2024-11-27 07:45 م

عن تجربة قطر ودروسها: لا الغاز ولا النفط يبنى ــ وحده ــ الدول

2017-06-23
كتب طلال سلمان
تصلح تجربة قطر لأن تدرس: فهى، فى الأصل، مشيخة خليجية صغيرة المساحة المسكونة، معدودة السكان، كان أهلها الفقراء يعيشون من البحر، لؤلؤا وسمكا وبعض التجارة مع جيرانهم فى الخليج العربى والسعودية وإيران.
ثم.. منّ الله على المشيخة الصغيرة بثروة خرافية من الغاز فى مياه الخليج أمامها وصولا إلى ايران.. وباشرت الشركات الأجنبية التى جذبتها الثروة الجديدة إلى شبه الجزيرة، قطر، لاستثمار الثروة التى تدفقت كما الهواء، فرفعت البلاد الفقيرة إلى مصاف أشقائها الأغنياء، بل هى تجاوزتهم فى الثروة بأشواط؟
ضرب غرور الثروة رأس شيوخ قطر من الأسرة الحاكمة.. فأقدم ولى العهد، الشيخ حمد، الذى كان يزين مكتبه بصورة القائد العربى العظيم جمال عبدالناصر، على خلع والده، خلال غيابه عن البلاد فى رحلة استجمام، ومنعه من العودة إلى الدوحة فبقى ضيفا على الأسرة الحاكمة فى أبوظبى عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة.
لم تكن تلك أول مرة يخلع فيها الابن الأب، فمن قبل كان الأب قد قام بخلع سلفه وتولى السلطة مكانه..
نفخ الغاز قطر، فصارت الدوحة عاصمة عربية كبرى، وصارت تبحث عن دور عربى ثم عن دور دولى. وكانت السعودية وسائر دول الخليج نائمة، ثم فوجئت بمحطة «الجزيرة» تسيطر على الأجواء وتوجه السياسات، وتستضيف قوى سياسية مختلفة، أبرزها الاخوان المسلمون ومختلف أشتات المعارضات للأنظمة القائمة، ومن ثم المعارضات السورية على وجه الخصوص.. التى تولت تمويلها وتسليحها وأكرمت وفادتها وسخرت لها محطة «الجزيرة» لتعلن مواقفها المنادية بإسقاط النظام السورى. بل إنها استخدمت نفوذها المذهب «لطرد» سوريا من جامعة الدول العربية، علما أن «الجمهورية السورية» كانت بين الدول المؤسسة لهذه الجامعة فى منتصف الأربعينيات.
بل إن قطر تجاوزت الحدود جميعا، فاعترفت بالكيان الصهيونى الذى أقام قنصلية سرعان ما حولها إلى سفارة فى الدوحة، فى سابقة لم يتجرأ على الإقدام عليها أى بلد عربى آخر، فى ما عدا الاردن الهاشمى ثم مصر أنور السادات.
مدت الدوحة أذرعتها بالذهب فرعت جماعات كثيرة وأحزابا وتنظيمات أصولية، كما «استضافت» داعية الاخوان المسلمين الشيخ القرضاوى موفرة له المنبر الممتاز.. كما لمت شمل الاخوان بعد اطاحة حكمهم فى مصر.. وهكذا استبدل الشيخ خليفة القاهرة بأنقرة، وعزز علاقته بإخوان تركيا وحكمهم كحليف أول.
***
كان بديهيا أن يتفجر مسلسل من الصراعات نتيجة تضخم الدور القطرى الذى لا سند له لا من التاريخ ولا من الجغرافيا... وثروة الغاز ليست أعظم من ثروات جيرانها بالنفط، كما بالتاريخ، والسعودية منها بالذات.
اندفعت قطر، بغرور عظيم، تحاول تغيير النظام فى سوريا، وكان «صديقا» إلى حد أن الرئيس السورى قدم للشيخ حمد بن خليفة، أميرها قبل أن يخلع، تلة تطل على ميسلون حيث جرت المعركة البطولية التى استشهد فيها وزير الحربية يوسف العظمة لمنع جيوش الاحتلال الفرنسى من دخول دمشق، مع نهاية الحرب العالمية الأولى. 
كذلك فقد تحرشت بالعراق مستفيدة من الفوضى العارمة التى ضربته بعد الاحتلال الأمريكى فى 2003..
وقفزت قطر من بعد إلى الأقطار العربية فى أفريقيا، وبعد تجربتها البائسة مع الاخوان فى مصر، كان لها تجربة تبدت ناجحة مع الاخوان المسلمين فى تونس، الذين أخذهم غرور العودة من المنفى إلى طلب السلطة كاملة فكانت النتيجة أن اخرجوا منها.. ثم قفزت قطر إلى صحراء ليبيا السياسية فحاولت تركيب تحالفات شيطانية سرعت فى تفجر البلاد فقيرة التجربة السياسية بعد عهد التفرد القذافى.. ومدت قطر أذرعتها نحو الجزائر والمغرب فلم توفق فانحدرت نحو الصحراء الأفريقية ثم التفتت إلى بعض الجزر فى المحيط.
بالمقابل، اندفعت قطر بمالها إلى أوروبا بعنوان فرنسا وبريطانيا، فاشترت الفنادق الكبرى وبعض البنايات ذات الشهرة العالمية... واقتحمت الرياضة، فاشترت فرقا من الدرجة الأولى، كما جاءت إلى فريقها بلاعبين دوليين، وأنشأت واحدة من أفخم المدن الرياضية لتقام فيها دورة اللعاب الأوليمبية للعام 2020 .. إلخ..
كانت «الجزيرة» هى المدفعية التى تجهد ــ بقدراتها الاعلامية المميزة ــ للهجوم السياسى، وتقدم قطر للعالم وكأنها عاصمة القرار العربى، بل الاقليمى إذا ما أضفنا تركيا واسرائيل إلى ما تعتبره الدوحة مجالها الحيوى.
على أن انتفاخ قطر سرعان ما واجه صعوبة فى استمرار التمدد بعد وفاة الملك عبدالله فى السعودية، ومجىء «العهد الجديد» فيها بقيادة الملك سلمان وإلى جانبه نجله الطموح جدا محمد بن سلمان المتنافس داخليا مع ولى العهد الأمير محمد بن نايف، والموثق علاقاته بواشنطن عن طريق بيعها خطته لاقتحام العصر بأية كلفة كانت وتقديم نفسه بوصفه رجل المستقبل.
كذلك كان ولى العهد الشيخ محمد بن زايد، رجل المستقبل فى دولة الإمارات العربية المتحدة قد أعد نفسه فعليا ليكون الشريك المطلوب لمحمد بن سلمان، انطلاقا من واشنطن وانتهاء بالحرب على اليمن..
المال بالمال، والسلاح بالسلاح، والاعلام بالإعلام، لكن أحجام الدول وقدراتها وعلاقاتها العربية والدولية هى التى تحسم.
ودارت حرب نفوذ طاحنة بين السعودية ومعها بالضرورة البحرين، وبالتحالف دولة الإمارات، وعلى الجانب الآخر بغازها ومساحة نفوذها الذهبى.
***
كانت تركيا تدعم قطر إلى حد أنها خسرت السعودية..
ثم أن السعودية ومن معها قررت الحرب على ايران، بالسلاح المذهبى، لتصل النار إلى سوريا ولبنان (عبر «حزب الله»)..
هكذا خسرت قطر مجالا حيويا ممتازا كانت تلعب فيه من خلال مساهمتها المباشرة فى دعم المعارضة السورية بالمال والسلاح.. فدفعت السعودية أكثر واشترت المعارضة السورية.
على الضفة الأخرى أدى دعم تركيا الاخوان المسلمين إلى خسارتها مصر التى تحولت إلى عدو، مما أحرج الجيب التركى الفلسطينى ممثلا بمنظمة «حماس» فى غزة.. فقد وجدت نفسها مضطرة، فى نهاية المطاف، إلى التبرؤ من تنظم الاخوان المسلمين الذى كان يشكل هويتها السياسية..
هكذا بدأت قطر تخسر الكثير من مواقع نفوذها، خصوصا وقد نجحت السعودية فى شراء الرضا المصرى والصمت العراقى، ودعم الأردن، والحياد اللبنانى، والغياب السورى وولاء جامعة الدول العربية لتقزم الدور القطرى فيها.
المال وحده لا يصنع السياسات ولا يحمى الدول..
هكذا فإن «التجديد» فى السياسة السعودية، معززا بدعم دولة الإمارات، وثنائية «المحمدين» ــ محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ــ وسبقهما إلى توطيد العلاقة مع العهد الامريكى الجديد الذى جاء بعد أوباما الذى لم يكن قريبا من قلوب هؤلاء «البدو الأجلاف»، كل ذلك قد حاصر النفوذ القطرى عربيا ودوليا.. ولم تعد «الجزيرة» صانعة السياسات (والحروب) العربية.
حين نجحت السعودية فى أن تغرى الرئيس الأمريكى الآتى من عالم المضاربة، بأن تكون محطته الأولى فى أول خروج من بلاده، وجمعت له خمسين دولة فى مؤتمر قمة عربي ــ اسلامى فى الرياض، كانت تلك «الضربة القاتلة» للنفوذ القطرى والأحلام الامبراطورية..
***
ملاحظة: لو أن مصر «موجودة» تمارس دورها القيادى الطبيعى.. 
.. ولو أن العراق «موجود» بمعنى الدولة الموحدة والقادرة.. 
.. ولو أن سوريا ليست غارقة فى دمائها التى تهدرها الحرب فيها وعليها..
.. ولو أن الجزائر ليست مشلولة الارادة والفعل، وحالتها السياسية تكاد تكون مطابقة لحالة رئيسها الصحية..
لو أن أوضاع العرب هى غير ما هى عليه، لما كانت قطر قد انتفخت إلى هذا الحد غير الطبيعى وغير المقبول.
.. ولما كانت السعودية قد فرضت نفسها قيادة نتيجة لشغور الموقع القيادى لهذه الأمة..
ولكانت أحوال العرب مختلفة جدا، والفارق كبير بين عواصم النهضة العربية الحديثة، سياسيا وثقافيا واجتماعيا، مثل القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، وعواصم الوهابية وسائر السلفيات ومراكز البداوة فى صحراء النفط والغاز التى قد تدر ثروات لكنها لا تبنى دولا ولا تنتج حضارة تشكل اضافة نوعية واسهاما عظيما فى التقدم الإنسانى.