خليل كوثراني
لم يعد الحديث عن تقارب بين السعودية و"إسرائيل" رهن تحليلات واتهامات. بين الرياض وتل أبيب مشتركات تصل إلى حدّ التطابق في مسائل أساسية عدة في المنطقة. ورغم أن الخط المفتوح بين البلدين ليس وليد الأمس، إلّا أنّ الأمير الشاب محمد بن سلمان يخطو على نحو ثابت نحو تمتين «حلفه» غير المعلن مع حكام العدوّ، إلى درجة أنّه في بعض الملفات يتوافق الطرفان وينسقان من دون الحاجة إلى «المايسترو» الأميركي. ابن سلمان المأزوم في الداخل، وفي اليمن وسوريا، والمتوترة علاقته مع تركيا والقائد لقطيعة مع قطر ولحرب باردة مع إيران، ليس لديه في المنطقة من صديق حقيقي في «الرؤية» سوى صانع القرار في تل أبيب.
في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعطى وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، دفعاً قوياً لكل القراءات المتوقعة مرحلة جديدة من العلاقات السعودية الإسرائيلية. قال إنّ بلاده لا ترى مبرراً لاستمرار «النزاع» العربي ــ الإسرائيلي. لم تكن عبارته تحمل هذه الدلالات لولا تضافر المؤشرات في الداخل السعودي وخارجه توطئة لما يعدّ له من واشنطن، إلى الرياض، مروراً بتل أبيب وأبو ظبي.
على طاولة صاحب القرار الأول في السعودية، ولي العهد محمد بن سلمان، ملف رئيسي يجاور ملفات حساسة وحاسمة في خريطة طريقه نحو دور كبير في المنطقة يتعدى حدود عرش المملكة. يؤمن الأمير الشاب بأن لا خيار أمامه غير المضي في شراكته مع الأميركيين. في واشنطن، لا يخفى وجود استغلال وضع مأزوم تعيشه السعودية، تضاف إليه حساسية وضع ابن سلمان شخصياً في هذه المرحلة، وتتصاعد الضغوط في عهد دونالد ترامب لتسريع السير قدماً في «تسوية» كبرى تحقق الإجهاز على القضية الفلسطينية وتأمين تطبيع علني للعلاقات بين تل أبيب والرياض. ما يدفع باتجاهه ترامب، قاله صراحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أيام، متحدثاً عن إعداد الأميركيين «خطة» للتسوية، وواصفاً العمل في واشنطن بـ«الجاد».
على الضفة السعودية، لا تبخل الرياض بإرسال المؤشرات إلى تلقفها مشروع دونالد ترامب واستعدادها للسير به. الفارق في ملف التطبيع، عن باقي الملفات الحساسة التي يفتحها ابن سلمان تباعاً في الداخل، أنّ العلاقات مع "إسرائيل" لن تواجه بتيارات نافذة داخل البلاد سوى بعض النخب الثقافية والأوساط الشعبية. التيار الديني، من المؤسسة الوهابية الرسمية، جاهز على الدوام لمباركة خطوة مماثلة لا تصل في فكره وأدبياته إلى «خطورة» السماح للمرأة بقيادة السيارة، إلا أنّ رجال دين مؤثرين قد يكررون الاعتراض الذي أبدوه إبان حرب منطقة الخليج [الفارسي] وطلب التدخل الأميركي ضد عراق صدام حسين في الكويت. وهؤلاء الآن يقبع بعضهم في السجون، على رأسهم الداعية سلمان العودة، كـ«درس استباقي» تلاه ابن سلمان على من تحدثه نفسه بالتشويش أو الاعتراض.
لا يزال ابن سلمان يتجنب التطرق، ولو بحرف، إلى القضية الفلسطينية
وابن سلمان الذي قطع صيامه عن الكلام والتصريح الإعلامي منذ مدة طويلة، لا يزال محافظاً على تجنب التطرق، ولو بحرف، إلى القضية الفلسطينية والصراع العربي مع الاحتلال. وفي جبهة ابن سلمان، يحوّل الأخير حلفاءه في دولة البحرين إلى حقل تجارب للتقارب العلني مع تل أبيب، لما يبدو أنه جس نبض لردة فعل الشارع تجاه التصالح العلني مع "إسرائيل". لم يقتصر الأمر على تصريح ملك البحرين حمد بن خليفة، الذي استنكر مقاطعة العرب لإسرائيل، بل تعداه إلى التقارب مع اليهود الصهاينة في العالم. فأمس، كشفت صحيفة «جيروزاليم بوست» عن توجيه الملك البحريني دعوة إلى وفد يهودي أميركي (صهيوني) يرأسه مارك شناير، الحاخام الناشط في هامبتون الأميركية.
وقال شناير للصحيفة إن الهدف من البعثة هو «ما نصلي من أجله: السلام في الشرق الأوسط، والتعاون بين إسرائيل والدول المجاورة لها. نرى تغييرات في دول الخليج [الفارسي]، ونأمل أن تلهم هذه البعثة الجماعات والمنظمات اليهودية الأخرى، لإدراك أننا كأبناء إبراهيم يجمعنا كمسلمين ويهود إيمان ومصير مشترك». وزعم شناير أنه عمل مع الملك البحريني من أجل تصنيف حزب الله كجماعة إرهابية بشكل رسمي على قائمة مجلس التعاون الخليجي، وهو ما تحقق لاحقاً.
مقارنة مع التصريحات والتسريبات في الصحافة والحكومة الإسرائيليتين التي لا عدّ لها ولا حصر، وأبرزها «تبشير» نتنياهو المتواصل بوصول التعاون مع الدول العربية إلى مرحلة غير مسبوقة، فإن من الصعب العثور على مواقف سعودية بهذا الوضوح سوى نشاط كل من الضابط السابق في الاستخبارات أنور عشقي، ورئيس الاستخبارات العامة الأمير تركي الفيصل، اللذين لا يسوّقان للتطبيع فحسب، بل يمارسانه بشكل علني. لكن بالعودة إلى حديث عادل الجبير في الأمم المتحدة، يلاحظ أن المواقف السعودية بدأت تنحو منحى أشد وضوحاً وصراحة، ما يفتح الباب على التساؤل حول اقتراب ميعاد «الصفقة الكبرى» التي يجري الحديث في واشنطن عن توقفها على التطبيع السعودي ــ الإسرائيلي، كشرط إما سابق وإما لاحق أو متزامن. الجبير لم يكن صريحاً فقط في القول بأن لا مبرر لاستمرار «النزاع»، بل هو لم يستخدم عبارة الاحتلال، ولم يأت على إدانة تل أبيب.
ربما تظن الرياض الآن أن المعترضين على خطوة التطبيع باتوا في السجون، وأخذوا وآخرين إنذاراً رادعاً، إلا أن الراصد لمواقع التواصل الاجتماعي يلحظ طيفاً شعبياً واسعاً يعبّر منذ أشهر عن رفضه للتطبيع. تطبيع بات بحكم الأمر الواقع خلف الكواليس، حيث التعاون الأمني والسياسي، في منطقة تجد فيها الرياض أنها في خندق واحد وجبهة واحدة بوجه أعداء مشتركين: إيران وحلفاؤها في محور المقاومة. وفي الوقت نفسه، تشارك الرياض تل أبيب مشاعر «الخيبة» من تطورات المنطقة ورؤية التطورات تسير عكس مصالحهما من ناحية صعود المحور الآخر وتجاوزه التحديات التي مر بها. أما بخصوص الانتقال بهذا التعاون إلى العلن، فلم يعد يسأل المتابعون عن وجوده في إطار «الصفقة الكبرى» من عدمه، ولا حتى عن اقترابه، بل: متى التوقيع؟
المصدر: صحيفة الأخبار اللبنانية