2024-11-27 11:49 م

وثيقة نادرة .. بنبركة يفضح "المهام الاستعمارية" لإسرائيل في إفريقيا

2017-10-13
تقديم:

شَكَّل الاختراق الإسرائيلي للقارة الإفريقية جزء من استراتيجية كبرى أَطَّرت تفكير المشروع الصهيوني منذ مرحلة ما قبل إقامة كيانه الاستيطاني في فلسطين المحتلة سنة 1948؛ إذ كانت مستعمرة بريطانية في إفريقيا اسمها أوغندا كانت واحدة من المقترحات التي تمّ تقديمها لإقامة كيان عليها يحمل اسم إسرائيل من طرف أب الحركة الصهيونية "تيودور هيرتزل" حين توجه إلى بريطانيا واقترح على وزير المستعمرات فيها "جوزيف تشامبرلين" إقامة كيان لليهود في شرق إفريقيا، وبالضبط في أوغندا كخيار من الخيارات المطروحة (إلى جانب فلسطين، الأرجنتين...).

هذا الخيار فشل بسبب الانقسام الكبير داخل الحركة الصهيونية حول هذا الموضوع. وهو اقتراح كان يستلهم ما كان يعتبره نجاحا للتجارب الاستيطانية التي كانت تعرفها إفريقيا حينئذاك (في شمال القارة مع الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، وفي جنوب القارة الإفريقية خاصة: في جنوب إفريقيا، روديسيا وناميبيا...).

لذا فتحت حركة التحرر العربي والإفريقي والثالثي عيونها على خطورة هذا الاختراق واندماجه في بنية حركة الاستعمار الغربي للقارة والقيام بأدوار وظيفية لتبادل المصالح مع مراكز القرار الرأسمالي الدولي أحيانا، وأداة لها في غالب الأحيان؛ الأمر الذي جعل واحدا من أهم رموز حركة التحرر الصاعدة حينها، وهو الشهيد المهدي بنبركة، يدق ناقوس الخطر في "ندوة فلسطين العالمية" المنعقدة بالقاهرة من 30 مارس إلى 6 أبريل 1965، أي قبل سبعة أشهر بالضبط من اختطافه واغتياله في باريس يوم 29 أكتوبر من السنة نفسها.

تحولت مداخلة المهدي بنبركة في "ندوة فلسطين العالمية" تلك إلى رؤية تتضمن استراتيجية عملية لمواجهة الاختراق الإسرائيلي للقارة السمراء، بعد تشخيص هذا الاختراق ورصد مظاهره وسرد مخاطره على عموم الشعوب الإفريقية ومستقبلها، مما جعل منها وثيقة تأسيسية اعتمدتها حركات التحرر العربي والإفريقي كواحدة من أدبياتها الأساسية.

تأتي أهمية الوثيقة إذن في ما تقدمه من تحليل عميق للأوضاع في إفريقيا حينها، وكذا بتزامنها مع شهر أكتوبر الحالي، حيث تقرر إلغاء أول قمة إفريقية –إسرائيلية في تاريخ العلاقات بين الطرفين التي كان من المقرر انعقادها بمدينة "لومي" عاصمة التوغو، بعد اعتراض عدد من الدول الإفريقية والعربية على انعقادها، في استلهام لروح هذه الوثيقة.

وهذه مناسبة تقوم فيها هسبريس بنشر هذه الوثيقة التاريخية بعد التدقيق في بعض معطياتها وشرح بعض المفاهيم وأسماء الأعلام الواردة فيها، بحكم المتغيرات التي عرفتها الأوضاع الجيوــ استراتيجية في القارة الإفريقية بعد أكثر من نصف قرن من صدورها.

وفيما يلي الجزء الثاني من الوثيقة:

3- فضح التزييف:

من هنا نرى أن الدور الذي تقوم به إسرائيل في إفريقيا، من الناحية الفنية والاقتصادية، دور يمكن أن يُحدث مغالطة بالنسبة لهذه الدول، وبالنسبة للرأي العام الدولي. فلذلك وجب علينا أن نُظهر الحقيقة وأن نفضح التزييف، وأن نُبين ما هو الدور الاستعماري من وراء هذا كله.

إن إسرائيل تقول إننا في خدمتكم لإعطائكم نموذجا للتنمية السريعة كبلد متخلف، إننا نعطيكم صورة في إسرائيل عن مجتمع متخلف يتقدم، وعن مجتمع اشتراكي. فما هي الحقيقة من وراء هذا كله؟

الحقيقة سمعناها من الرئيس أحمد بنبلّة أيضا في مؤتمر رؤساء الدول الإفريقية في يوليوز 1964، حيث قال: "هذه الاشتراكية هي التي عرفها كل من عرف جبهات القتال، والاشتراكية التي عرفتها شخصيا في كاسينو، هي اشتراكية المعسكرات المحصنة، إنها اشتراكية الذين أُحيطوا بالخطر والذين جعلوا هذه الاشتراكية ضرورة لبقائهم".

وبعد، فذلك لا يمنع إسرائيل من أن تكشف عن وجهها الحقيقي في ميادين نشاطها هنا وهناك، وخاصة في قارتنا حيث تغدو إسرائيل أكثر فأكثر الأداة التي هي في الواقع هذه الأداة الممتازة. وهذا لأن إسرائيل بلد صغير ولكننا ننسى في أغلب الأحيان أن هذا البلد لا يعيش إلا بإعانات تبلغ ملايين الدولارات لدرجة ثُلثي ميزانيتها تقريبا. ومازال هناك من يردد تلك الأسطورة التي تقول بأن إسرائيل هي نواة تقدم، وكل الناس يعلمون -والدول العربية تعلم أكثر من غيرها-أن إسرائيل بدلا من أن تكون نواة تقدم في هذه المنطقة العربية، فإنها تُجمد الموقف وتُشجع القوى الأشد رجعية.

أ- الأسطورة المتناقضة للتخلف والنمو السريع:

ولنعد للأرقام لنعرف الحقيقة من التزييف في وضع إسرائيل:

نوع السكان: نوع السكان في إسرائيل يثبت أنها مجتمع استعماري، فـ 37 % فقط مولودون في فلسطين المحتلة، و35 % جاؤوا من أوروبا وأمريكا، وهؤلاء سلوكهم في إسرائيل مثل سلوك المستعمِرين في مستعمرات الاستيطان، حتى بالنسبة لليهود الذين تم تهجيرهم وجلبهم من المناطق غير الأوروبية (المتخلفة) ونسبتهم 16% من آسيا و12%من إفريقيا.

ثم توزيع العمل في إسرائيل هو توزيع غير طبيعي، نجد 1/5 يشتغل في الفلاحة، 3/10 في الصناعة، و1/2 في الخدمات؛ فهذا مجتمع غير طبيعي.

ب- التمويل الخارجي:

ثم هذا مجتمع نَجدُ في تمويله أيضا عاملا غير طبيعي وهو العامل الخارجي؛ ذلك أن المساعدات التي تنالها إسرائيل من الخارج تصل 100 دولار للشخص في كل سنة، ويبلغ بليون دولار لملء هذا العجز، بعضها من الولايات المتحدة وبعضها من جبايات اليهود في العالم، وبعضها من التعويضات الألمانية (هكذا 7000 مليون دولار).

وفيما يخص الاستثمارات الخاصة بلغ ما ورد منها من الخارج في ما بين 1959 و1962 ما يقرب من 500 مليون دولار، 3/5 من أمريكا الشمالية، ومِثْل هذا المبلغ في سنة 1964 وحدها، حسب ما ورد في الكتاب السنوي الرسمي لإسرائيل سنة 1964 (Israel Year Book). أما في ميدان التجارة الخارجية، فإن العجز ظل يتراوح بين 300 و400 مليون دولار في السنة حتى عام 1962.

ولستُ أريد أن أطيل عليكم في الأرقام، وإنما أريد أن ألفت نظركم إلى أنه قد بلغت الضريبة على اليهود في الخارج سنة 1963 مبلغا قيمته 1435 مليون دولار، حسب تصريح "جوزيف مايرهوف"، رئيس جمعية الجباية اليهودية الموحدة. مع ملاحظة أن 80% من الجباية تُحَصَّل من 10% من المتبرعين، ومعنى هذا أن 80% من الجباية اليهودية هي من الاحتكارات الاستعمارية الرأسمالية لا من اليهود العاديين الموجودين خارج فلسطين المحتلة.

فاقتصاد إسرائيل ليس الاقتصاد النموذجي الذي يجب أن تنظر إليه الدول الإفريقية من أجل تنميتها، إنه اقتصاد غير متوازن، إنه اقتصاد طفيلي معتمد على الخارج، إنه اقتصاد كما سماه أحد علماء الاقتصاد "اقتصاد منقول أو مزروع""Economie de Transplantation" مثل الاقتصاد الفرنسي الذي كان منقولا إلى الجزائر، لقد كان اقتصادا ناميا، ولكن هل كان اقتصادا جزائريا؟! أبدا.

وهنا يظهر أيضا زيف أسطورة ارتفاع مستوى الدخل القومي الإسرائيلي. إن الإحصاءات التي تنشرها إسرائيل تعطي مثلا إحصاءات مقارنة بين ما هو الدخل القومي للفرد في إسرائيل والدخل القومي للفرد في البلاد العربية؛ فنجد مثلا في نشرة رسمية في مايو 1964، الدخل الفردي هو 940 دولار في السنة في إسرائيل، بينما الدخل الفردي في البلاد العربية لا يتجاوز 200 دولار.

كل هذا تزييف؛ إن الدخل في إسرائيل ليس دخلا قوميا حقيقيا مادام الاقتصاد اقتصادا مصطنعا ويعيش كالطفيليات. فحينئذ لا يمكن أن نعطي قيمة علمية للاقتصاد الإسرائيلي كنموذج، ولا للأرقام التي تُنشر والتي تُستخدم للدلالة على التقدم وعلى سرعة التقدم. وهناك أبحاث علمية نُشرت أخيرا للدلالة على أن نقل النموذج الإسرائيلي غير ممكن.

ج- نموذج للتنمية خاطئ ولا يمكن نقله:

كتب أحد علماء الاقتصاد الذي يشتغل أستاذا في تاريخ الاقتصاد والاجتماع في جامعة زيوريخ، (وهو يهودي مُوال لإسرائيل في كتاباته واسمه "جان هالبيرين") يقول: "إن ظروف الانطلاق تختلف كثيرا بين إسرائيل وبين البلاد الفتية حديثة عهدا بالاستقلال، إلى حد يستحيل معه أن نجعل من إسرائيل نموذجا لتلك الدول. ويكفي أن نورد فارقا واحدا أساسيا هو أن الكادر (المَلَكات) كان موجودا في إسرائيل عند نشأتها، بينما البلاد الأخرى مُفتقرة لمثل تلك المَلَكات أشد الافتقار. وشتان بين مستوى شعوبها الثقافي وبين المستوى التي بدأت معه إسرائيل عند تأسيسها بفضل الهجرة الأوروبية".

وقد أكدت أبحاث أخرى علمية تفصيلية هذا المعنى؛ فقد صدر كتاب في فرنسا أخيرا للاقتصادي "جوزيف كلاتزمان"(Joseph klatzmann) "دروس التجربة الإسرائيلية"(Joseph Klatzmann, Les Enseignements de l'Expérience israélienne, Collection Tiers-Monde)

هذا الكتاب أيضا يثبت أن تجربة "الكيبوتزيم" {مستوطنة زراعية وعسكرية} لا يمكن أن تُنقل إلى البلاد النامية، سواء لاستحالة توفير الظروف المالية أو بسبب فقدان جهاز من الخبراء الموجودين في إسرائيل (ص157-158). وزاد قائلا: "إن بعض القرارات الاقتصادية في إسرائيل هي في الحقيقة قرارات سياسية"، ويشير هنا إلى إنشاء بعض "الكيبوتزات" على الحدود لا كتجمعات فلاحية ولكن كمعسكرات مُحَصَّنة.

وهناك أخصائي آخر هو الأستاذ جون دريش { Jean Dreschجغرافي فرنسي (30 نوفمبر 1905- 4 مارس 1994)}، سُئل في ندوة طلابية بباريس في يناير 1962، وكانت هذه الندوة مخصصة لموضوع "الإصلاح الزراعي في بلاد المغرب العربي"، وكان الأستاذ دريش قد أورد أمثلة كثيرة عن الإصلاح الزراعي التقدمي، وسُئل لماذا لم يورد مثال إسرائيل في هذا الباب. فأجاب قائلا: "إن هذا المثال مثال خاطئ، لأن التجربة الإسرائيلية ليست تجربة اشتراكية وليست إصلاحا زراعيا. علاوة على مشاكل الديون التي تتخبط فيها هذه المؤسسات لأنها تعيش في إطار رأسمالي".

بعد أن تبين لنا زيف هذا النموذج الاقتصادي الذي يُقَدَّم لإفريقيا، يحق لنا أن نتساءل إذا كان هذا النموذج غير صالح، فما هي مهمته الاستعمارية؟ وما هو الدور الاستعماري لإسرائيل؟

أعتقد أولا أن مجرد تقديم نموذج خاطئ للتنمية لدولة حديثة عهد بالاستقلال فيه خدمة للاستعمار، لأن هذا عامل تضليل وتعطيل بالنسبة لهذه الدول.

ولكن هناك مظاهر أبرز من هذا لخدمة الاستعمار؛ هناك أولا روابط إسرائيل بالدولة الأكثر إمعانا في الاستعمار في إفريقيا، وهي إفريقيا الجنوبية. وهذا الموضوع قَلَّما يتكلم عنه الذين يتحدثون عن إسرائيل. فإسرائيل لها اتصال وثيق بالحكومة الفاشية في جنوب إفريقيا، ويكفي أن نقول مثلا إن نسبة التجارة مع جنوب إفريقيا في مجموعة التجارة الإفريقية، إذا أضفنا إليه أيضا التجارة مع المستعمرات البرتغالية، تصل إلى 92% سنة 1961 ونسبة 20% سنة 1962 و25 % سنة 1963 وحوالي 20% سنة 1964.

نعم هناك انخفاض نلاحظه بعد سنة 1962 بسبب افتتاح أسواق جديدة لإسرائيل في البلاد حديثة العهد بالاستقلال. ولكن الأهمّ من ذلك هو العلاقة المالية بين جنوب إفريقيا وإسرائيل. فإسرائيل كانت لها ميزة لوحدها عن سائر الدول، وهي أنه كان لها الحق أن تنقل الأموال بدون مراقبة من جنوب إفريقيا إلى غاية سنة 1962.

لماذا تغيرت هذه الميزة؟ لسبب بسيط هو أن إسرائيل اتخذت موقفا لمجاراة التيار الإفريقي ضد جنوب إفريقيا، فكان عقابها أن فرضت عليها نفس الرقابة المفروضة على انجلترا من أجل نقل الأموال. ولكن ذلك لم يغير شيئا من الروابط الاقتصادية الموجودة بين جنوب إفريقيا وإسرائيل.

وهناك دور استعماري خطير لا بد أن ننتبه إليه، وهو دور الخبراء ودور المتدربين. فقد قلت لكم أيضا إن هنا بعض التدريبات المُرِيبة، مثل اهتمام إسرائيل بالنساء بالذات، اهتمامها بالشباب وتدريبهم مثلا على تنظيم منظمات شبيهة بالمنظمات الموجودة في إسرائيل، ثم بالخصوص التدريبات العسكرية وتدريبات الشرطة. فإن الجيش الذي يحارب به الاستعمار في الكونغو جيش "موبوتو سيسيكو" دُرِّب قسم المظلات منه في إسرائيل، ويوجد الآن في الكونغو خبراء إسرائيليون مع الجيش الاستعماري.

وهناك أيضا تدريب حصل لبعض الدول الأخرى في الشرطة وفي المخابرات. وإذا أردنا أن ندرك خطورة هذه التدريبات فلنُلْق نظرة على ما جاء في الصحف أمس. قرأنا بالأمس في تحقيق عن حوادث الكونغو الأخيرة التي تجري الآن حول الهجوم الأخير الذي وقع على الثوريين في الكونغو أن هناك حقيقة أكثر خطورة:

"فلقد قال لي قادة الثورة الكونغولية إن إسرائيل تقوم بتدريب جيش أوغندا الذي لا يزيد تِعداده على كتيبتين، وسلاح الطيران الأوغندي عبارة عن بضع طائرات إسرائيلية وجميع الطيارين من الضباط الإسرائيليين، كما أن قوات حدود أوغندا يشرف على تدريبها وتنظيمها خبراء إسرائيليون. وقالوا إن لإسرائيل داخل حكومة أوغندا أعوانا يحتلون أكبر المناصب.

وقد سبق أن قال لي أحد كبار العسكريين الأفارقة في جيش أوغندا، بأن رئيس الوزراء "ميلتون أوبوتي" يشعر بخطورة النفوذ الإسرائيلي في بلاده، فقد بلغ من تغلغل نفوذهم أن رئيس الوزراء نفسه لا يستطيع أن يتحدث مع أحد تليفونيا في أمر هام لأن هاتفه مراقَب. وحكى لي أنه عندما أغارت الطائرات الأمريكية التابعة لحكومة "مويس تشومبي" {أحد عملاء الاستعمار البلجيكي، قاتل الشهيد لومومبا وقائد حركة انفصال كاتانغا عن الكونغو بعد استقلالها} على أرض أوغندا مرتين، أصدر رئيس الوزراء أوامره إلى سلاح الطيران بِردّ العدوان وإسقاط الطائرات المغيرة، ولكن الطائرات الإسرائيلية كانت تحلق في السماء تم تعود إلى قاعدتها في مدينة "عَنْتِيبي" {كانت عاصمة أوغندا قبل استقلالها سنة 1962}، لتبلغ بأنها لم تلحق بطائرات العدو".

تلك هي حقيقة الدور الاستعماري في إفريقيا، وقد أكد بالأمس في ندوة صحفية "كريستوف جيبيني"، أحد قادة الثورة الكونغولية {الذين أسسوا سنة 1964 "الحركة الثورية لتحرير الكونغو" تحت اسم "سيمبا"، وتعني الأسد باللغة السواحلية، بمشاركة "بير موليلي" و"غاستون ساموليت" لمواجهة نظام موبوتو سيسيكو العميل للمخابرات الغربية}، أن إسرائيل تلعب دور التواطؤ مع رئيس الدولة في أوغندا، الذي هو سلطان يسمى "الكابكا"، ويعني بقايا أحد الملوك، هذا الرجل يتواطأ مع إسرائيل ضد حكومته نفسها وضد أوبوتي نفسه.

4- مراحل المعركة لفضح الدور الاستعماري:

فهناك حينئذ معركة بيننا كعرب وكمناضلين ثوريين وبين هذا التسرب الإسرائيلي. وهذه المعركة يجب أن نعترف بأن لها مَدًّا وجزرا، وإننا تارة نكون منتصرين وتارة يكون للاستعمار الأسبقية في الميدان.

وقد استمرت هذه المعركة سجالا بيننا وبين الاستعمار في ما يخص الدور الاستعماري لإسرائيل منذ مؤتمر باندونغ. يجب القول هنا بأن الفضل يرجع إلى الرئيس جمال عبد الناصر في وضع القضية لأول مرة على الصعيد الدولي، بعد أن مُنعت إسرائيل من حضور مؤتمر باندونغ، رغم تدخلات دولتين آسيويتين إذ ذاك لقبولها، واتُّخذ لأول مرة قرار يدين ويفضح هذا الدور الذي تقوم به إسرائيل في السياسة الاستعمارية. يقول بيان المؤتمر المنعقد في مدينة باندونغ الإندونيسية يوم 28 أبريل 1955:

"نظرا للتوتر السائد في الشرق الأدنى، هذا التوتر الذي يُحدثه الوضع في فلسطين، ونظرا للخطر الذي يشكله هذا التوتر ضد السلام العالمي، فإن مؤتمر دول آسيا وإفريقيا يعلن تأييده لحقوق الشعب العربي في فلسطين ويطالب بتطبيق قرارات الأمم المتحدة وتحقيق حل سِلمي للقضية الفلسطينية".

وتلك أول مرة اتخذ فيها مثل هذا الموقف بفضل المشاركة العربية الثورية في هذا المؤتمر. إلا أن المواقف الحكومية في الحقيقة لم تكن دائما في خط مستقيم، بينما مواقف المنظمات الشعبية استمرت في خط عدائي للاستعمار؛ فقد عُقد في القاهرة في ديسمبر 1957/ يناير 1958 أول مؤتمر شعبي آسيوي إفريقي، أعلن هذا المؤتمر لأول مرة أن دولة إسرائيل "قاعدة استعمارية تهدد تقدم الشرق الأوسط وسلامته"، وأدان المؤتمر سياسة إسرائيل العدوانية التي تشكل خطرا على السِّلم العالمي، و"أكد المؤتمر حقوق العرب في فلسطين وأعلن عطفه على اللاجئين الفلسطينيين وتأييده جميع حقوقهم وعودتهم إلى وطنهم".

تلك أول خطوة دولية خارج المحيط العربي لإظهار الحقيقة، ولإعلان حق الشعب العربي في فلسطين. توالت المؤتمرات كما قلت لكم:

انعقد في أبريل 1958 "مؤتمر دول إفريقيا" بأكرا، وهذا المؤتمر اتخذ قرارا بسيطا عبّر فيه عن "قلقه العميق حول قضية فلسطين التي تشكل عاملا يهدد الأمن والسلام العالميين، ويطلب بحل عادل لهذه القضية".

وفي ديسمبر 1958 اجتمعت "منظمة الشعوب الإفريقية" ولكن قرارها في هذه المرة تأثر بالمناخ الإفريقي إذاك ولم يهاجم إسرائيل كأداة للاستعمار.

وفي أبريل 1960 اجتمعت "منظمة التضامن الإفريقي-الآسيوي" في كوناكري، واتخذت قرارا واضحا في هذا الموضوع، لم يَشُذ عنه إلا مندوب ليبيريا، ولازلت أذكره وهو يعتذر بقوله: "إذا اتخذت معكم هذا القرار، فإنني سأطرد من حكومتي".

وفي مارس1961 اجتمعت "منظمة الشعوب الإفريقية" في القاهرة وأعلنت ذلك في قرار واضح حول الاستعمار الجديد، حلَّلَته وعَرَّفت بحقيقته وبأدواته وأعلنت أن "إسرائيل دعامة للاستعمار الجديد وتشكل تهديدا خطيرا على البلاد الإفريقية التي نالت استقلالها حديثا، أو التي على وشك أن تنال الاستقلال". وكرر هذا القرار نفسه في باندونغ في اجتماع التضامن الآسيوي الإفريقي.

وانعقد مؤتمر الدار البيضاء، وهنا استطاعت القيادة الثورية العربية أن تفرض قرارا واضحا في هذا الموضوع؛ إذ أُعلن بعد التحذير من الخطر الناتج عن الوضع الراهن في فلسطين والناتج عن حرمان عرب فلسطين من حقوقهم، وإعلان ضرورة حل هذه القضية حلا عادلا يَرُد إلى عرب فلسطين حقوقهم كاملة ما يلي:

"يلاحظ المؤتمر باستنكار أن إسرائيل دأبت دائما على مناصرة الاستعمار كلما جرى بحث للمسائل الهامة المتعلقة بإفريقيا، ولاسيما مسائل الجزائر والكونغو والتجارب الذرية في إفريقيا. ولذلك يندد المؤتمر بإسرائيل بوصفها أداة لخدمة الاستعمار بنوعيه القديم والجديد. ليس فقط في الشرق الأوسط، بل وفي إفريقيا الجديدة التي يستخدمها الاستعمار في خلق قواعد له".

هذا قرار مهم لأنه لأول مرة أمضاه ممثلون عن ثلاث دول إفريقية لها تبادل دبلوماسي مع إسرائيل (هي غينيا، مالي وغانا). ولكن في الحقيقة لم يكن له مفعول، لم يكن له أثر فعلي؛ ذلك لأن ظروف مؤتمر الدار البيضاء في الحقيقة كانت ظروفا مزيفة. بعض الدول اجتمعت للدفاع عن نفسها، وبعض الدول لتستر خيانتها بالنسبة للكونغو. والحقيقة أنه كانت مناسبة أخرى لتضليل الشعوب عن طريق بعض المؤتمرات التي يلعب فيها الاستعمار الجديد دوره.

وبدأت بعد قرار الدار البيضاء حرب دبلوماسية بين إسرائيل وبين القيادة العربية الثورية المتمثلة في القاهرة. وبدأت القاهرة تدعو الزعماء الأفارقة لتبين لهم حقيقة الوضع بالنسبة للمعركة العربية، بينما إسرائيل أيضا تُوالي دعواتها للرؤساء الأفارقة، وكانت سنتا 1961/1962 سنتين لتبادل الزيارات بين المعسكر الثوري العربي وبين الرؤساء الأفارقة، وبين المعسكر الاستعماري المتمثل في إسرائيل وبين الرؤساء الأفارقة.

وانعقد مؤتمر دول عدم الانحياز في سبتمبر 1961، ولكن في هذه المناسبة سجل الاستعمار انتصارا حيث إنه لم يتخذ قرارا واضحا بنفس الوضوح الذي كان عليه قرار مؤتمر باندونغ، ولم يكن أيضا بنفس الوضوح الذي كان عليه قرار دول عدم الانحياز في القاهرة. بعد ذلك بسنتين، في أكتوبر 1963، أخذت إسرائيل تعتبر أنها بدأت تنجح في مهمتها الدبلوماسية، ولهذا بالذات جارت الدول الإفريقية باتخاذ موقف ضد جنوب إفريقيا في الأمم المتحدة، ونجحت إسرائيل أيضا، حيث إنها استطاعت أن تتقدم باسم وجهة نظرها ثماني دول من إفريقيا وأمريكا اللاتينية بقرار ينادي بالمفاوضات المباشرة على الشكل الذي تطالب به إسرائيل في الميدان الدولي. وجاء مؤتمر أديس أبابا، وسجل أيضا هذا المؤتمر بعض النجاح حيث إنه لم يتخذ أي قرار في موضوع إسرائيل.

وحتى عندما كانت بعض الدول الإفريقية تتخذ بعض المواقف المعادية لإسرائيل، مثلما شهدنا في الدار البيضاء، فإن إسرائيل كانت تستمر في نشاطها الاقتصادي مع تلك الدول. كتبت مثلا مجلة "ميدل إيست جورنال" قائلة: "إنه رغم اتخاذ الدول الإفريقية قرارات وتصريحات غير ودية نحو إسرائيل، فإن تلك الدول ما تزال تعلق أهمية على الاحتفاظ بعلاقاتها مع إسرائيل، وكأنها ترى في تلك التصريحات مجرد مواقف سياسية شكلية لا تمس بأي حال الروابط المنتجة والمفيدة فنيا واقتصاديا مع إسرائيل. وفي نفس الوقت، فإن إسرائيل تشعر بأن وجود هذه الروابط يساعدها على مواصلة تحقيق مصلحتها".

4- الموقف منذ نهاية سنة 1964:

كنا في هذه الفترة في الحقيقة في فترة مَدٍّ استعماري، ولكن هذا المد انتهى وتغير الموقف في آخر سنة 1964، خاصة في الصيف الماضي وبمناسبة المؤتمر الأخير للدول الإفريقية ولدول عدم الانحياز هنا في القاهرة، حيث اتُّخذ قرار صريح في موضوع إسرائيل، وكتبتْ إذ ذاك الصحافة الإسرائيلية تأسف على هذا التغيير لدى دول آسيا وإفريقيا في أكتوبر من سنة 1964.

تقول مجلة "إسرائيل إيكونوميست": "إننا نجد إلى جانب العرب مجموعة من الدول تتخذ من إسرائيل في الميدان السياسي موقفا باردا إن لم نقل عدائيا، وهي إندونيسيا، أفغانستان، الهند، باكستان، صوماليا، غينيا، وبعض الدول الاشتراكية مثل الصين الشعبية وشمال فيتنام وشمال كوريا".

كانت تلك الصحيفة تتحدث عن سياسة الدول الآسيوية والإفريقية بالنسبة لإسرائيل، وهنا أظهرت المجلة الشبيهة بالرسمية امتعاضا كبيرا بالنسبة لتغير موقف الهند وموقف غينيا بالنسبة لإسرائيل: "وهناك من جهة أخرى دول ما تزال تأخذ مبادرات الدفاع عن إسرائيل ضد هجومات العرب في الميدان الدبلوماسي ومنها: برمانيا {جمهورية ميانمار حاليا}، ساحل العاج، فولتا العليا، إفريقيا الوسطى، مدغشقر والنيبال".

وشعرت إسرائيل فعلا بالخطر، وقامت "غولدا مايير" في أوائل نوفمبر 1964 برحلة عبر إفريقيا، وواجهت في هذه الرحلة متاعب، وخاصة في نيجيريا، واضطرت الصحافة الاستعمارية هناك أن تجند نفسها للدفاع عن إسرائيل، ودافعت عن وجهة نظر الاستعمار في الكونغو.

إنه تحول في الموقف، وهذا التحول يجب أن نسهر عليه، ويجب أن نعالجه حتى يستمر وحتى يكون المد الثوري أغلب من المناورات الاستعمارية.

5- عوامل النجاح:

هناك الآن عوامل كثيرة للنجاح يجب أن نسجلها ويجب أن ننتبه إليها. هناك المناخ الجديد في إفريقيا، وبالنسبة للثورة العربية المناخ الجديد الذي أحدثته الانتصارات السياسية والاجتماعية العربية، سواء في المشرق العربي أو في المغرب العربي، في قاعدة الثورة العربية في المغرب العربي التي هي الجزائر. يجب أن ندرك أن قيام حكم ثوري في الجزائر كان له دور أساسي في تغيير المفاهيم الإفريقية لدور إسرائيل في إفريقيا.

ثم هناك تجربة عربية في المشرق والمغرب لبناء مجتمع متقدم حقيقة لا يعتمد كالطفيليات على المساعدة الأجنبية، ولكن يعتمد أولا على نفسه، ولا تكون المساعدة الأجنبية إلا من قبيل أشكال التبادل التي تفرضها الظروف الاقتصادية والتي لا تتنافى مع قواعد التنمية الاقتصادية السليمة.

وهذه التجارب العربية لا تخضع للاستعمار ولا تخضع للاحتكارات الرأسمالية ولا لِحليفيْها الإقطاع والبرجوازية العميلة والمستغِلة. هذه التجارب ستلعب دورا كبيرا لإقناع المسؤولين في إفريقيا، في إقناع المنظمات الشعبية أولا، وهي في أغلبها مقتنعة، وإقناع المسؤولين الحكوميين ثانيا، بأن المعركة العربية هي معركة ثورية للتحرر والبناء، وهي معركة تحمل لواء التقدم الإنساني والاشتراكية والحرية.

وإن تلك القواعد المادية للثورة العربية في المشرق والمغرب، هي التي ستُمكننا وتُمكِّن قضية فلسطين من أن تخرج من إطارها العاطفي إلى إطارها العملي، حتى يتحقق التحرير الفعلي لفلسطين.

إن قضية فلسطين اليوم دخلت في إطار قضايا حركة التحرر العالمية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي لم تعد قضية عرب ويهود، بل حركة عربية ثورية ضد قوى الاستعمار بلا تعصب عنصري. فلذلك وبسبب هذا المفهوم الإنساني والعملي لقضية فلسطين، يمكننا أن نعتمد على القوى التقدمية والثورية في إفريقيا لتدرك حقيقة هذه القضية، ولتقف بجانب العرب في نضالهم العادل.

يبقى ما هو النموذج الذي يجب أن تسير عليه المعركة التحريرية في فلسطين، هذا النموذج مرتبط بالظروف الخاصة بفلسطين، ولكنه لا يختلف عن النماذج الأخرى التي عرفناها في آسيا وفي إفريقيا وفي أمريكا اللاتينية.

وإن خلاصة القول في هذا الموضوع هي ما ورد على لسان الرئيس جمال عبد الناصر في مؤتمر رؤساء الدول الإفريقية، حيث قال:

"إن ما حدث لشعب فلسطين شبيه بما حدث لشعب إفريقيا، جاءها المستوطنون الغرباء تحت دعوى السيادة العنصرية. سرقوا الأرض وطردوا أصحابها الأصليين ولم يجدوا سَنَدا من غير الاستعمار يساعدهم ليكونوا أداة له في صوره المختلفة".

وكان هذا النداء متجاوبا مع وجهة النظر الثورية الإفريقية، حيث أجاب رئيس مؤتمر الدول الإفريقية في يوليوز 1964 السيد "أحمد سيكوتوري"؛ إذ قال:

"إن النداء العاطفي الحار على مستوى عالٍ للضمير الحي، هذا النداء الذي وجهه الآن أخونا وصديقنا رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر في خطابه الافتتاحي لن يذهب دون أن يترك له صدى عظيما في نفوسنا. وإن هذا المؤتمر قد سجل بروح الارتياح هذا النداء باعتباره خير سبيل نسلكه وخير مسلك فعال يمكن لمؤتمرنا أن يسلكه ليحقق الأماني العميقة للشعوب الإفريقية عند دراسة جميع المشكلات التي تشغل بال الأفارقة بروح إفريقية وروح واقعية، مع العزم الصارم على أن نجد جميعا حلولا صائبة رشيدة، ومع التصميم الأكيد على أن نكفل بالعمل الملموس تحرير شعوبنا وسعادتها. ليس هذا فحسب، بل نعمل على خلق عالم جديد، ذلك العالم الذي ننشده ونحلم به جميعا، عالم العدالة والسلام.