2024-11-27 04:32 م

صور الآخر في الفكر السياسي العربي المعاصر

2017-07-24
عزيزة السبيني
 
لا توجد أيديولوجيا عربية منتجة ذاتياً، أصلانية بالمعنى الحديث لها، فمعظم النظريات والتصورات الفلسفية والفكرية والمجتمعية، وفدت إلى المنطقة بفعل الهيمنة الخارجية المتحققة، أو جرى استدعاؤها من قبل النخبة لاستثمارها عربياً.
يطرح الباحث محمد عطوان في كتابه المعنون "صورة الآخر في الفكر السياسي العربي المعاصر"، جملة من التساؤلات حول ما إذا كان المفكرون العرب المعاصرون تمثلوا الآخر الغربي بتجلّياته المتنوعة (الاستشراقي، العلماني، الإيديولوجي، الاستعماري)، في صورة واضحة، تامة المعنى أم كان يشوبها النقص. وإذا كان الأمر كذلك، فهو يتساءل عن العلة في كلا الشقين، من هنا فإن الدراسة التي بين أيدينا تقوم على افتراض مفاده، أن المفكرين العرب المعاصرين قد تمثلوا مقولات الغرب على هيئة صور، وأن هذه الصور مهما بلغت مساحتها من العلمية والشمول، فإنها لا شك، تظل مواربة للأصل، أو أقل منه. لذلك نرى الكاتب سعى عبر صفحات الدراسة إلى تبيان مستويات تمثّل هذه الصور من خلال قبولها تارة، وتكييفها تارة أخرى، ومن ثم، تثبيت ما يُعتقد بأصالته من خلال منظورات ومواقف المفكرين والكتاب العرب.
تضمنت الدراسة مدخلاً مفاهيمياً وأربعة أقسام وخاتمة:
يعرض في المدخل المفاهيمي كلمات المفاتيح الخاصة بالأنا الذي يقابل الآخر، وصورهما، فالأنا هي الذات المفكرة، والآخر هو الموضوع الخارجي عنها، وعندما يتماهى كل منهما، يصير الأنا هو الذات، والآخر هو الموضوع بالضرورة. وهنا يشير الكاتب إلى بعض المقولات الغربية التي جرى محاكاة صورها عربياً، وهي (الاستشراق، العلمانية، الأيديولوجيا، الاستعمار)، ويرى أن ما قيل عنها عربياً، هو بمثابة ترسّبات أسهم العامل الخارجي في تكوينها. وهذه الترسّبات بحد ذاتها خلقت وأدامت مفردات لتنشيط مستوى داخلياً من الحوار مع الآخر في رحابة الأنا العربية، ويستشهد هنا بقول لجان بول سارتر من كتابه "الوجود والعدم": "حينما يسلب الآخر وجودي يمنحني في الوقت ذاته وجوداً آخر، ويجعلني مسؤولاً عن وجودي الآخر من من دون أن أكون أساساً لهذا الوجود، فأصنع لي من هذا الآخر تصوراً ما على شاكلتي، بذلك فإنني أوجده".
ولا يشك المؤلف بأن أسئلة النهضة العربية التي طرحها المفكرون الإصلاحيون بشأن الأصالة والمعاصرة، والدين والدولة، والفكر والوجود، والأنا والآخر، وغيرها من الثنائيات، لم تحسم ملابساتها بعد، برغم مرور أكثر من نصف قرن على طرحها. وهي، أيضاً، ذات الأسئلة التي لم يقوَ الفكر السياسي العربي المعاصر على توفير إجابة وافية بشأنها. لذلك من العبث – والقول للمؤلف- عدّ التطور الذي حصل في الدولة العربية الحديثة، تطوراً تراكمياً طبيعياً، فما حصل في الخمسين سنة التي أعقبت ذلك هو توجيه فاعلية المؤسسسات المجتمعية والحكومية الداخلية لخدمة أيديولوجيا أحادية، وتقويض أطر الدولة وهياكلها الخارجية عبر تعميق حضور التجربة الوطنية المحلية على حساب ما كان يسعى الاتجاه القومي إلى تجسيده في تلك المرحلة.
لذلك فإن دعاة الفكر المعاصر بتياراتهم المتنوعة، وأيديولوجياتهم المختلفة حيناً، والمتوافقة حيناً آخر، لا يزالون يدورون في فلك أسئلة المواجهة العربية الأولى التي حدثت مع الغرب في القرن التاسع عشر، من دون الانتقال بها إلى سؤال النهضة الذي تشكَّل في حينه، وهو كيف يمكن التعامل مع معطيات الحداثة بأدوات نقد ليست حداثية بغية تحديد قراءة مناسبة للواقع، وكيف بالمقدور فهم الماضي من غير فهم بديهيات الحاضر؟
  
صور الآخر الاستشراقي

في القسم الأول من الكتاب الذي حمل عنوان "صور الآخر الاستشراقي"، يذكّر فيه المؤلف بماهية الاستشراق، وأسبابه، ودوافعه، التي رأى أنه لم يخرج عن المنظومة التي وضعها كثير من الباحثين والدارسين. فهو في نظرهم لا يخرج عن كونه معطى استعمارياً، وإن اختلفت أشكاله، فالاستشراق لعب دوراً مركزياً في تمثيل الشرق عبر تصورات نمطية صيغت في نصوص مختلفة حسب مرجعيات مدوّنيها ورؤاهم، ومثّلت في الأخير عملاً جمعياً غربياً، امتلك حججه التي بدت كما لو أنها عقائد ويقينيات ملزمة، فأسهمت النظرة الذاتية الأحادية للخطاب الاستشراقي، على الصعيد السياسي، في مركزة التصور الغربي عن الآخر الشرقي/ العربي، بقصد معرفته، أو تقديم معرفة به، وإنتاج مبررات إخضاعه واحتلاله. وكان الغرض من وراء ذلك تمثيله وتأهيله وفق القيم الحضارية الغربية، وبقدر ما كان الخطاب الاستشراقي ينطوي على جهود بحثية ترقى إلى العلمية والموضوعية، فإنه وقع عملياً في تحيّزات كامنة، واستطرادات أملتها التراكمات التاريخية الذاتية المختزنة لدى الغرب عن الشرق، أسهم في صناعتها الرحالة والقناصل، والمبشّرون، والمدوّنون الرسميون وغير الرسميين، الذين نقلوا صورة عن الشرق بدت أقل تعبيراً عما هو عليه في الواقع، وهو ما جعل الشرق من منظور غربي، ذاتاً مُتشكّلة ومخترعة، تهيء لبناء استراتيجيات تقف في مقدمتها استراتيجيات الاستيلاء والتملك والهيمنة.
في المقابل، يجد المؤلف أن الباحثين العرب الذين سعوا إلى قراءة الآخر الغربي، والزعم بإمكانية إخضاعه عبر مقولة الاستغراب، كان دافعهم الأساس هو التعويض الذاتي، ونزوعاً سيكولوجياً ذاتياً عملت على تحفيزه الأسباب التي أنتجها الغرب للشرق، فأُريد بواسطته إعادة الاعتبار للذات العربية، وتأسيس منظومة تمثيلية مضادة تعمل على محو الصدوع التي خلفتها الهيمنة الغربية، وصنع توازن نسبي لها على الأقل، بين عالمين ثقافيين غير متماثلين، وتوظيف مقولة الاستغراب متأملين في جعلها مقولة واقعية.
 
 
صور الآخر العلماني

ينتقل المؤلف في القسم الثاني من الكتاب للحديث عن الآخر العلماني وكيف بدت صورته، ومتى بدأت في المجتمع العربي.
يعود المؤلف إلى الجذور الأولى للعلمانية في المجتمع الغربي، وتاريخ انتقالها إلى الشرق في القرن التاسع عشر مع رجال السياسة الغربيين الذين حاولوا أن يدخلوا مفاهيمهم على الواقع السياسي والاجتماعي للبلدان العربية عن العلمانية والدولة والمجتمع، لتمارس تلك المفاهيم تأثيراتها على بعض التيارات الفكرية العربية في سياق تعرّف الأخيرة إلى صورة الآخر الغربي.
وبما أن العلمانية فكرة حديثة وفدت إلى الثقافة العربية، لها مرجعيات خاصة -غير عربية- فهي تستبطن قصداً وسياقاً تداولياً خاصاً بها، ولها بنيتها الإشكالية وشروط اشتغالها ومنطق تشكّلها وظروفها البيئية التي نشأت ونضجت بها، حتى صارت مع مرور الوقت فكرة قابلة للترحيل، وعابرة لحدودها المكانية والزمانية.
وفي هذا السياق يستشهد المؤلف بقول المفكر عبد الرزاق بلعقروز في كتابه "تحولات الفكر الفلسفي المعاصر": "كل مفهوم متنقل يفقد عناصر كثيرة من الدلالة الأولى التي أعطيت له عند بداية ظهوره ونشأته بالضرورة، ليكتسب، في الوقت ذاته، عناصر دلالية أخرى جديدة، وقد تُناط به في أغلب الأحايين مهمة القيام بدور غير الذي كان له في البدء، ومقاربة مشكل آخر(مشكل الاستنبات) من طبيعة مختلفة".
 لكن الحاجة إلى العلمانية لا تعود إلى مسائل الإيمان والاقتناع، بل "تمثّل حلاً عملياً لمشاكل يكون ضررها عاماً للجميع"، بحسب قول تركي الحمد في كتابه "السياسة بين الحلال والحرام".
وفي هذا السياق يستشهد الكاتب بآراء المفكرين العرب من أيديولوجيات ومشارب فكرية مختلفة حول العلمانية، فالمفكرون الإسلاميون برغم اختلافهم في قضايا فقهية كثيرة، نجدهم توحدوا في نظرتهم للعلمانية التي رأوا فيها نوايا تفكيك لأواصر العروبة والإسلام، وفصل الدين عن الدولة، في حين اعتقد الاشتراكيون أن للعلمانية قدرة على صنع أفق عابر لمفهوم الانتماء إلى طائفة، أو هويات أقلوية، هذا الاختلاف بين المفكرين حول الإطار النظري الفكري العام للعلمانية عزا أسبابه محمد أركون إلى نقص المراجع التاريخية والفلسفية اللازمة لمعرفة مشكلة العلمنة.
وبما أن العلمانية نتاج غربي ملازم للتاريخ السياسي والاقتصادي لأوروبا، فإن عملية تمثّلها عربياً كان لحل المشكلات العالقة مع الدولة العثمانية في تلك المرحلة، وذلك عندما تأثر بعض المفكرين العرب بالحضارة الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحاولوا تقليد معطيات الغرب، والنسج على منواله، فنشأت الدعوة إلى العلمانية في ظل خصوصية اجتماعية محلية مغايرة للخصوصية الاجتماعية داخل أوروبا، حيث لم توجد طبقة رأسمالية ناشئة أو بورجوازية عربية مناهضة للإقطاع تعي مصالحها ضمن واقعها الاجتماعي، الأمر الذي يستوجب عبرها نهوض العلمانية. كما لم تكن التحوّلات التحديثية، التي تبنّاها العلمانيون العرب، وظهرت ظلالها في المنطقة العربية، نتاج ثورة برجوازية عربية، بقدر ما هي نتاج تمثّل معطى غربياً حصلت تحوّلاته الطبقية في أوروبا.
  
صور الآخر الأيديولوجي

في القسم الثالث من الكتاب يتتبع المؤلف الصور الأيديولوجية وانتقالها من الثقافة الغربية إلى الثقافة العربية، ومن أبرز هذه الصور، القومية والليبرالية والماركسية.
يبدأ بالحديث عن التأثير الأوروبي في هذه الصور، الذي كان واضحاً بداية، في توجيه الوعي القومي العربي لتجسيد فكرة القومية في إطار الدولة-الأمة، التي توحّدها خصائص مشتركة، وخاصة، في الفترة التي كان فيها العرب يخضعون للسيطرة العثمانية، إذ اشتد وعي الذات العربية القومي، في نطاق الظروف التي تعيشها الدول العربية تحت الحكم التركي، فحدث تحرك قومي عربي في إطار سياسي لا مركزي، ساهمت في دعمه دخول القوات البريطانية والفرنسية إلى المنطقة، مع تصاعد خطابات تنبئ ببدء عهد عربي جديد، يكون فيه للعرب دولتهم القومية العصرية الجديدة على حساب عهود السلطنة الآخذة بالزوال.
واتخذ هذا الوعي القومي العربي المتأثر بأنماط القوميات الأوروبية اتجاهاً هدفه توحيد البلاد العربية وتحريرها، وهذه الصيغة مهدت لاتخاذ القومية مبدأً، وفلسفة، وعقيدة بالمعنى الواقعي للكلمة. لكن القومية كغيرها من الأيديولوجيات الوافدة لم تجد أرضاً تغرس فيها، فها هو عبد الله العروي في كتابه "مفهوم الإيديولوجيا" يشبه توظيف القومية بقناع يسهل على العرب اجتياف ما يشيده الغرب فوق أرضه، من دون الاهتمام بطبيعة خصائص البيئة العربية الاجتماعية والثقافية، ومستويات تطورها الاقتصادية والسياسية التي يراد توظيف القومية فيها.
أما المنظومة الفكرية الليبرالية فقد دخلت الفكر العربي مع عصر النهضة العربية، حاملة معها معاني ودلالات جديدة لمفهوم الحرية، وربطه بمفاهيم الحق والمساواة والتقدم والعدالة الاجتماعية، وأُعطيت كلها مضامين اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتوجهت الجهود الفلسفية لدى بعض المفكرين العرب إلى بحث القضايا التي تتناول معضلات الواقع السياسي العربي، والعمل على تفعيلها، إذ جرى التركيز على الإصلاح السياسي، ولكن من دون العناية بالأسس الفلسفية لليبرالية، فلم يهتم المفكرون العرب بها، أو في أصولها، بل اهتموا بها كرؤية فقط يؤدي قبولها إلى التحرر.
ومع ذلك، فإن البنية الثقافية التقليدية، راحت تضغط على كيفية إبعاد الليبرالية من الحقل التداولي العربي، لارتباك صلتها بالتراث. وبالتوازي مع محاولات التوفيق بين الوافد الثقافي، وبين التراث، ظهر تيار ليبرالي عربي آثر الانقطاع عن قيم التراث وتجاوزها، ولم تكن الليبرالية بالنسبة لهذا التيار لتقوم على استنهاض رواسب الثقافة القديمة، بل تتجه نحو المستقبل.
ورغم محاولات تبنّي الليبرالية من قبل المفكرين والسياسيين العرب، لكنهم فشلوا في تكريس مفاهيمها في المجتمعات العربية، والسبب في ذلك يعود إلى غياب البناء الفلسفي الليبرالي العربي الذي أضعف قبولها بكل جوانبها.
وينتقل المؤلف إلى الصورة الثالثة وهي الماركسية، التي يرى أنها أحد أهم الأعمدة النظرية الرئيسة المؤسسة لبنيان الفكر السياسي العربي الحديث والمعاصر، وإن لم يتسنَ لها أن تأخذ فرصتها في الممارسة والتطبيق السياسيَين، أو أن تسود مفاهيمها على المفاهيم والنظريات الإسلامية والقومية التي كانت تشغل المجال السياسي، ذلك لأن الماركسية تختلف عن الليبرالية والقومية، باعتبارها نظرية علمية، تملك ما يبرر تطبيقها في الواقع المراد استنباتها فيه، وهي القادرة على وضع البدائل النظرية المناسبة لواقعها، ومحكومة بظروف وسياقات ثقافية واقتصادية وسياسية مميزة بدرجة كبيرة، وتطور في مسار الرأسمالية لم يقوَ التمثّل العربي على مجاراته.
ما أراد الكاتب قوله في هذا الفصل هو أنه لا توجد أيديولوجيا عربية منتجة ذاتياً، أصلانية بالمعنى الحديث لها، فمعظم النظريات والتصوّرات الفلسفية والفكرية والمجتمعية، وفدت إلى المنطقة بفعل الهيمنة الخارجية المتحققة، أو جرى استدعاؤها من قبل النخبة لاستثمارها عربياً، اعتقاداً بوجود ملامح مجتمعية تلامس مفرداتها، أو لحاجة أو استعداد من شأنه أن يُنجح التجربة في الواقع الجديد. ولا بد في هذه المقايسة الحضارية إدراك الفارق في الأسس النظرية التي تُبنى عليها الفلسفات على اختلافها.
 
 
صور الآخر الاستعماري

في القسم الرابع والأخير يتحدث المؤلف عن الاحتلالات الغربية التي شهدتها المنطقة العربية منذ القرن التاسع عشر، وحتى يومنا هذا، والتي كان لها أثر كبير وجوهري في مسيرة تشكّل العقل السياسي العربي. ونظراً لتشعّب واختلاف صور هذه الاحتلالات، فقد اختار المؤلف بعض الصور من بعض البلدان التي خضعت للإحتلال، بدأ بالحديث عن الحملة الفرنسية على مصر في العام 1798، التي طبعت مصر بطابع التمدن، وأصبحت صورتها المميزة. لكن التمدين الفرنسي في تلك الفترة، كان يقابله تدنّي وتخلّف البنية الثقافية العربية التقليدية في الجانب المتعلق منه بتنظيم السلطة في حينه. وكان الإنشاء صورة الإحتلال البريطاني للمنطقة العربية في العام 1914، يقابله ظرفية ظهور وضع كياني عربي- إسلامي متحلل من الدولة العثمانية، وكان الاستيطان صورة الإحتلال الصهيوني لفلسطين في العام 1948، كتعبير أيديولوجي ما ورائي عن المعتقدات التوراتية للأرض الفلسطينية، ومثّل التفتيت صورة الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، كناية عن رؤية ما بعد استعمارية تُعيد النظر بأشكال الأبنية الوطنية التي أوجدها الاستعمار التقليدي قبل قرن مضى، وقد كانت هذه الاحتلالات متواليات متمايزة في الواقع، شاءت استراتيجيات الهيمنة الغربية صوغها، واستجاب العقل السياسي العربي لمعطياتها سلباً وإيجاباً، حتى باتت جزءاً فاعلاً في تاريخية الدولة العربية ومراحل تشكّلها.
وباختصار، يُبيّن الكاتب أن أغلب ما تمخض عن تشكيل الدولة العربية الناشئة لم يكن نتاجاً لتحول اجتماعي تراكمي ذاتي، تمخض عما كان يطلق عليه سابقاً دولة الأمة بمنظورها التاريخي البورجوازي الغربي، التي أسهم الاحتلال البريطاني في إنشاء دول من هذا النوع، وتمكينها عبر سياسات الحماية والانتداب والإنشاء والاستقلال.
كما مثّل الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لأرض فلسطين المؤشر الوجودي العملي لمواجهة الآخر، فلم تكن المواجهة بين شعب فلسطين والاحتلال الصهيوني حصراً، بل المواجهة بين العرب وسياسات الآخر الغربي على الأرض العربية. فكان الصراع حول المشاريع التي يراد لها الديمومة والاستمرار في رسم مصائر المنطقة، فإما أن ينتهي إلى قيام مشاريع شرق أوسطية- بحسب المنظور الغربي والإسرائيلي، أو ينتهي إلى نجاح المشاريع المتعلقة بقيام الدولة العربية الموحدة- بحسب المنظور القومي للدولة العربية.
وأخيراً، أجهز الاحتلال الأميركي للعراق على بقايا ما يُسمّى أشكال الإنشاء الكولونيالي للدولة ذات الطابع القومي في العراق، ليحل محله اليمين الشتراوسي، وذلك نسبة إلى ليو شتراوس وهو فيلسوف أميركي يهودي من أصل ألماني، يعده البعض الملهم لأيديولوجيا المحافظين الجدد التي تسود حالياً داخل الحزب الجمهوري الأميركي، وذلك عبر إعادة صوغ منظورات الدولة القائمة على الأطروحة العروبية، وإبدالها بمنظورات ما بعد استعمارية تحتفي بصعود مفردات الطائفة والعرق والقبائلية، والمناطقية، والمحلية إلى المتن الفلسفي والسياسي للدولة العربية اليوم.
 
*كاتبة سورية