2024-11-24 06:35 م

يهود أمريكا يهددون بقطع تمويلهم السخي عن إسرائيل للأبد.. لماذا؟

2017-08-16
وقع خلاف كبير، يوليو (تموز) الماضي، بين يهود الداخل ويهود الخارج، لا سيما يهود أمريكا، يهدد بشقاق دائم بينهما. حاول هذا التقرير من «فورين بوليسي» تسليط الضوء على هذا النزاع وأسبابه وما يمكن أن يترتب عنه في المستقبل.

ذكر التقرير في مقدمته أحد المشاهد في الفيلم الإسرائيلي «صاللاه شاباتي» لعام 1964، وكيف أنه يعطينا فكرة ممتازة تُبلور العلاقة بين اليهود الأمريكيين وإسرائيل؛ يدور المشهد في غابة تابعة لصندوق التمويل اليهودي في وسط إسرائيل، حيث يزرع المهاجر الجديد لإسرائيل، والذي يحمل الفيلم اسمه، صاللاه، أشجارًا. يتوقف تاكسي يحمل زوجين أمريكيين أغنياء ممن دفعوا مقابل الغابة. بعد أن يلتقط الزوجان بعض الصور ويقودان سيارتهما، يتوقف زوجان آخران، وسرعان ما تتبدل اللافتة التي كانت تحمل اسم المتبرعين الأولين ليحل محلها واحدة جديدة. يمسح الإسرائيليون الموجودون بالجوار العرق عن جباههم ويبتسمون لكاميرا الزوجين الثانيين، بينما يضحكون سرًا.

تبدو هذه المفارقة الساخرة أصدق ما تكون الشهر الجاري، إذ وقع خلاف غير مسبوق بين إسرائيل واليهود الأمريكيين يهدد للتطور إلى شقاق تام. إذ يهدد بعض يهود الشتات الغاضبين من سلسلة من الضربات التشريعية مصدرها المؤسسة الدينية الأرثوذكسية المتشددة في إسرائيل، بإيقاف تمويلهم السخي للأبد.

وقال سيت فاربر، وهو حاخام أرثوذكسي حداثي يقود منظمة «ITIM» وهي منظمة تساعد الإسرائيليين على استيعاب البيروقراطية الدينية في البلاد: «هذا الخلاف حقيقي. فالأمر ليس مقتصرًا على أنَّ اليهود من غير الأرثوذكس المتشددين لا يشعرون بالراحة جراء هذا التحول، وإنما هم يقولون: هذه ليست إسرائيل التي نعرفها».

وقد كانت هذه المواضيع الدائرة حول الأسئلة الشائكة مثل من هو اليهودي؟ وإلى أي مدى يمكن لغير الإسرائيليين أن يكون لهم رأي في شؤون الحياة في إسرائيل؟ بدأت تضطرب ببطء لسنوات. لكن طفح الكيل الشهر الماضي عندما أصدرت الحكومة الإسرائيلية ضربة سريعة لشعائر اليهود غير الأرثوذكس عندما منعت الصلاة المختلطة على الحائط الغربي ووافقت على مشروع قانون سوف يحظر قبول التحول إلى اليهودية إلا على أكثر الحاخامات تدينًا.
وعلى الرغم من وضع إسرائيل بصفتها ديمقراطية برلمانية، إلا أنها تمنح ائتلافًا من الحاخامات الأرثوذكس المتشددين سلطة قانونية على قضايا الحياة الرئيسية التي تشمل الزواج والطلاق والدفن. ويصنف حوالي 11 % فقط من اليهود في إسرائيل أنفسهم بأنهم حريديم، أو متدينون للغاية، لكنَّ معدل مواليدهم الأعلى بكثير – 6.9 أطفال لكل امرأة مقابل 3.1 أطفال بين الإسرائيليين العلمانيين – يعني أنَّ من المتوقع لأعدادهم أن تزيد بشكل كبير على مدى السنوات العشر المقبلة.

ويحظى هذا القطاع أيضًا بقوة هائلة في نظام التعددية الحزبية للبلاد، حيث يمسك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حاليًا بتحالف من أغلبية طفيفة قوامه 61 مقعدًا؛ أيّ معارضة من حزب واحد قد تنهي هذه الأغلبية، وتؤدي إلى انتخابات جديدة وهو الأمر الذي من شأنه أن يشكل تحديًا لرئيس الوزراء.
يقع الحائط الغربي (حائط المبكى أو حائط البراق)، الذي يعد واحدًا من أهم مواقع الصلوات اليهودية في العالم، تحت سيطرة الحاخامية الكبرى لإسرائيل، وهو ما يعني أنَّ القواعد المطبقة هناك هي ذاتها المطبقة في أي كنيس أرثوذكسي متشدد، فيُفصل بين الرجال والسيدات من المصلين، وثمة حظر كامل على استخدام السيدات للوسائل المساعدة في الصلاة، المرتبطة تقليديًا بالـ«رجال» مثل مخطوطات التوراة والتمائم (التيفيلين) وطواقي الرأس (الكيبوت).

ويقول التقرير إنه حتى أكثر اليهود علمانية في إسرائيل معتادون على فكرة أنَّ الصلاة في المعابد والآثار الدينية عادة ما تتطلب ترتيبات مثل الزي المحتشم والفصل بين الجنسين. لكنَّ صورة الشعائر اليهودية أكثر تعقيدًا بكثير في الولايات المتحدة. إذ يصنف أكثر من نصف اليهود الأمريكيين أنفسهم على أنهم إما من الحركة اليهودية الإصلاحية أو المحافظة، حيث يُرحب بارتداء النساء لشال الصلاة والقراءة من التوراة، ويغني الأزواج والزوجات الأناشيد العبرية معًا، وحيث تحظى القوانين اليهودية القديمة حول موضوعات مثل الكاشروت (قوانين الطعام اليهودية) ومراعاة السبت بتفسيرات معاصرة أكثر مرونة. وبينما يعرف أكثر اليهود في إسرائيل أنفسهم بأنهم إما متدينون أو علمانيون، فمن الممكن تمامًا، خارج حدود إسرائيل، أن تمارس نوعًا من اليهودية العلمانية التي تبدو لليهودي العادي المحافظ المتشدد، شيئًا لا يشبه اليهودية على الإطلاق.

لذا فعندما انحنى نتنياهو أمام ضغط الأرثوذكس المتطرفين الشهر الماضي وألغى اتفاقًا كان قد تم التوصل إليه بشق الأنفس، لبناء مساحة مختلطة في الحائط الغربي، لم تكن لتكتفي بالسماح بالعبادة المختلطة وإنما كانت سوف تسمح للنساء بإنشاد الصلوات والقراءة من التوراة وللفتيات في الموقع بالمشاركة في شعيرة «بات ميتسفا»، اعتبرت هذه الخطوة صفعة على وجه أغلبية يهود العالم.
وقالت أنات هوفمان، المديرة التنفيذية لمركز «الفعل الديني الإسرائيلي» والمؤسسة المشاركة لمنظمة «نساء الحائط»، وهي منظمة كانت في واجهة الصراع على الموقع: «إنَّ الحائط هو أكثر مكان يحظى بالزيارة في إسرائيل من كل اليهود، من داخل إسرائيل وخارجها، وقد أخذت الحكومة المفاتيح وسلمتها لمجموعة أقلية متطرفة. إنني أعتقد أنَّ الحكومة راغبة في بيع بعض من أثمن القيم التي يعتز بها بلدنا من أجل أسباب سياسية متعلقة باستمرار هذه الحكومة».

ودفعت الحكومة الإسرائيلية، في اليوم ذاته، مشروع قانون مثير للجدل متعلق بالتحول لليهودية سوف يجعل الحاخامية الكبرى في إسرائيل السلطة الوحيدة لتحديد اليهودي من غير اليهودي.

جاءت استجابة منظمات يهود الشتات سريعة ولاذعة. فألغت الوكالة اليهودية، أكبر منظمة يهودية غير ربحية وأحد الداعمين الأساسيين للهجرة إلى إسرائيل، فورًا، غداءً كان من المقرر عقده مع نتنياهو على سبيل الاعتراض، وأصدرت بيانًا توبيخيًا قالت فيه إنها «تستنكر» القرار. ودعت الحكومة الإسرائيلية فورًا إلى أن «تفهم خطورة هذه الخطوات» وأن ترجع عنها.
وقال فاربر: «الناس يشعرون بالقلق البالغ. يقولون: لن نكتب المزيد من الشيكات. هذه مسألة خطيرة بالنسبة للصهيونية. فمن المفترض أن تكون الصهيونية ذات صلة بالشعب اليهودي، لا مجرد الدولة اليهودية».

وقال الحاخام ريك جيكوبس، رئيس اتحاد إصلاح اليهودية، الذي يمثل حوالي 1.5 مليون يهودي في الولايات المتحدة وكندا إنَّ استخدام كلمة «خلاف» لا تفي الأمر حقه. وقال: «ثمة نوع من الصدع. إنَّ ما حدث في 25 يونيو (حزيران) يمثل شيئًا غير مسبوق… لم يعد الأمر كما كان سابقًا، وما حدث يضرب بعضًا من أهم التزامات الحياة اليهودية في مقتل».

وتعد الولايات المتحدة أقدم وأكبر حليف لإسرائيل، لكنَّ الكثير من اليهود الأمريكيين، الذين أصيبوا بالإحباط من جراء الاحتلال العنيد ومواجهة زيادة في المشاعر المعادية للصهيونية في الجامعات في كل أنحاء البلاد، صاروا يجدون الإعلان عن دعمهم للوطن اليهودي أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. وفي أمريكا، تسير الصهيونية والممارسة الدينية يدًا بيد: فقد وصفت دراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث عام 2013 مجتمع اليهود الأمريكيين بأنه يزداد ابتعادًا عن الالتزام الديني وأنه مجتمع يضعف فيه دعم إسرائيل بين الشباب والقطاعات الأقل تدينًا من السكان.

فلماذا إذًا تسمح الحكومة الإسرائيلية لمجموعة هامشية من الحاخامات بدفع تشريع يزيد النار اشتعالًا؟ يشير فاربر إلى عدد من العوامل أولها ضعف الحوار بين كبار حاخامات إسرائيل وباقي العالم اليهودي. وثانيها، وهو العامل الأكثر أهمية، استيعاب قرابة مليون يهودي متحدث بالروسية إلى إسرائيل في السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي.

وقال فاربر: «أولئك المهاجرون عرضوا الحاخامية إلى التنوع الرهيب للعالم اليهودي بطريقة لم يتعرضوا لها من قبل. فجأة وجدوا أنفسهم محاطين بمئات آلاف الناس الذين كانوا يظنون أنفسهم يهودًا، لكن بالنسبة للحاخامية، فهم لم يكونوا يهودًا. ونتج عن هذا شك ضخم في كل مجتمعات الشتات».
وينص قانون العودة الإسرائيلي على أنَّ كل اليهود مؤهلون للجنسية الفورية في إسرائيل، ويعرف «اليهودية» بأن يكون للمرء جد يهودي واحد. لكنَّ القانون اليهودي التلمودي، أو الهالاخاه، يعرّف اليهودية بأن يكون للمرء أم يهودية. وكانت إسرائيل قد تعرضت بين عامي 1988 و2004 إلى فيضان من المواطنين الجدد الذين لم يكن لهم أمهات يهودية، لكنهم أيضًا لم يكن لديهم الكثير من العلاقة مع العادات اليهودية مثل تجنب أكل لحم الخنزير أو مراعاة السبت، بل ذهب بعضهم إلى حد الاحتفال برأس السنة (الكريسماس).

ولما تزوج أولئك المهاجرون وأنجبوا أطفالًا، وأنتجوا جيلًا كاملًا من المواطنين الإسرائيليين، شعر الأرثوذكس المتطرفون في البلاد بالقلق المتزايد من أنَّ قداسة الشعائر اليهودية مثل الزواج ومراعاة السبت تتعرض للانتهاك. فجلبت هذه الديناميكية، جنبًا إلى جنب مع حسابات الائتلافات السياسية الإسرائيلية، موضوع دور القانون اليهودي داخل الدولة الديمقراطية إلى واجهة الجدل السياسي.

وقال البروفيسور يديدا سترن، نائب رئيس مركز الدين والأمة والدولة في معهد ديمقراطية إسرائيل: «منذ عدة أجيال مضت، كان اليهود المتشددون مهتمين بالأساس بحماية نمط حياتهم. أما الآن، فإننا نرى يهود الحريديم أكثر انخراطًا في تشكيل المجال العام، وهذه ظاهرة جديدة».

وقال التقرير إنَّ مستوطنات الضفة الغربية كان لها أيضًا دور مهم في تمهيد الطريق لسيطرة الحريديم على موضوعات الهوية اليهودية. وقد كانت الجماعة الدينية القومية – وهم أولئك اليهود الإسرائيليون الذين يرتدون الكيبا ويعرفون أنفسهم على أنهم أرثوذكس، لا أرثوذكس متشددون، ويفخرون بالخدمة في قوات جيش الدفاع، ويعتبرون حق استيطان اليهود للضفة الغربية أمرًا مفروغًا منه – كانت هذه الجماعة هي المنوطة بالفصل في مسائل الدين والدولة.
وأيًا كان الأمر، فقد أقنع المشرعون الأرثوذكس المتشددون الممثلين الدينيين الأكثر اعتدالًا بغض الطرف عن الزحف البطيء للأصولية في البلاد في مقابل تبطيء وتيرة البناء في الضفة الغربية. لكنَّ جيكوبس يقول إنَّ أولئك المعتدلين بينما كانوا يحمون مصالحهم، فقد قامروا بيهود العالم ظانين أنهم سوف يقفون مكتوفي الأيدي. وقد كان هذا الرهان، بحسب الحاخام الإصلاحي، رهانًا حزينًا.

وقال جيكوبس: «لا أعتقد أنَّ الكثير من أعضاء مجلس الوزراء الحالي لديهم فهم عميق لقوة يهود العالم. نحن كلنا في هذا الأمر معًا، لكنَّ هذه القرارات تشير إلى أننا لسنا معًا كما كنا نعتقد، وهذا يسبب أذى حقيقيًا. لقد كان هذا الأمر خطأً عميقًا».

ويقول الكثير من الإسرائيليين إنَّ شعور نتنياهو بتداعيات هذا الخطأ أمر يعتمد على سياسات الحشد التقليدية. فرئيس الوزراء لديه خبرة في المراوغة بين المطرقة والسندان، وهو يشعر بالأمن سياسيًا بشكل أكبر عندما يدعم اليهود المتشددين. وتقول هوفمان إنَّ اليهود الأمريكيين يحتاجون إلى فعل ما هو أكثر من الغضب أو اللامبالاة. فهم يحتاجون إلى حشد الناخبين الإسرائيليين لجلب تداعيات هذا الخلاف إلى الانتخابات الإسرائيلية القادمة.

وختمت هوفمان كلامها بالقول: «إنَّ إسرائيل مشروع مشترك لكل يهود الكوكب. تنعكس إسرائيل على كل واحد فينا، وتؤثر علينا جميعًا. إنَّ أكبر أعدائنا أن نصبح لا مبالين أو أن نقول إنَّ إسرائيل غير مهمة. إنَّ إسرائيل أكثر أهمية من أن تترك للإسرائيليين وحدهم».
"فورين بوليسي"