهة».
الإنترنت أكبر مصدر للغضب هذه الأيام
وقال بيجليوتشي: «إنَّ البيئة الحديثة الأكثر ملاءمة لإدارة الغضب هي الإنترنت. فلو كان لديك حساب على تويتر أو فيسبوك، أو كنت تكتب في مدونة أو تقرأ مدونة وتعلق عليها، فأنت تفهم قصدي. وفي الحقيقة فإنّ الرئيس الحالي للولايات المتحدة، دونالد ترامب، قد أوصل غضب تويتر إلى مستويات غير مسبوقة».
ويعلق الكاتب على ذلك بأنه هو أيضًا يكتب قليلًا على منتديات الإنترنت، فهذا جزء من عمله كونه معلمًا، بالإضافة إلى أنه عضو في المجتمع الإنساني، واستعرض تجربة تخصه في الموضوع ذاته فيقول: «المحادثات التي أجريها مع الناس من كل العالم تميل إلى أن تكون محادثات ودية وبناءة، لكن بين الفينة والأخرى تأخذ هذه المحادثات طابعًا كريهًا. من ذلك أنَّ مؤلفًا بارزًا اختلف معي مؤخرًا حول مسألة تقنية وسرعان ما وصفني بأنني عضو في (قسم الكلام الفارغ). واو! كيف لا يمكن أن أشعر بالإهانة من مثل هذا الأمر، لا سيما حين لا يأتي هذا التعليق من شخص مازح مجهول الهوية، وإنما من شخص مشهور له أكثر من 200 ألف متابع؟».
أضاف بيجليوتشي إنه استطاع تجاوز ذلك عبر تطبيق نصيحة الفيلسوف الرواقي الآخر، إبيكتيتوس الذي كان عبدًا من القرن الثاني الميلادي ثم أصبح أستاذًا، والذي نصح تلاميذه قائلًا: «تذكروا أننا نحن من يتعذب، ونحن من يصعب الأمور على أنفسنا ــ أي أنَّ آراءنا هي من يعذبنا. فمثلًا، ما معنى الشعور بالإهانة؟ قف بجانب صخرة وأهنها، ثم أخبرني ما الذي أنجزته جراء ذلك؟ لو استجاب أحدهم للإهانة استجابة صخرة، فما الذي استفاده الشاتم من شتيمته؟».
طبعًا، يتطلب التعود على التصرف كصخرة تجاه الإهانات وقتًا وممارسة، لكنني أتحسن في ذلك – يقول الكاتب. وأضاف: «تسألني ما الذي فعلته ردًا على التبجح المذكور أعلاه؟ تصرفت كصخرة. تجاهلت الأمر ببساطة، وركزت جهدي بدلًا من ذلك في الإجابة على الأسئلة الحقيقية من الآخرين، بذلًا وسعيًا في الاشتراك معهم في محادثة بناءة. ونتيجة لذلك، كما قيل لي، إنَّ المؤلف البارز كان يستعر غيظًا بينما احتفظت أنا بصفاء نفسي».
«الغضب المعتدل».. فكرة وهمية
إذًا، يقول بعض الناس إنَّ الغضب هو الاستجابة الصحيحة في بعض الظروف، ردًا على الظلم مثلًا، وأنَّ الغضب، باعتدال، يمكن أن يكون قوة تحفيزية للفعل – يقول الكاتب – لكنَّ سينيكا سوف يقول لك إنَّ الكلام عن الغضب المعتدل يشبه الكلام عن الخنازير الطائرة: محض أوهام. أما فيما يتعلق بالتحفيز فموقف الفيلسوف الرواقي أنَّ ما يحفزنا للفعل إنما هي المشاعر الإيجابية مثل الشعور بالسخط حال رؤية الظلم، أو الرغبة في جعل العالم مكانًا أفضل للجميع. ليس الغضب ضروريًا، بل إنَّ هذا الغضب في الحقيقة أحيانًا ما يعترض طريق الفعل.
عطت الفيلسوفة مارثا نوسابوم مثلًا معاصرًا في مقالها الذي كتبته حول نيلسون مانديلا. تحكي نوسابون القصة فتقول إنه لما أرسلت حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا مانديلا إلى السجن ليقضي 27 عامًا كان يستعر غضبًا. وقد كان هذا الغضب مستحقًا؛ إذ لم يكن هذا الحكم ظلمًا بينًا ارتكب ضده شخصيًا فحسب، وإنما كان ظلمًا ارتكب ضد شعبه بشكل عام. ومع ذلك فقد أدرك مانديلا عند نقطة ما أنَّ تغذية غضبه، والإصرار على التفكير في خصومه السياسيين باعتبارهم وحوشًا أدنى من البشر لن يؤدي إلى أي خير.
كان مانديلا بحاجة إلى التغلب على هذه المشاعر التدميرية، إلى التواصل مع الطرف الآخر لبناء ثقة، إن لم يكن صداقة. وكذا فقد صادق مانديلا حارسه، وانتهى به الأمر بالفوز في رهانه: إذ أصبح قادرًا على أن يشرف على واحد من هذه الانتقالات السلمية إلى مجتمع أفضل وهو أمر، للأسف، شديد الندرة في التاريخ.
والأمر المثير للاهتمام، أنَّ واحدة من أهم لحظات تحول مانديلا جاءت عندما هرّب سجينٌ زميل له نسخة من كتاب فيلسوف رواقي آخر: ألا وهو كتاب «التأمل» لـماركوس أوريليوس، ووزعها على السجناء. كان ماركوس يعتقد أنَّ البشر لو كانوا يتصرفون بشكل غير سليم، فما أنت بحاجة إلى فعله هو أن «تعلمهم، وأن تريهم الصواب دون أن تكون غاضبًا». وهو بالضبط ما فعله مانديلا على نحو فعال.
خطوات لإدارة غضبك
واختتم بيجليوتشي مقاله بتقديم دليل إرشادي رواقي حديث لإدارة الغضب، مستلهمٍ من نصيحة سينيكا:
اشترك في تأمل استباقي: فكر في المواقف التي تثير غضبك، وقرر مبكرًا كيف سوف تتعامل معها.
تعامل مع الغضب فور شعورك بأعراضه. لا تنتظر، وإلا فسوف يخرج الأمر عن السيطرة.
صاحب الأشخاص الهادئين قدر المستطاع؛ وتجنب المهتاجين أو الغاضبين، فالأمزجة معدية.
العب آلة موسيقية، أو اشترك بفعالية في أي نشاط مريح للعقل. فالعقل المسترخي لا يغضب.
لا تنخرط في مناقشات عندما تكون متعبًا، إذ سوف تكون أكثر ميلًا للاستفزاز، الذي من الممكن أن يتصاعد إلى غضب.
لا تبدأ مناقشات عندما تكون عطشًا أو جائعًا، للسبب ذاته.
استخدم السخرية من الذات، فهذه السخرية هي سلاحنا الأساسي ضد عشوائية العالم والبذاءة المتوقعة من بعض إخواننا من البشر.
مارس الابتعاد المعرفي ـ وهو ما يدعوه سينيكا «تأخير» استجابتك ــ من خلال التمشية أو الذهاب إلى الحمام، أو أي شيء من شأنه أن يسمح لك بمتنفس بعيدًا عن موقف متوتر.
غير جسمك ليتغير عقلك: أبطئ من خطواتك عمدًا، واخفض من نبرة صوتك، وافرض على جسمك هيئة شخص هادئ.
وفوق كل شيء كن محسنًا تجاه الآخرين إذا أردت أن تحيا حياة حسنة. واختتم بيجليوتشي مقاله بالقول إنَّ نصيحة سينيكا قد تخطت امتحان الزمن وسوف نستفيد جميعًا من أخذها بعين الاعتبار.