عمان - شرّعت حكومة التوافق الوطني الفلسطينية، أمس، في أداء مهامها بقطاع غزة، أسوة بالضفة الغربية المحتلين، ضمن أولى خطوات إنجاز المصالحة، تحت رعاية الجهود المصرية، وسط غياب أفق قريب، على الأقل، يشيّ بدنو إنهاء الإنقسام، الممتدّ منذ العام 2007، وتحقيق الوحدة الوطنية.
وتكتسب المساعي المصرية، في النسخة الأحدث من مصفوفة جلسات الحوار المتوالية بلا نتائج، زخمّا وازنا، لتوفرّ الأجواء المحفزّة عند حركتيّ "فتح" و"حماس" لإنجاز المصالحة؛ إزاء مأزقهما الحرّج، الذي قارب حدوده غير المردودة، في ظل المشهد الإقليمي العربي المأزوم، والأفق المسدود لعملية السلام، فضلاً عن تدّهور حال الأراضي المحتلة بفعل العدوان الإسرائيلي المتصاعد، دونما انفراجة في نهاية النفق المعتم.
بيد أن الشكوك ما تزال تكتنف عملية التنفيذ الفعلي للمصالحة؛ والتي استهلتها الحكومة الفلسطينية بقرار تأجيل البت بما تسميها "حماس" الإجراءات العقابية ضدّ قطاع غزة، مثل الرواتب والإحالة على التقاعد وأزمة الكهرباء، إلى حين اجتماع "فتح" و"حماس" وبقية الفصائل الفلسطينية في القاهرة الأسبوع القادم.
وقياساً باتفاقيات سابقة؛ مثل وثيقة الوفاق الوطني، المعروفة "بوثيقة الأسرى" العام 2006، ومكة العام 2007، والقاهرة 2011، والدوحة 2012، والشاطئ 2014، وما بينها من لقاءات ممتدّة تستضيفها الساحة المصرية، فلا تزال أزمة الثقة المتبادلة سيدّة الموقف.
فيما سيبقى الاتفاق حبّرا ورقيا فقط؛ عند الإنشغال بالتفاصيل الغائبة عن جلسات الحوار، والمؤجل بحثها لفترات زمنية لاحقة، أو اتخاذ الاتفاق "طوق نجاة" مؤقتا من المأزق الراهن إلى حين تغير الظروف المصاحبة له، أو استهداف إخضاع أحد طرفيه لرؤية الآخر السياسية، مما يجعل محاولات تحقيق الوحدة الوطنية رهينة غياب الإرادة الحقيقية عند أطراف المعادلة السياسية الفلسطينية.
المصالحة وجهود التسوية
يجد فلسطينيون أن كفة إنجاز المصالحة ستغلب، في النهاية، إزاء إدراك خطورة المأزق الفلسطيني الراهن، وعدم تحقق قدرة الصمود أمام عدوان الاحتلال، إلا بالوحدة الوطنية، أسوة بتنفيذ الخيارات الاستراتيجية للمرحلة القادمة، ومنها استكمال المسعى الأممي، وتعزيز المقاومة الشعبية.
ومن شأن تشكيل الحكومة، بحسبهم، أن يخلق أجواء الثقة بين الطرفين، ويعزز المصداقية والجدية في تنفيذ المصالحة بين صفوف الشعب الفلسطيني، كما يهيئ المناخ المناسب لإجراء انتخابات، في حال توفر الإرادة الحقيقية عند الطرفين ضمن إطار جمعي وطني، وبدعم عربي إسلامي، لضمان نجاحها وديمومتها.
ويقدر رئيس تجمع الشخصيات الفلسطينية المستقلة، منيب المصري، "بتبدد العديد من المخاوف التي كانت تراود الشارع الفلسطيني حول جدية الأطراف بإنهاء الانقسام، عقب وصول الحكومة إلى قطاع غزة واستلامها الفعلي للوزارات والمؤسسات الحكومية".
ونوه إلى ضرورة "الاتفاق على برنامج سياسي، يقود إلى دولة مستقلة وكاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، بعاصمتها القدس المحتلة، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية بما يخص عودة اللاجئين الفلسطينيين".
ودعا إلى "الاتفاق الداخلي على طبيعة وأدوات النضال، وايجاد تحالفات خارجية تدعم نضال الشعب الفلسطيني، عدا تحسين مستوى معيشة المواطن، وفرض سيادة القانون، وتقوية الاقتصاد الوطني، لتحقيق أهداف الحرية والعودة والاستقلال، وبناء الدولة التي تتسع لجميع مواطنيها، بالشراكة مع القطاع الخاص".
بيد أن هناك من يربط بين المصالحة وجهود التسوّية السلميّة؛ حيث كشف مسؤول فلسطيني، لـ"الغد" من فلسطين المحتلة، عن "مساعي غربية للربط بين اتمام المصالحة، إذا جاءت وفق شروط معينة تساعد على إحياء العملية السلمية، وبين استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية".
ونوه إلى "الجولات المكوكية للمبعوث الأميركي الخاص لعملية السلام، لطرح "تسوّية" تقوم على المنظور الإسرائيلي للحكم الذاتي الفلسطيني المحدود، مع تقديم "تسهيلات" اقتصادية في إطار "الحل الإقليمي" الأشمل الذي يستهدف التطبيع قبل حل قضايا الوضع النهائي، عبر قلب صارخ للمبادرة العربية للسلام"، الصادرة العام 2002.
وقال المسؤول نفسه إن "القيادة الفلسطينية تشعر بالخذلان من الإدارة الأميركية، التي لم تعلن حتى الآن موقفا صريحا من وقف الاستيطان و"حل الدولتين"، في ظل تنامي التذمر الشعبي والفصائلي من المسار التفاوضي "العبثي"، الممتد منذ العام 1991، بدون تحقيق نتائج ملموسة على صعيد الحقوق الوطنية، وسط العدوان الإسرائيلي المتصاعد".
ولعل هذا الأمر قد دفع بالرئيس محمود عباس لأن يعلن، في الدورة 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي اختتمت أعمالها مؤخرا، عن العكوف على مراجعة استراتيجية شاملة للبحث عن حلول بديلة للمحافظة على الوجود الوطني الفلسطيني، من بينها تسليم مسؤولية السلطة للاحتلال.
تحديات أمام المصالحة
ألقى الإنقسام بتبعاته القاتمة على مفاصل المشهد الفلسطيني، فأحدث نقطة تحول وازنة في بنيوية النظام السياسي، تبعا لإشكاليات نشأته وفق "أوسلو" وليس تتويجا لنجاح المشروع الوطني في بلوغ غايته بإقامة الدولة.
وعكس المأزق الفلسطيني نفسه في خلاف سياسي عميق واختلاف بين رؤيتي طرفيّ النزاع حول طريقة تناول المشروع الوطني، لم تتمكنا حتى الآن من التوافق على قضايا جوهرية مرتبطة بمساري التسوية والمقاومة، والاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وبحقه في الأرض المحتلة سنة 1948.
وحضر هذا التباين في اتفاقيات المصالحة المتوالية؛ التي لم تفضِ إلى نتائج ملموسة حتى الآن، في ظل الخلافات البينيّة القائمة بين حركتيّ "فتح" و"حماس"، وضعف الإرادة الحقيقية للتغيير، وتأثير المتغيرات الخارجية في ثنايا الإنقسام.
ويرى الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، نايف حواتمة، أن "الشعب والمقاومة الوطنية، هما الخاسّر الأكبر من الانقسام المدمر بين طرفيّ النزاع، بينما يعدّ العدو الإسرائيلي الرابح الأكبر لتهويد القدس وضم الضفة الفلسطينية لمشروع الدولة الكبرى برئاسة الحكومة اليمينية المتطرفة".
ودعا إلى "مغادرة السلطة الفلسطينية للسياسة الإنتظارية والأوهام العقيمة على سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب"، حاثا على "إنجاح الدور المصري لإنهاء الإنقسام وإعادة بناء حكومة وحدة وطنية شاملة، وإجراء إنتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة وانتخاب مجلس وطني جديد في الوطن والشتات، وفق التمثيل النسبي الكامل".
العامل الإسرائيلي
فيما ما يزال العامل الإسرائيلي يلعب دورا مهما في تغذية الإنقسام وتعميقه، وعدم حله، بسبب سيطرته على ثلاثة ملفات على الأقل من تلك المطروحة على طاولة الحوار الفلسطيني، وهي الحكومة، والانتخابات، والأمن، وقدرته على تعطيلها وإفشالها.
كما يستفيد الاحتلال من استمرار الانقسام لمتابعة مشروعه الاستيطاني التهويدي في فلسطين المحتلة، والركون إلى واقع القطيعة بين الضفة وغزة للتدليل على ما يدّعيه أمام المجتمع الدولي من مزاعم عدم وجود شريك فلسطيني، وانتفاء ركائز إقامة الدولة الفلسطينية المتصلة على حدود 1967، خلافا للمسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة.
وتشكل الوحدة الوطنية الفلسطينية مصدر قلق إسرائيلي وازّن لما من شأنها كسرّ الأمر الواقع الحالي الذي يحرص الاحتلال على استمراريته في الأراضي المحتلة، وعرقلة مشروعه في الضفة الغربية التي يريدها مقسّمة الأوصال بين "دولة" زهاء 631 ألف مستوطن، وحكم ذاتي فلسطيني محدود ضمن منطقتي "أ" و"ب"، وفق تصنيف "أوسلو".
ويهدف الاحتلال إلى إخراج القدس من مطلب التقسيم، وقضمّ المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967، فيما تمتد "البقعة" الخارجة عن يدّه المحتلة ضمن "كانتونات" غير متصلة جغرافياً، لتشكل، مع مساحة قطاع غزة، قوام الكيان الفلسطيني المستقبلي، وفق الرؤية الإسرائيلية، الذي لا يخرج بالنسبة إليها عن إطار حكم ذاتي معني بالشئون المدنية للسكان، باستثناء السيادة والأمن الموكولين إليه.
ويتماهى "الفيتو" الأمريكي مع المحدد الإسرائيلي ضدّ المصالحة الفلسطينية، إلا إذا جاءت ضمن شروط معينة تساعد على إحياء العملية السلمية، واستئناف المفاوضات، وذلك لدرء خطر الوحدة الفلسطينية على المخطط الإسرائيلي- الأمريكي في فلسطين المحتلة، واستهداف زعزعة قدرة التأثير الفلسطيني المنقسّم، جغرافيا وسياسيا، على مسار القضية إقليميا ودوليا.
ويستهدف المخطط المشترك إلى إضعاف الموقف الفلسطيني التفاوضي لتحصيل الحقوق الوطنية في التحرير وتقرير المصير وحق العودة، فضلاً عن القلق من تبعات مشاركة "حماس" في الحكومة، وانضوائها في إطار منظمة التحرير، مع استمرار رفضها الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وبوجوده، وبالاتفاقيات الموقعة معه سابقا.
بينما يشكل المشهد الإقليمي العربيّ المضطرّب، منذ العام 2011، محددا معتبرّا لإنهاء الإنقسام وتحقيق الوحدة الفلسطينية، مما يجعله غير مؤثر في تقديم الدعم والنصرة المطلوبين للفلسطينيين، خارج سياق المواقف التضامنية، بما يمنح الاحتلال فرصة كافية لتعميق الخلل القائم لصالحه.
ملفات شائكة
تطلّ الملفات الشائكة؛ مثل تشكيل الحكومة، وإجراء الانتخابات، والأجهزة الأمنية، والبرنامج السياسي، وإعادة بناء منظمة التحرير، والسلم المجتمعي، برأسها الثقيل على تحقيق المصالحة، نظير رؤيتين متوازيتين لم تلتقيا في قواسم مشتركة حتى الآن.
إذ قد تؤدي غلبة تعثر حوار المصالحة على هدفه الأساسي إلى فشله، رغم توفر الأجواء الجادّة المواتية لإنجاحه، وذلك عند الإنشغال بالأدوات الفنية للتطبيق، وبروز الخلافات العالقة، واستهداف طرف لاخضاع الآخر سياسيا، مما يؤدي إلى عرقلة مساره.
وقد يبرز الشدّ هنا عند مشاورات الحكومة القادمة، أو إجراء الانتخابات، فيما تطلّ قضية التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة الفلسطينية والاحتلال برأسها الثقيل على أفق أيّ تحرك لتحقيق المصالحة، عدا عن مطالبة "حماس" بإبقاء سلاح المقاومة دونما مساس، مع دمج أفراد الشرطة والأمن في قطاع غزة ضمن إطار الأجهزة ألأمنية التابعة للسلطة.
فيما يقف تباين البرنامج السياسي حجّر عثرة عند الإيغال بعيدا في تطبيقات لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير، التي تستهدف دخول حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" تحت مظلتها، في ظل غياب الأرضية السياسية المشتركة بين حركتيّ "فتح" و"حماس".
ولم تسّهم وثيقة "المبادئ والسياسات العامة" الرسّمية لحركة "حماس"، التي أعلنتها في أيار (مايو) الماضي بالدوحة، في تقريب حدود المسافة البعيدة بين طرفيّ النزاع، رغم غلبة اللغة السياسيّة الأقل تشدداً على خطابها العقيديّ الأيديولوجيّ، مع الحفاظ على الثوابت المحتكمة إلى محددات المرجعية الإسلامية، بعيدا عن ضغط اللحظة وحراجتها..
ويدخل في هذا السياق تباين منظور الحركتين حيال تفسير بنود اتفاقات المصالحة المتوالية، والمغزى المستفاد من مضمونها، فبينما ترى "فتح" أن حكومة الوفاق الوطني ستكون "ملتزمة بالتزامات السلطة والاتفاقيات الموقعّة وبالبرنامج السياسي الذي أقرته مؤسسات منظمة التحرير"، ما يعني الالتزامات المبرمة مع الكيان الإسرائيلي والاعتراف به، فإن ذلك الأمر "مرفوض كليا" بالنسبة إلى "حماس"، التي تجدّ في الحكومة "مرحلة انتقالية لأداء مهام معينة وفق سقف زمني متفق عليه مسبقا".
هذا الخلط في الرؤى قد يقدّر له التغلغل في مفاصل عمل الحكومة ومسارها القادم عند الاحتكام إلى سياسة خارجية متباينة، وجدت حضورها، قبل تشكيلها، في موقف الطرفين المتغاير من أحداث ومتغيرات المنطقة، لاسيما حيال مصر وسورية.
في المقابل؛ فقد يشكل اتفاق المصالحة "طوق نجاة" مؤقتا إلى حين تبدل الظروف والمعطيات المصاحبة له، في ظل غياب الإرادة الحقيقية لتحقيق المصالحة وإنهاء الإنقسام.
ويعني ذلك الذهاب إليه "تكتيكيا"، لاستخدامه من قبل السلطة الفلسطينية كورقة مناورة للردّ على التعنت الإسرائيلي، في ظل الجهود الأميركية الحالية لاستئناف المفاوضات، ورسالة ضغط بوجود خيارات أخرى، إذا لم تتم الاستجابة لمطالب وقف الاستيطان والالتزام "بحل الدولتين" والاحتكام لمرجعية عام 1967، لضمان نجاح العملية السياسية.
كما قد يصار إلى محاولة توظيفه كبديل عن تفاهمات "حماس" والقيادي المفصول عن "فتح"، النائب محمد دحلان، والتي لم تجدّ استحسانا كبيرا عند "فتح"، والسلطة الفلسطينية، التي ينتابها القلق من تداعياتها على الوضع في الساحة الفلسطينية المحتلة، في ظل ما يتردد من وجود ما يسمى "مشروع دولة غزة"، وهو ما نفته "حماس".
فيما تستهدف "حماس" فك الحصار الخانق، وتخفيف وطأة الأوضاع المعيشية المتدهورة في القطاع، وتحسين علاقتها مع مصر، والانفتاح للعالم الخارجي.
بيدّ أن اتفاقاً من هذا النوع يستهدف إدارة الإنقسام فقط، وليس العمل على إنهائه، ويكرس مفاصله في الساحة المحتلة، ويتسبب في نزع ثقة الفلسطينيين بقيادتهم وتجاه الحركتين معا، ويعطي مجالا أكبر للضغط الأميركي تجاه انتزاع تنازلات من القيادة الفلسطينية لاستئناف المفاوضات، بينما يمضي الاحتلال في عدوانه الثابت بين ثنايا الانقسام الفلسطيني.