2024-11-26 12:00 ص

من عبدالعزيز حتى ترامب.. السعودية إلى أين؟

2017-06-15
محمد سيف الدين
في لحظة سينمائية فريدة، أضاءت بلورة "اعتدال" ثلاثة وجوه، أمام 49 وجهاً آخرين ظلوا في موقف العتمة. أفق جديد تريده المملكة العربية السعودية لمحاربة للتطرف، ومسار اقتصادي مختلف وضعته ضمن "رؤية 2030"، ثم في قمة الرياض 2017. لكن هل هو طموح بعالمٍ سعودي مختلف عن أجواء التاريخ الغابر؟ عن أمواج القيظ، وسياسات الغيظ، وعطايا الحاكم للمحكومين، دولاً كانوا أم أفراد؟ وعن سن الرماح وشحن الأرواح في سبيل الحكم والنفوذين السياسي والديني؟
أجواء سعودية جديدة أوحت بها سيميائية البلورة. ضوء لطيف على وجوه الملك سلمان والرئيسين ترامب والسيسي، ومن ورائهما ميلانيا والآخرين. المناسبة كانت افتتاح المركز العالمي لمكافحة التطرف. ومهمته المفترضة هي القضاء على مفاعل 11 أيلول الفكري، وتشميع معمل إنتاج الجهاديين بالأحمر، لكن هل هذا ما اتجه إليه "الحلفاء" فعلاً؟
قالت الصورة إن المملكة قطعت نحو الغد مساراً طويلاً، بطول بال الجمّال وصبوراً كصبر الجمال، أو قل بطول التحالف طويل العمر مع أميركا ورؤسائها.
اشترت المملكة الخائفة منذ أربعين عاماً على الأقل، بعض الطمأنينة من ترامب، وعقود تسليح بـ110 مليارات دولار، وعقوداً اقتصادية بنحو 340 ملياراً أخرى. وهدايا تكفي ليشعر من أهدى ومن أهدي بالخجل. لكن الطرفين تفاخرا، أحدهما بالقدرة على "حلب" السعودية، والآخر بالكرم المغدق.
توحيد الدولة
لقد سُر ترامب كثيراً بحشد الرموز الذي استقبلته فيه المملكة. "استضفتموني في بيت الملك عبدالعزيز، مؤسس المملكة الذي وحد شعبكم العظيم. وقد بدأ الملك عبدالعزيز، إلى جانب زعيم آخر محبوب -الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت- الشراكة الدائمة بين دولتينا"[1]. هذا ما قاله الرئيس الأميركي في خطابه قبل نهاية زيارته التاريخية إلى الرياض. ثم أثنى على مواصلة الملك سلمان إرث أبيه، الأمر الذي رأى فيه فوائد دائمة للبلدين.

هذا الإرث الذي يحمله أمراء السعودية اليوم، بدأ في القرن الثامن عشر واستمر إلى أوائل الثلاثينات من القرن العشرين على شكل إمارات مبعثرة، كانت تحت تهديد السلطنة العثمانية، وتتنافر معها، في ظل سعي الأمراء إلى التعبير عن هويتهم الخاصة في بحر الرمال المتحركة الذي يحكمه الأتراك.

ولكن مهمة هؤلاء بقيت صعبة التحقق، في ظل حيازة السلطنة العثمانية لحصانة الشرعية الدينية المستمدة من الخلافة الإسلامية. لذا كان لا بد لأمراء شبه الجزيرة من الاستناد إلى الدعوة الدينية لمحمد بن عبدالوهاب، إضافة إلى وجود الكعبة الشريفة وتراث الدعوة النبوية في أرضهم.

وفّق الملك عبدالعزيز في تأسيس مملكة تجمع نجد والحجاز في سنة 1925، ثم في توحيد المملكة العربية السعودية في عام 1932. وساعدت بريطانيا التي كانت صاحبة النفوذ الأول في المنطقة آنذاك على تثبيت دعائم هذا الحكم، خصوصاً مع انهيار السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتركيز مصطفى كمال (أتاتورك) على بناء الدولة المدنية على أنقاض السلطنة. لكن تغيّر دفة القيادة من بريطانيا إلى أميركا في الحرب العالمية الثانية، جعل من اللقاء الشهير بين الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت سنة 1942، والذي ترتفع صورته في القصر الذي أقام فيه ترامب وعائلته، لقاءاً مفصلياً، أدى إلى تفويض واشنطن بحماية المملكة، لقاء التزامات سعودية سياسية واقتصادية، نفطية بالدرجة الأولى.

ومع استناد الملوك السعوديين إلى حماية واشنطن القوية بعد تراخي قبضة الاستعمار القديم على المنطقة، وشيوع حركات التحرر التي نالت خلالها معظم دول المنطقة استقلالها في النصف الثاني من القرن العشرين، اتجه هؤلاء إلى بناء الرفاه في بلادهم، فانطلقت حركة عمرانية هائلة تحولت معها المدن الصحراوية إلى طرقات مرصوفة، وأبراج مرتفعة، ونعيم بيّن.
 

[1] خطاب ترامب في القمة العربية الإسلامية الأميركية (النص الكامل)، www.arabic.cnn.com، 22 أيار-مايو 2017، وعلى لارابط التالي: https://arabic.cnn.com/middle-east/2017/05/22/trump-arab-islamic-american-summit-riyadh-full-speech، تاريخ الدخول: 02-06-2017.

النفط كسلاح
تأثرت العلاقات الأميركية السعودية بالأزمة النفطية التي حدثت بعد اتخاذ المملكة قرار قطع إمدادات النفط عن الدول الداعمة لإسرائيل خلال حرب تشرين 1973، لكن السياق العام لهذه العلاقة عاد إلى استقراره بعد الحرب، وبعد توقيع مصر لاتفاقية "كامب دايفيد"، الأمر الذي أزاح حِمل المقاطعة الرئيس عن كاهل السعودية.

لقد شكّل استخدام الملك فيصل لسلاح النفط في تلك الحرب صدمةً للغرب، ثم تلاه رفع الدول المنتجة لسعر النفط، الأمر الذي أثر بدايةً على المستوردين الكبار، قبل أن تكسب شركاتهم نفسها، وخصوصاً الشركات الأميركية مئات ملايين الدولارات بفضل قيامها بعمليات التكرير والتسويق للمنتجات النفطية. إلى أن انتهى الحظر في 9 آذار-مارس 1974[1].

وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران وسقوط حكم رضا بهلوي الحليف أبرز حلفاء أميركا في الشرق الأوسط، واتخاذ قادة الثورة منهجاً مختلفاً بصورةٍ جذرية عن سياسات بهلوي، ورفعهم شعار تحرير فلسطين و"أميركا الشيطان الأكبر"، وجدت واشنطن في تظهير الاختلاف المذهبي بين الأغلبيتين في إيران والسعودية مصلحةً لها، خصوصاً أن بهلوي ساعد واشنطن على رفع سعر النفط بعد الأزمة النفطية، الأمر الذي أدى إلى أذيّة المصنّعين الكبار في أوروبا واليابان، فيما لم تتأثر أميركا بالقدر نفسه بسبب سيطرتها الحاسمة على الدول الخليجية المنتجة. وركّز الديبلوماسيون الأميركيون ووسائل إعلامهم على ما كانوا يؤكدون أنه تهديد فارسي للعرب في البداية، ثم على أنه تهديد شيعي للسنة فيما بعد.

وفي الوقت نفسه، اعتبر الخليجيون وعلى رأسهم السعودية أن الولايات المتحدة تخدعهم بعدما خرجت فضيحة "إيران كونترا" للعلن خلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، وتسببت أخبار صفقات واشنطن السرية مع إيران بأزمة ثقة في الشرق الأوسط. حيث قال بيتر بورليه، الذي كان يترأس مكتب شؤون شمال الخليج في وزارة الخارجية الأميركية آنذاك: في حين كنا نرسل مسؤولين رفيعي المستوى لرؤية ملك المملكة العربية السعودية وأمير الكويت ونحذرهما من المخاطر التي سيواجهونها في حال هزمت إيران العراق، اتضح أننا كلنا نرسل أسلحةً إلى إيران ويمكنكم تخيّل ردة فعلهم. لم يتوقعوا أن نفعل ذلك! وعقدت منظمة التعاون الإسلامي اجتماعها السنوي في الكويت في كانون الثاني- يناير 1987، لمناقشة السياسة الحقيقية للولايات المتحدة في المنطقة والغدر الأميركي. ففي الوقت الذي كانت واشنطن تضغط فيه علناً على الدول كي لا تبيع أسلحة لطهران، كانت هي تقوم بذلك في السر. وقد طمأنت الولايات المتحدة تكراراً المسؤولين السعوديين، الذين كانوا يشتبهون بنقل الأسلحة، أن لا وجود لمثل هذه الأعمال السرية. لقد هزت أخبار هذه السياسة المخادعة ثقة الخليجيين في حسن نوايا الحكومة الأميركية[2].

 وبعد انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية، واندلاع حرب الخليج الثانية ثبّتت المملكة موقعها إلى جانب الولايات المتحدة. وكحليفٍ قوي لها في منطقة الخليج، أحكمت من قبضتها المعنوية والسياسية على الإمارات الخليجية الأخرى المحيطة بها.

 

المملكة والإرهاب
مع تصاعد عمليات تنظيم "القاعدة" وضربه في قلب الولايات المتحدة في 11 أيلول 2011، سعت العربية السعودية إلى مشاركة الولايات المتحدة بقوة في الحرب على الإرهاب، بعد أن كانت كل من الرياض وواشنطن تدعمان المجاهدين العرب وتوجيههم إلى أفغانستان لقتال السوفيات في أواخر ثمانينات القرن الماضي. وساندت من دون ضوابط هجمة جورج دبليو بوش على المنطقة من أفغانستان إلى العراق بين عامي 2011 و2033، ولم تعد مواجهة إسرائيل تمثّل أولوية ظاهرة بالنسبة لقادة المملكة، خصوصاً بعد مبادرة الملك عبدالله للسلام التي أطلقها في القمة العربية ببيروت عام 2002، والتي رفضتها إسرائيل.

لكن المملكة حاولت في هذا السياق حفظ ماء الوجه بما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية، وكان لها في هذا السياق مساهمات كبيرة في دعم السلطة الفلسطينية مادياً وسياسياً. فهي قدمت للفلسطينيين بين عامي 1979 و1989 حوالى مليار و100 مليون دولار سنوياً، ودعمت في عام 1987 الانتفاضة الأولى بما يقرب من 6 ملايين دولار شهرياً، إضافة إلى مبالغ أخرى للصليب الأحمر لتغطية احتياجات الفلسطينيين حينها. ودعمت برنامجاً إنمائياً بين عامي 1994 و1999 بقيمة 300 مليون دولار. وفي عام 2004 أتمت التزامها في قمتي بيروت 2002 وشرم الشيخ 2003 من خلال تحويل حوالى 195 مليون دولار للفلسطينيين، ودعمت السلطة الفلسطينية في العام نفسه بما يقارب 46 مليون دولار، حيث كانت مساهماتها الأكبر بين الدول العربية. وبادرت المملكة في قمة القاهرة عام 2000 باقتراح إنشاء صندوقين باسم صندوق "الأقصى" وصندوق "انتفاضة القدس" برأسمال قدره مليار دولار وتبرّعت بمبلغ 200 مليون دولار لصندوف الأقصى الذي يبلغ رأسماله 800 مليون دولار، وتبرّعت بمبلغ 50 مليون دولار لصندوق انتفاضة القدس الذي يبلغ رأسماله 200 مليون دولار، وهذه الأرقام كلها بحسب ما تعلنه المملكة نفسها عبر موقع وزارة خارجيتها على الانترنت.[1] ثم استمرت السعودية في دعم الفلسطينيين إن من خلال رواتب الموظفين في السلطة الفلسطينية، أو من خلال "الأونروا" حيث حرصت منذ كانون الثاني/يناير من عام 2013 على زيادة حصتها في ميزانية السلطة من 14 مليون دولار إلى 20 مليون دولار شهريّاً دعماً. ومن جهة أخرى، أصرت المملكة على مبادرة الملك عبدالله للسلام على الرغم من رفض إسرائيل لهذه المبادرة، وانتهجت الرياض سياسةً مضادة للمقاومة الفلسطينية المسلحة. ثم اتجهت في السنوات الأخيرة إلى اشتباكٍ سياسي اتخذ منحى الحرب بالوكالة على الدول الداعمة للمقاومة العسكرية في فلسطين، أي سوريا وإيران بالدرجة الأولى.

وسارت الرياض في ركاب جورج دبليو بوش في حروبه المتنقلة في المنطقة، حتى اجتاح العراق وأغرقه بالفوضى، ثم ساهمت في تقويض الاستقرار في سوريا من خلال دعم الجماعات المسلحة التي تحولت سريعاً إلى تنظيمات متطرفة تمارس شتى أنواع العنف الطائفي ضد مؤسسات الدولة السورية وجيشها.

لقد شهدت العلاقات السعودية-الأميركية في فترة رئاسة جورج بوش الابن تطوراً ملحوظاً، غير أن وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض بدءاً من عام 2008 واتخاذه سياسةً حذرة فيما خص الاشتباك مع الروس في الشرق الأوسط، أو التورط في حربٍ جديدة في سوريا، أحبط الإدارة السعودية التي كانت تنتظر من واشنطن التدخل عسكرياً إذا اقتضى الأمر لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا.

وعانت الرياض من علاقاتٍ متذبذبة مع واشنطن خلال تلك المرحلة، خصوصاً مع اندفاع أوباما في نهاية ولايته الثانية نحو تأمين اتفاقٍ مع إيران حول برنامجها النووي، الأمر الذي أتمّه إلى جانب الدول الغربية الكبرى قبل نهاية ولايته. صعقت المملكة من هذا الاتفاق، لكنها لم تستطع فعل الكثير لإيقافه، كما حاولت إسرائيل من جانبها عرقلة الاتفاق ولم تفلح بذلك أيضاً. واتخذت الرياض قدراً أكبر من الحيطة حينما بدأت تسمع من أوباما انتقاداتٍ لاذعة بخصوص أوضاع حقوق الإنسان والحريات في المملكة واعتبارها الخطر الأكبر على المملكة وليس إيران، الأمر الذي جعلها تنتظر بفارغ الصبر وصول رئيسٍ جديد إلى البيت الأبيض، لتعيد ترميم تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، وتنطلق من خلاله لاستعادة مكانتها الإقليمية التي كانت تتراجع بسرعة على وقع انقلاب الصورة الميدانية في سوريا، خصوصاً أنها تورطت في الفترة نفسها في الحرب ضد قوى كبرى من نسيج اليمن. وزاد من اضطراب الموقف السعودي حينها صعود قوى إقليمية أخرى وانفلاتها من السيطرة التامة للقوى الكبرى، فقد تعاظمت أدوار تركيا وقطر وإيران، وساءت العلاقات الأميركية الإسرائيلية إلى حدٍ كبير جعلت من لقاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي أوباما مشحونة بالتوتر، قبل أن تنقطع في الفترة الأخيرة من ولاية أوباما. وفي الوقت نفسه كانت مصر تستعيد أنفاسها لتنطلق في سياسة متوازنة بين الأميركيين والروس. لقد وجدت السعودية نفسها أمام مخاطرة استراتيجية كبرى ضمن هذه الصورة الإقليمية المتحركة بسرعة، مع تنامي الإرهاب وتشعبه.

[1] القضية الفلسطينية، موقع وزارة الخارجية السعودية www.mofa.gov.sa، وعلى الرابط التالي:http://www.mofa.gov.sa/KingdomForeignPolicy/Pages/PalestineCause.aspx، تاريخ الدخول: 06-06-2017.

 

زيارة ترامب التاريخية: رسالتان وهدفان
لقد أعلن ترامب خلال حملته الانتخابية عن نواياه تجاه منطقة الشرق الأوسط، وعبّر بصراحة تامة عن رؤيته للعلاقة مع الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية. فالرئيس الأميركي البارع جداً في التجارة الدولية، دخل عالم السياسة من هذا المنطلق. هو مؤمن بدرجةٍ قصوى بأن بلاده لا يجب أن تقدم خدماتٍ مجانية لأحد من حلفائها. وهذا الأمر لا ينطبق على السعودية فقط، بل على الحلفاء الأوروبيين أيضاً، حيث اعتبر أن الجميع يجب أن يدفع في مقابل الحماية التي يتلقاها من الولايات المتحدة الأميركية.

 

وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية أواخر عام 2016، بدأ ترامب بتنفيذ رؤيته الخارجية انطلاقاً من السعودية نفسها التي وصفها بـ"البقرة الحلوب"، وذهب إليها في أول زيارة خارجية له. تلقفت المملكة التي كانت في أشد الحاجة إلى استعادة سندها الاستراتيجي الفرصة، وجمعت لضيفها عشرات القادة من البلدان العربية والإسلامية، وأرادت من خلال ذلك توجيه رسالتين، وتأمين هدفين.

 

كانت الرسالة الأولى للإدارة الأميركية نفسها، وفحواها أن المملكة هي القوة الأولى عربياً، وأن باستطاعتها جمع كل هذه الدول خلف سياستها في المنطقة.

 

أما الرسالة الثانية فكانت موجهة إلى هذه الدول المجتمعة نفسها، وهي تقول إن المملكة العربية السعودية هي الوكيل الأميركي في المنطقة، وانها حصلت من خلال هذه الزيارة على تفويضٍ أميركي بإدارة شؤون المنطقة بدعمٍ من واشنطن.

 

أما الهدفان، فكانا يتلخصان بحماية النظام الحاكم في السعودية من أية خضّات محتملة، وبعد ذلك تحول المملكة إلى مركز العالمين العربي والإسلامي بمباركةٍ أميركية.

 

وفي سبيل هذين الهدفين، والرسالتين، أغرقت المملكة ترامب بمئات مليارات الدولارات بين عقود تسليح واتفاقات اقتصادية، وهي لم تعطه مما تملك من ثرواتٍ فحسب، بل أعطته من ثروات الأجيال المقبلة، ومن الديون التي حملتها لنفسها. فكيف كان رد ترامب؟
ترامب: شكراً.. لكننا لن نحارب عنكم

شكرا ولكن..

في رحلته السعودية، لم ينعكس انبهار الرئيس الأميركي بفخامة الاستقبال على مواقفه السابقة للزيارة، فهو لم يغير منها شيئاً. وعلى الرغم من كونه أشاد بالتجمع "غير المسبوق والتاريخي، والفريد من نوعه في تاريخ الأمم" على حد تعبيره، وإشادته برؤية "السعودية 2030" واعتبارها "تصريحاً هاماً ومشجعاً حول التسامح والاحترام وتمكين المرأة والتنمية الاقتصادية"[1]، غير أنه اعتبر أن بلاده لا تريد أن تفرض طريقة حياتها على الآخرين، بل أنها تريد مد يد التعاون والثقة، وفاءً لما صرح به خلال حملته عن تعزيز الصداقات القديمة لبلاده وبناء شراكات جديدة لتحقيق السلام.

 

لقد كان واضحاً تركيز ترامب على تعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية والاستثمارية أكثر من أي شيءٍ آخر، تاركاً لشعوب المنطقة "كيفية عيش حياتها أو التصرف أو ممارسة دينها".

 

لكن السعودية حاولت أيضاً إظهار وجه مختلف وحجز مكانة متقدمة في محاربة الإرهاب، وهي المسألة التي تظهر الإدارة الأميركية بقيادة ترامب اهتماماً إعلامياً كبيراً إزاءها. فأطلقت بحضوره المركز العالمي لمكافحة التطرف، الذي رأى فيه ترامب "إعلاناً واضحاً بأنه يجب على الدول ذات الأغلبية المسلمة أن تأخذ زمام المبادرة في مكافحة التطرف".

 

ولكن الرئيس الأميركي أعطى أمام الحاضرين وصفته لمحاربة الإهارب، من خلال الخلط بين تنظيمي "القاعدة" و"داعش" وبين "حزب الله" و"حماس" والعديد من التنظيمات الأخرى، معرباً عن فخره بإعلان توقيع اتفاق مكافحة الإرهاب وإنشاء "مركز استهداف تمويل الإرهاب"، الذي رسم خطوطه وحدد جهاته بنفسه.

 

واستغل ترامب وجوده في الرياض لتعبئتها أكثر ضد جارتها إيران، فاعتبر أن الحكومة التي تعطي الإرهابيين الملاذ الآمن، والدعم المالي، والمكانة الاجتماعية اللازمة للتجنيد، والمسؤولة عن عدم الاستقرار في المنطقة، هي الحكومة الإيرانية.

 

لا تحتاج مواقف ترامب قراءةً بين السطور لاكتشاف أهدافه من الزياره، ورؤيته للسعودية بصورةٍ عامة، فهو حصل على أموالها من خلال تحريضها وتخويفها من إيران والإرهاب بحسب توصيفه، ومن أجل مواجهة هذه الأخطار باعها السلاح بمبالغ خيالية. ولكنه رسم حداً لدور بلاده في هذا الشأن حين قال:  "لكن دول الشرق الأوسط لا يمكنها انتظار تدمير القوة الأميركية لهذا العدو (الإرهاب) بالنيابة عنهم. على أمم الشرق الأوسط أن تقرر نوع المستقبل الذي تريده لنفسها، وبصراحة، لعائلاتها وأطفالها."

 

إذن، كان معنى كلام ترامب: نحن نحدد لكم العدو، نبيعكم السلاح بأموالكم لمواجهته، ولكننا لن نقاتل عنكم. مع الامتنان للملك سلمان على ما وصفه ترامب بـ"الاستعراض القوي للقيادة".

 

ولكن للسعودية أن تتساءل، لماذا يدعمها ترامب في التخلص من عدو يجعلها تدفع كل هذه المليارات لشراء الأسلحة من أميركا، بهدف محاربته؟ فبقاء التهديد، يبقي صفقات السلاح مستمرة.
 

 

[1] النص الكامل لخطاب ترامب في السعودية، مرجع سبق ذكره.

الشخصية السعودية.. تناقض وحاجة للأمان

إن اعتماد المملكة على واشنطن لحمايتها، والابتزاز العلني الذي تمارسه الأخيرة ضدها، يطرح تساؤلات جدية حول مستقبلها. إلى أين تتجه السعودية في ظل عالمٍ متغيرٍ لا مكان فيه إلا للشعوب التي تنتزع حقوقها بيدها، وتبني بلادها على أرضيةٍ صلبة من الشعور الوطني الخالص، والبناء الاقتصادي المنتج، والسياسة الحكيمة.

 

ففي الوقت الذي تتجه فيه دول كثيرة للتعبير أكثر عن إرادتها المستقلة، وتجاهر بمعارضة التوجه الإمبريالي، نجد القيادات الخليجية في سعيِ دائمِ لإرضاء رأس الاستعمار الاقتصادي المتمثل اليوم بنهج ترامب. حتى في أسوأ الأوقات التي مرت بها واشنطن، في عز الأزمة المالية عام 2008، لم تستفد دول الخليج من فوائض أموالها لتحسين شروطها في النظام الاقتصادي الدولي، بل هرعت لمد يد العون لمبتزّيها، وساعدتهم على الوقوف واستعادة سيطرتهم عليها، وهذا ما يطرح أزمة الشخصية السعودية وارتباطها بأزمة صناعة القرار.

 

في كتابه "صراع التيارات في السعودية"، يرى الكاتب السعودي على بن محمد الرباعي "أن الشخصية السعودية إشكالية كونها تنتمي إلى هويات متعددة، فالانتماء الديني حاضر فيها إلى جانب العروبة"، ثم يحضر فيها التوق إلى الاستجابة للعصرنة ومعطيات العولمة، وهي شخصية تتأثر بالغير بشكلٍ انتقائي يقارب الانفصام، وهذا التأثر ينسيها البعد الإنساني، وهذا "ما يضعف جانباً هاماً في الشخصية يتمثل بالبناء الأخلاقي ومقدرة الفرد على السيطرة على انفعالاته"[1]. والشخصية السعودية بصورةٍ عامة هي شخصية عاطفية ميالة إلى الانفعال السريع، سريعة الحب وسريعة الكراهية، ومتطرفة في الجهتين، وهذا ما يفسر التعاطي مع الإدارة الأميركية بكل هذا التودد، والتعاطي مع الأشقاء الأقربين بكل هذه الحدة. لنأخذ العلاقة مع سوريا مثالاً، ومؤخراً العلاقة مع قطر. ويمكن اختصار ذلك للقول إنها شخصية "شديدة مع القريب ورحيمة تجاه البعيد".

 

 وهي شخصية اعتادت حكم العائلة، وانعدام المعايير السليمة، وتعودت على القمع، ممارسته وتلقيه. وألفت التلهي بالرفاه، وبالاستهلاك في مقابل التعبير عن الذات، وباقتناء الأعلى والأجمل والأكبر في مقابل غياب مراتب الأعلم والأفضل والأنجح عن السعوديين، في الفن والرياضة والعلوم والاقتصاد وغيرها..

 

سيوف كثيرة جرّدت في هذه الصحراء، لكنها لم تمكن السعوديين من إمساك قرارهم بأيديهم، بل استمروا بالافتتان بالأجنبي، وأوكلوه أمورهم، وتعاملوا معه باحترامٍ مبالغ فيه، بينما استمر دق الأعناق في الداخل لأسبابٍ تتعلق بحرية المعتقد والممارسة. وما يجعل من هذا الواقع أكثر خطورةً هو أن المملكة تضطلع بمطالب خارجية كبرى عمادها نشر الديموقراطية، على الرغم من تركيبتها الداخلية المتناقضة، وذلك على طريقة: "نريد لكم الحرية، ولنا الحكم المتوارث المؤيد بقدسية العائلة". وفي ظل هذا المنطق لا يستوي أن تكون المملكة مرجعية العرب والمسلمين الأولى كما حاولت إفهام ترامب من جهة، والدول الجارة من جهةٍ أخرى.

 

كما أن البعد الإسلامي للمملكة يستوجب سيرها في نهجٍ وحدوي ينبذ أي تطرفٍ من أية طائفة إسلامية أتى، وعند غير المسلمين أيضاً. أي أن ما يناسب هذا الدور إذا ما أرادت المملكة أداءه، هو أن تتبنى الرؤية الإسلامية الأكثر اتساعاً، والأكثر قبولاً لبقية المسلمين والعالمين. وهذا هو مصدر الشرعية الأهم لقيادة المسلمين، فأين تقف السعودية اليوم وما هو الممكن أمامها غداً؟
 

 

[1] الرباعي، علي بن محمد، صراع التيارات في السعودية، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى 2013، لبنان، بيروت، ص 75 و76.

 

بن سلمان 2030
محمد بن سلمان مع والده الملك

محمد بن سلمان مع والده الملك

من المعلوم أنه من مصلحة الأميركيين إبقاء السعودية تحت تهديد عدوٍ ما حفاظاً على دورهم الحامي سياسياً، ودور شركاتهم الحامي معنوياً واقتصادياً. لكن هذه المصلحة والأساليب التي تصنع لخدمتها لا تلغي وجود تهديدات فعليه ماثلة أمام المملكة.

وإن كانت الرياض تدرك خطورة التيارات الإسلامية المعادية لها، والدول التي تريد مد نفوذ على حسابها، فإنه من الأوجب إدراك المخاطر المتأتية من الوضع الداخلي فيها. فالفقر المتفشي عند شريحة واسعة من المجتمع السعودي، وعدم الاحساس بالاحترام والتمثيل والتنمية الدولتيه عند قسم آخر من المواطنين، والتوتر الذي ينتج عن ذلك في المنطقة الشرقية مثلاً، بالإضافة إلى مراكز النفوذ والصراعات القائمة داخل العائلة الحاكمة، تشكل جميعها تهديداً لمستقبل المملكة وليس فقط لمستقبل الحكم فيها.

وعند النظر إلى مستقبل السعودية، لا يمكن إغفال الكم الهائل من الكراهية الذي ساهم فيه انخراط المملكة في حروبٍ عديدة خارج أراضيها، في سوريا، وفي اليمن، وفي العراق، إلى جانب خوضها معارك سياسية في لبنان ومصر (بعد أن كانت تلعب دوراً سياسياً إيجابياً لفترات طويلة)؛ الأمر الذي عاد عليها بالمحصلة بعداواتٍ لن تنته في وقتٍ قريبٍ. فالسياسة الخارجية السعودية فخخت حدود المملكة بعداوات مع أجزاء كبيرة من المجتمعات المحيطة بها في كل تلك الدول وفي غيرها.

ولكن الإدارة السعودية لا زالت تنظر بعين متفائلة إلى المستقبل، خصوصاً التيار الداعم للأمير محمد بن سلمان، والذي ينظر إليه على أنه مبعث أملٍ للبلاد.

في عام 2016 أطلقت المملكة "رؤية 2030" كرافعةٍ لمشروع بن سلمان الطموح. مشروع يتطلع إلى الغد بنظرة تحمل الكثير من الأمل على المستوى الاقتصادي. لكنه مشروع يحمل في طياته العقلية الدينية والاجتماعية نفسها للجيل الذي سبقه. ما قد يخفض سقف الآمال بشأنه، خصوصاً وأن قمة الرياض 2017 زادت من توغل الرياض في الصراعات الخارجية، وأظهرتها كمحورٍ لسياسات حربية تجاه جيرانها.

وقد بنيت هذه الرؤية على حاجتين رئيستين: الأولى تتعلق بضرورة حسم الصراع داخل العائلة الحاكمة، وضمان الانتقال السلس للحكم من أبناء عبد العزيز إلى الأحفاد. والثانية تتمحور حول ضرورة تغيير صورة المملكة أمام العالم، بعد أن وُسمت بالتطرف وانعدام الحريات وحقوق الإنسان حتى أمام الدول الحليفة لها في الغرب، وليس المتابع بحاجة إلى رؤية ارتباك المسؤولين الأميركيين في كل مرة يسألون فيها عن رأيهم بالديموقراطية السعودية، أو بحقوق الإنسان هناك.

لأجل ذلك، استخدمت الدعاية السعودية رموزاً يسهل فهمها، وكررتها باستمرار، وصبغت بن سلمان بصباغ الإصلاح والتجديد والانفتاح، والانتصار العسكري (غير الواقعي في اليمن)[1].

وإذا كان من الظلم محاكمة "رؤية 2030" الآن قبل تنفيذ معظم مندرجاتها، غير أن البوادر الأولية لا تشير إلى تركيز الحكم عليها، أو تحضير الأرضية اللازمة لها، بل إن المسار معاكس لذلك. فالتنمية لا تقوم في أجواء الحرب والعداوات وسياسات الغيظ.

كما أن التنمية وتغيير صورة المملكة لا تقوم فقط على الدعاية الجيدة، واكتساب رضا الأميركيين، بل من خلال بناءٍ ممنهج للمؤسسات، وللديموقراطية السعودية، وللاقتصاد، على أسس علمية، تعطي البلاد بنية إنتاج تمكنها من الإمساك بشؤونها الخاصة، وبعناصر قوتها، وأن لا تبقى معتمدةً على الخارج. فعلى نفط السعودية بنت دول كثيرة علومها واقتصاداتها ونهضاتها. وبأموالها حققت بلدان أخرى تقدماً تكنولوجياً هائلاً، ورفعت دول ثالثة من شأن شركاتها ومصانعها، بينما الإدارة الاقتصادية للمملكة مفتونة بالاستهلاك، وتحطيم الأرقام القياسية في أكثر الأشياء خفةً وتفاهة.

إن النموذج الذي تقدمه المملكة اليوم لا يتناسب مع طموحاتها نحو 2030، ولا مع ما تحدثت عنه أمام ترامب في قمة الرياض 2017. أو هدفها بالتحول إلى قائدة العالم الإسلامية بوجود تركيا وماليزيا وباكستان وإيران، أو عربياً بوجود مصر والجزائر وسوريا والعراق..

ولن تتمكن من الوصول إلى هذه المكانة إلا عندما تتبنى رؤيةً دينية ترى النصوص والأنبياء مسخرين لسعادة البشر وليس لشقائهم، وعندما تتخلى عن التحصن بالنفط لرفض الديموقراطية، وعندما تفصل بين خطاب الإسلام الإنساني وخطاب الكراهية الذي يلف المنطقة اليوم، حيث الدين والأنبياء والنصوص المقدسة مسخرة لشقاء البشر.

وقبل كل ذلك، لن تجد السعودية طريقها إلى أهدافها الكبرى ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي انطلق بوجهه الاقتصادي في قمة الرياض، والذي يقرب إسرائيل ويبعد إيران. أو قبل أن تدرك حقيقة أن الدول تبنى بالمعرفة والجهد الذاتي وليس بالسحر، حتى لو كانت يد ترامب وكل أسلافه هي التي تحك البلورة.

عن "الميادين"