يتحرّك البدو بحرية بين بادية السماوة والبصرة ببيوت الشعر ومواشيهم وإبلهم، وبعضهم وجد له مهنة في تفكيك السيارات الأميركية واليابانية المستهلكة المتراكمة فيما يسمى بـ”مقبرة السيارات”. يروي أحمد السليطي (45) عاما وهو أحد البدو القائمين على إدارة مقبرة السيارات أو ما يسمى شعبيا بـ “كراج البدو” كيف أنه هجر حياة البداوة والتنقل بين الحدود العراقية – السعودية، بعد أن باتت البريّة مكانا خطراً مليئاً بالمخلفات الحربيّة والألغام وملاذا للإرهابيين والخارجين عن القانون. ويقول “لم تعد المعيشة يسيرة واضطربت أسعار الماشية وصعبت تربيتها بسبب قلة الأمطار وندرة الأعشاب. وفي أول قدومنا البصرة عانينا من الجوع وتعرضنا للمضايقات من الجهات الأمنية، كما أننا لم نكن نجيد أي مهنة فكنّا نخيّم في المواقع التي يتوفر فيها الماء لسقي ماشيتنا وتدبر حياتنا، لكننا بمرور الوقت أدركنا أن علينا نسيان طريقة عيشنا السابقة والبحث عن عمل فعثرنا على مقبرة السيارات وتعلمنا ممن سبقونا”. تقع مقبرة السيارات أو “كراج البدو” في الأراضي التي كانت سابقا أكبر مزارع العراق للطماطم وتحوّلت إلى أراض جرداء ومقالع للرمال بين قضاء الزبير وناحية سفوان. هنا في أعماق حفرة تمتد مسافة (3 دونمات) تتراكم مئات السيارات القديمة والمعطلة والمتهالكة بمختلف الأنواع والموديلات يغلب عليها الطراز الأميركي القديم. يقول السليطي لـ”نقاش” إن “المقبرة أنشأت بعد أحداث عام 2003 للتخلص من السيارات القديمة والمتهالكة التي يجري (تسقيطها) من قبل دائرة المرور وبالتالي يتم نقلها إلى شركة الحديد والصلب المملوكة للدولة من اجل صهرها وتحويلها إلى كتل حديدية، فوجدنا أنها مكان مناسب للعمل”. اليوم تدار مقبرة السيارات من ثلاثين فردا معظمهم من أهالي بادية خضر الماء المحاذية للحدود السعودية العراقية وبوادي السماوة وقد تحوّلوا من البداوة إلى العمل في تفكيك السيارات الخردة وبيع أجزائها على المواطنين بأسعار مناسبة. ويلخص السليطي طريقة عملهم بقوله “نتولى شراء المركبات القديمة باعتبارها موديلات منتهية أو ما تسمى بالـ (تسقيط) من حائزها الرئيس، بعد إجراء عملية التسقيط المروري بشكل رسمي لها، وتتم تجزئتها “تفسيخها” على شكل قطع خردة نقوم ببيعها على الراغبين الذين يقصدوننا لرخص أسعارنا، وما يتبقى نبيعه على شكل أطنان على شركة الحديد والصلب بهدف إعادة تدويره ليدخل في الصناعات الحديدية”. وينتشر عدد من شباب البدو العاملين في تلك المقبرة الحديدية الكبيرة. يقول محمد عسّاف (27 عاما) أنها مهنتهم التي أنقذتهم من الاستجداء وأفادتهم في تعلم خبرات مختلفة عن السيارات. ويضيف ببعض التفاخر لـ”نقاش”: حول عمله “كنا وآباءنا نفهم في الإبل والماشية والبراري فحسب، لكننا اليوم نجيد مهنة قد يجهلها أبناء المدينة أنفسهم! وهي مهنة تدرّ علينا المال. فهناك من يطلب أدوات احتياطية جيدة لعربته وهو يلمس الفارق بين متانة ما لدينا برغم قدمه وما يباع في السوق من أشياء غير كفوءة”. المقبرة تضم كل أنواع قطع الغيار لمختلف السيارات، وأحيانا كل ما لا يخطر على بال، إذ أصبحت مقصد الناس من جميع محافظات العراق للحصول على ضالتهم، لاسيما إن كانت من السيارات الأميركية واليابانية القديمة التي جرى الاستحواذ على معظمها خلال غزو صدام للكويت عام 1991 وهي موديلات أعوام السبعينات والثمانينات إضافة إلى السيارات العراقية القديمة من الصناعة اليابانية والفرنسية والروسية. في الأثناء تتعالى مناشدات من سكان نواحي الزبير لنقل المقبرة بعد اتساع رقعتها وتجاوز مخلفاتها على الشارع الرئيس إضافة إلى شكوك الجهات الأمنية بوجود سيارات مسروقة يجري تفكيكها وإخفاؤها عن الأنظار. لكن مدير المرور في قضاء الزبير العقيد احمد شاكر، يؤكد أن المقبرة تقع في منخفض أرضي ولا تؤثر على الشارع الرئيس أو سكة القطار القريبين منها. ويقول لـ “نقاش” حول ذلك “تتم إجراءاتنا المرورية مع من يتعامل مع أصحاب الكراج كأي مواطن لديه سيارة يرغب بتسقيطها مرورياً، إذ يتم فحص السيارة والتأكد من أوراقها الرسمية وبالأخص السنوية تمهيداً لإكمال المعاملة الخاصة بتسقيط الرقم وتحويله إلى شخص آخر والتخلص من العربة”. بينما يشكو البدو في المقبرة من تعرضهم لمضايقة الأجهزة الأمنية والسلطات الحكومية التي تشن مداهمات تفتيش في الموقع. يقول السليطي إن عملهم يجري وفقا للقانون ولا يتعاملون بالسيارات المسروقة وأن لكل مركبة في المقبرة ملفا خاصا يخضع لإجراءات الجهات الحكومية. رئيس اللجنة الأمنية في حكومة القضاء مهدي ريكان يقول إن هناك متابعة لعمل الكراجات كافة ومنها ما يعرف بكراج البدو حول عائدية السيارات التي يتم تفكيكها وتحويلها إلى قطع غيار ويوضح لـ”نقاش”: “قمنا بحملات تفتيش لأن هناك حالات سجلت عن سرقة عدد من السيارات وبيعها كخردة وما جرى مؤخرا يصب في جانب المراقبة والتفتيش المفاجئ والتحركات الأمنية التي أدت لانحسار حالات السرقة”. وحول وضع مقبرة السيارات يقول “تقع المقبرة حالياً ضمن التصميم الأساس لمدينة الزبير التي أخذت بالاتساع ولابد من إخراج المقبرة التي اتسعت رقعتها إلى مكان بديل، ليحل مكانها مشروع من المؤمل إنشاؤه ضمن مشاريع البلدية”. ويشعر السليطي بالقلق من خطط إزالة المقبرة قائلا إن “البدو الذين يعملون في مقبرة السيارات يعيلون مئات العائلات وهي مصدر رزقهم الوحيد، كما أن الموقع بات مركزا لقطع الغيار المستعملة للمحافظات كافة”. البدو العاملون في مقبرة السيارات يشعرون بتعسّف الجهات الحكومية ويقولون إنهم أتوا من البراري البعيدة وابتكروا عملا مفيدا وأسهموا في حماية البيئة وجمالية المحافظة بعدما أزالوا عن وجهها كل سيارة أكل عليها الدهر وشرب.
يديرها البدو في البصرة: مقبرة للسيارات الأميركية والموديلات القديمة
2017-11-17
سليم الوزان