كتب محمد عبد الرحمن
ربما لم يعان شعب من الشعوب بعد تحرير بلاده من الاحتلال مثلما عانى الشعب الهندى، الذى لمْ يشعر بسعادة الاستقلال، لأنه مع استقلال البلاد حدث التقسيم الذى اعتبر أكبر مأساة فى التاريخ السياسى والثقافى والاجتماعى والحضارى فى الهند على مر العصور، لمْ تندمل آثارها وجراحها الغائرة حتى اليوم، فالطائفية المقيتة تدفع لانتشار عمليات القتل والسلب والنهب والتدمير وانتهاك الشرف والحرمات وتدنيس المقدسات، وتظهر الإنسان فى أبشع صور البربرية والوحشية.
ومن وحى التفاصيل الوحشية، التى تزامنت مع أكبر هجرة جماعية على أسس دينية فى التاريخ، تأتى المجموعة القصصية "من الأدب الأردى" كأحدث إصدارات "سلسلة الجوائز" فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتقول المترجمة دينا مندور رئيس تحرير "الجوائز" إن المجموعة هى مختارات لستة من أبرز أدباء فجر القصة الأردية الحديثة الذين توقفوا أمام مأساة تقسيم الهند وما وقع خلالها من فظائع تمييز عرقية ودينية وثقافية، انتقاها وترجمها وكتب مقدمتها الدكتور أيمن عبد الحليم.
فقد اتجه معظم الأدباء من كتاب القصة الأردية القصيرة إلى عكس تلك الأحداث والصور المشينة فى قصصهم، فظهرت بعض القصص مفزعة للغاية، وكان بعضها مؤلما إلى حد كبير، لكن الغاية عندهم كمنت فى أن يقدموا للقراء وقائع عديدة، ورؤى مختلفة للتناحر العرقى من خلال عرض واقع ملوث بالدماء وما حدث فيه من خروج على التقاليد والقيم والأعراف.
يقول الدكتور أيمن عبد الحليم فى مقدمته، إن القصص تدل دلالة واضحة على أن كتاب القصة القصيرة فى الهند وباكستان أخذوا ينظرون إلى الواقع نظرة جد مختلفة وجديدة، عمادها الإدراك الواعى للأحداث من حولهم، وعكسها بشكل يوضح إلى حد بعيد مدى الرفض الكامن فى نفوسهم لما تبع هذه المأساة الطائفية من تداعيات. عكس كتاب القصة فى الهند وباكستان الواقع أثناء المصادمات الطائفية عبر عدد من الصور المخيفة، والأحداث المؤلمة من قتل وتدنيس وانتهاك حرمات تمت كلها تحت عباءة الدين، وبسبب الجهل والفقر والتعصب الأعمى.
ويشير أيمن عبد الحليم إلى أن كتاب القصة القصيرة قدموا هذا الواقع فى وضوح وصراحة، ربما لا يوجد مثيل لها فى الآداب العالمية. فقدْ حاولوا أن يقتنصوا لحظات من الحياة، ويضعوها ضمن نظام معين، تاركين للمتلقى محاولة الوقوف على العلة الكامنة فى ذلك البناء، متهدم الأركان، الذى نخرت فيه الطائفية، وعلت كلمة الجهل والتعصب على المواطنة والتسامح. ولمْ يكن غرض هذه القصص التسلية والمتعة، خاصة وأن بعضها يحمل لهجة ساخرة فى ثوب كوميديا سوداء، وإنما غرضها الوصول أو النفاذ، من خلال الوعى الكامل بالأحداث الطائفية وتأثيرها على المجتمع، إلى الحقائق الإنسانية التى لا تخلو أحيانا من الرحمة وأحيانا أخرى من التعصب.
قدمت "الهوامش السوداء" لسعادت حسن منتو قبل غيرها هذه الكوميديا السوداء، فى معالجة فنية لقاص عبقري، سبق عصره بتناول القصة "الومضة" أو "اللمحة"، فاستطاع أنْ يقيم صلة بين العنوان الرئيس لمجموعة الومضات القصصية هذه وبين العناوين التى حملتها الأقصوصات، وكذا الصلة القائمة بين هذه العناوين ومضمون القصص نفسها. كان ما أورده فى قصصه مجرد هوامش للأحداث الأصلية، ولمْ يركز على طائفة دون غيرها، بلْ تناول كل الطوائف، بأسلوب يتسم بالتكثيف ويحمل فى ثناياه السخرية والتهكم النابع فى الغالب عن حزن عميق.
وربما اختار منتو تقنية القصة القصيرة جدا تلك فى تناوله لأحداث المصادمات الطائفية؛ لأنها تقوم على المبالغة فى القصر، وما يستدعيه ذلك من تركيز وكشف واختزال للحدث فى لمحة عميقة عابرة، مما يترك للقارئ مجالا مفتوحا لكى يملأ ثغرات النص، ويبنى الحكاية الضمنية. وذلك قصدا منه لدفع المتلقى إلى تصور البعد الآخر للحدث.
كما تضم هذه المختارات القصصية، بالإضافة إلى ما سبق، عددا من القصص اعتبرت من أشهر القصص الأردية القصيرة التى كتبت ونشرت فى الفترة الذهبية للقصة الأردية القصيرة، وهى الفترة المعاصرة لتقسيم الهند. ويشترك كتاب هذه المختارات فى أنهم تعرضوا لظرف تاريخى واحد، فكان لديهم إدراك عميق بأحداث التقسيم التى أحدثت خللا فى الهياكل الاجتماعية والفكرية واهتزازا فى القيم الإنسانية المرتبطة بالواقع. فقدموا هذا الواقع بأساليب فنية متنوعة، وعالجوا فى قصصهم قضايا الآلام الإنسانية التى خلفتها أحداث المصادمات الطائفية بلمحاتها التراجيدية الحزينة التى عزفت شخصياتهم القصصية على أوتارها. فخرج بعضها فى صورة مراث خالدة ينعون فيها أسرهم التى فارقوها، ويبكون على علاقاتهم وضياع ثقافاتهم، وبعضها تصوير للانحطاط الإنسانى الذى يؤدى إلى ارتكاب أبناء الوطن الواحد لأعمال بربرية ووحشية ضد بعضهم بعضا. ولمْ تخل هذه القصص أيضا من لمحات المحبة والفطرة الإنسانية النقية التى تقضى على فكرة الشر المطلق، كما جاء بعضها تأريخا للقضايا الاجتماعية والنفسية التى نتجت عن هذه المذابح؛ خاصة وأن صراعات وآلام أبطال تلك القصص ترتبط بقوة إنْ لمْ تكن مستمدة جميعها من الأحداث الحقيقية الواقعية، وربما كانت هذه الآلام هى آلام المؤلف نفسه الذى عاصر وشاهد تلك الأحداث فعبر عنها على لسان شخصياته. كما أن أساليب وتقنيات هذه القصص وربطها بالقيم المجتمعية والدينية للكاتب سواء أكان هندوسيا أو سيخيا أو مسلما أظهرت تنوعا فريدا فى الموضوعات المختارة.
أما عن كتاب هذه المختارات فهم من أشهر كتاب القصة الأردية القصيرة ومن بينهم سعادات حسن منتو، وكرشن چندر، وراجندر سنج بيدي، وأحمد نديم قاسمى، وخواجه أحمد عباس، وخديجه مستور، على اختلاف مدارسهم الأدبية وعقائدهم الدينية وأساليبهم القصصية، وما زالت قصصهم علامة بارزة فى تاريخ الأدب الأردى وتحظى بدراسات نقدية وأكاديمية حتى الآن.