فؤاد ابراهيم
في الجزء الطافي من المنازلة المحتدمة بين السعودية والإمارات من جهة، وقطر من جهة ثانية، ثمة ضرب ماكر من لعبة الحقيقة والزيف. وسوف تبدو التصريحات المنسوبة لأمير قطر تميم بن حمد، مجرد المقدح ــ الذريعة لصوغ رواية منسجمة مع الواقع المتحوّل منذ قمة الرياض في 20 أيار الماضي. سلوك الثنائي السعودي ــ الإماراتي لا ينطوي على جديد، بقدر ما يحمل إلينا مستوى الإدقاع في المقاربة والفجور في الخصومة. والنتيجة الأولية، هي لعبة الإعلام الذي يُراد منه أن يمثّل الواقع بمعزل عن نيّة تفكيك لغز الأسباب الحقيقية وراء ما جرى وتوقيته. حكاية المواقيت هي الأخرى ليست منفردة، فقد اختارت أطراف النزاع ميقاتاً
موحّداً لبدء الخصومة
في السردية القطرية، أنهم ما نقموا من الدوحة إلا لأنها شقّت منذ عام 1995 درباً في السياسة الخارجية لا يلتقي مع الشقيقة الكبرى، أي السعودية، ويفصلها عن مجرّة الاستتباع المستديم في ملفات المنطقة والعالم.
السردية السعودية تعتنق مقاربة مضادة تقوم على اعتبار ذلك العام بداية انشقاق وخروجاً عن الإجماع الخليجي، الذي لم يحصل قط، بدليل ملفات الخلافات الثنائية بين الشقيقة الكبرى مع كل الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، والمرتبطة بالحدود وتقاسم النفط في المناطق المتنازع عليها.
تَدخّلَ سلاح «الأرشيف» في النزاع المفتوح، فكان الإعلام السعودي والإماراتي يعمل على تغذية «شيطنة» قطر بما زوّده به فريق المستشارين لثنائي محمد بن زايد، ومحمد بن سلمان، من أسرار وخبايا.
بقي شيوخ الدوحة تحت وطأة المباغتة الإعلامية السعودية ــ الإماراتية، اعتقاداً منهم بأنها «زوبعة» عابرة، واكتفوا بنفي التصريحات المنسوبة للشيخ تميم، ولكن بعد ساعات بدا أن ثمة «مكيدة» كبرى نسجت خيوطها قبل قمة الرياض بشهور. تحدّث وزير الخارجية القطري محمد عبد الرحمن آل ثاني، عن 13 مقالة نشرت في الصحف الأميركية ضد قطر. لكن أبعاد الحملة تتجاوز الصحافة، وهذا ما كشفت عنه تسريبات البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي يوسف العتيبة، في واشنطن، وبدا أن أوركسترا حرب منظّمة تدير هذا النزاع بطريقة ممنهجة.
تدخّلت المهارة التقنية في الحملة، وعملت القرصنة والقرصنة المضادة على تهيئة مسرح مفاضحة غير مسبوقة، وبات بإمكان المرء الاطلاع على دسائس السفراء الخليجيين في واشنطن، والسقوط المريع لمؤسسات مرموقة تتلطى وراء عناوين محتشمة «ثينك تانك» على غرار «مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات»، المموّلة من الملياردير الإسرائيلي وحليف نتنياهو شيلدون أديلسون. تكشف التسريبات، أن أعضاء الفريق الإداري فيها كانوا يعملون مجرّد مستشارين لدى يوسف العتيبة، ويذكّر بالدور الشيطاني الذي لعبه بندر بن سلطان، سفير الرياض في واشنطن لأكثر من عقدين (1983 ـ 2005)، وإفساده النخبة السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة.
ديفيد اغناتيوس الذي كتب أكثر من مقالة في صحيفة «واشنطن بوست» عن محمد بن سلمان، من أبرزها مقالة عقب لقاء سلمان ــ أوباما في أيلول 2015، يبشّر فيها بتتويج بن سلمان ملكاً، حظي بـ«حسن وفادة» الأخير حين زاره في الرياض واستقبله في مكتبه لمدة ساعة ونصف الساعة، ثم كتب مقالة إطرائية في 20 نيسان الماضي عن «الأمير الطموح» الذي يعيد تشكيل صورة بلاده.
بيد أن أخطر ما في تسريبات البريد الإلكتروني للسفير العتيبه أمران:
*تظهير التنسيق الإماراتي ــ الأميركي لدعم خطة تأهيل محمد بن سلمان لولاية العرش.
*تصنيف السعودية والإمارات وتركيا كداعمين للعنف، كما جاء في خطاب لنائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، في 3 تشرين الأول 2014. العتيبة أبدى أسفه لمستشارة الأمن القومي للرئيس أوباما، سوزان رايس، التي وعدت بأنه سوف يصدر بيان توضيحي من مكتب بايدن.
في العين الأولى، ثمة قضايا قد لا يعيرها الإعلام اهتماماً، وما كان يحتل الصدارة بات مهملاً. إنه قانون الغواية، فالتصريحات التي فجّرت حرب الشياطين في الخليج، انفصلت عن سياق المعركة، وفقدت وظيفتها لحظة اشتعال الحرب. ولا بد من أن نفتح العين الأخرى كي نرى ما لا يراد لنا رؤيته من الجزء المستور.
يخبر المتخاصمون والوسطاء على السواء بأن العودة إلى وثيقة المصالحة الخليجية (2014) كمرجعية لتسوية الخلاف بين قطر والشقيقة الكبرى ذات صلاحية منتهية، برغم من عدم التزام الجانب القطري ببعض بنودها، ومن بينها وقف الحملة الإعلامية على النظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، ورفع الغطاء عن جماعة الإخوان المسلمين، والتماهي مع «الإجماع» الخليجي بدمغته السعودية. شروط قبلت بها الدوحة ولم تلتزم بها، والتفسير القطري ما قبل التوقيع على «وثيقة الرياض» وبعده، أن قطر لن تتنازل عن سيادتها واستقلال قرارها الوطني.
الشروط الإضافية التي أبلغها الملك سلمان إلى أمير الكويت صباح الأحمد، أول من أمس، ترقى إلى مستوى العقوبات: وقف كل أشكال التعاون مع إيران، وطرد قادة حماس، ورفع الغطاء عن «الإخوان المسلمين»، وإغلاق قناة «الجزيرة» ومؤسسات إعلامية تعمل من خارج الحدود، هي ليست السلّة الكاملة للشروط السعودية.
بطبيعة الحال، فإن من غير الممكن السير مع الاختزال السياسي للأزمة إلى ما لا نهاية، على الرغم من أن لا شيء ينفك عن السياسة. ينبغي التوقّف قليلاً عند زيارة محمد بن سلمان، الخاطفة إلى موسكو، والمتمحوّرة، في العلن، حول التنسيق الثنائي في ملف النفط (ضبط إمدادات النفط في الأسواق العالمية طمعاً في ارتفاع الأسعار)، فيما يلمّح تصريح وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية خالد الفالح، في 3 حزيران الجاري، حول خطط استثمار «أرامكو» في مشاريع الغاز في العالم، إلى أنّ ثمة حرب غاز يخوضها بن سلمان مع قطر التي تتصدّر الدول المصدّرة للغاز المسال في ظلّ تزايد الطلب عليه في الأسواق العالمية، ما يعزّز من طموحاتها في الفكاك عن الوصاية السعودية. وكالة «بلومبرغ» أرجعت في تقرير لها، أول من أمس، أسباب النزاع بين السعودية وقطر، إلى الاستقلال المالي لدى الأخيرة، ما أتاح لها الخروج عن دائرة سيطرة الرياض.
في المؤاخذات السعودية، إن قطر بوصفها عضواً في «التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن»، مطالبة بتسديد حصّتها من فاتورة الحرب. كان الملك سلمان قد ألزم أمير الكويت بدفع عشرة مليارات دولار، كجزء من الالتزام المالي إزاء التحالف.
لم تكن لقطر مشاركة وازنة في «التحالف»، ولم يُسمح لها في الأصل بالمشاركة في صنع قرار الحرب والسلم في اليمن، كما تفعل السعودية والإمارات الآن. الأدلة التي يقدّمها الإعلام السعودي والإماراتي على احتضان قطري لـ«حزب الإصلاح» اليمني، المصنّف على جماعة «الإخوان المسلمين»، (دع عنك دعم قطر لحركة أنصار الله)، هي من نوع الإسقاط المتأخر. في هذا السياق، فإن حشد الأدلة، كما فبركتها، يخدم هدف «الشيطنة» ليس إلا.
بمعزل عن كلّ ما سبق، فإن «قمة الرياض» كانت فارقة بالمعنى الدقيق للكلمة، وهي تصلح لإرساء ثنائية «ما قبل» و«ما بعد». وإنّ وصف ترامب زيارته للسعودية بالتاريخية، ونعت وثيقة التفاهم بين سلمان وترامب بغير المسبوقة، وفق وزير الخارجية عادل الجبير في المؤتمر الصحافي، مع نظيره الأميركي ريكس تيليرسون في الرياض في 20 أيار الماضي، يصدران عن تصوّر مسبق لما سيكون عليه شكل العلاقة منذ اللحظة التي تطأ فيها قدم ترامب الرياض.
بعد الزيارة، قام النظام السعودي بمراجعة سريعة لعلاقاته الإقليمية، تأسيساً على إعادة إنتاج السياسات الأميركية التقليدية في الشرق الأوسط، التي كانت سائدة في مرحلة الحرب الباردة. بدا ترامب، على الضد من الرؤساء الأميركيين السابقين منذ بيل كلينتون، وصولاً إلى باراك أوباما، وبدا في أتمّ جهوزيته لإحياء الشراكة الاستراتيجية مع الحلفاء الإقليميين، بما تملي من انحيازات سياسية حادة، واعتناق تصوّرات الحلفاء لملفات المنطقة، والعودة، في نهاية المطاف، إلى منطق الاستقطابات السياسية.
من منظور سعودي، فإن زيارة ترامب هي بمثابة تفويض ضمني للمملكة بإدارة السياسة الإقليمية، كما كان الحال سائداً في مرحلة الحرب الباردة. وفي ظلّ التطابق شبه التام بين السعودية و«إسرائيل» في مقاربة الأخطار المشتركة، ينبعث نموذج «الدولة الوظيفية» الذي كان على وشك التفسّخ في أواخر عهد أوباما.
تجدر الإشارة إلى أن اصطفاف ترامب مع السعودية ليس سلساً هذه المرّة. حالة الفصام بين نزوعين: محاربة الإرهاب من جهة، وبراعة المفاوضة التجارية وخلق المال والوظائف من جهة ثانية، دونها عواقب قد تضاف إلى رصيد فريق المتربصّين برئاسة ترامب.
في جعبة ترامب القليل من أدلة الإقناع بجدارة التحالف مع السعودية، في وقت تتصاعد فيه الاحتجاجات في عواصم القرار الدولي على ضرورة وضع حدٍّ لأيديولوجيتها المتطرّفة من التغلغل في مجتمعات الغرب وتهديد أمنها وسلامها الداخلي.
في الموقف المؤجّل لترامب حول حرب الشياطين في الخليج ما ينبئ عن مستور يترجم بنقيضه. التوازن المفتعل في الموقف الأميركي في بداية الأزمة الخليجية الأخيرة لم يدم طويلاً، فقد حسمت تغريدتان لافتتان للرئيس ترامب أول من أمس:
*«خلال زيارتي الأخيرة إلى الشرق الأوسط قلت بأنه من غير الممكن أن يكون هناك بعد الآن تمويل للأيديولوجية الراديكالية. وأشار القادة إلى قطر».
*«التطرّف، وكل الأدلة كانت تشير إلى قطر. ربما هذا سيكون بداية النهاية لرعب الإرهاب».
على الضد، هناك جدل متصاعد حول ضلوع المملكة السعودية على مستوى التمويل والتحريض الأيديولوجي في دوامة الإرهاب التي تضرب أوروبا. أول من أمس، دعا زعيم «حزب العمال» البريطاني جيريمي كوربن، وزعيم «حزب الليبرالي الديموقراطي» تيم فارون، رئيسة الوزراء تيريزا ماي، إلى عدم ممانعة نشر تحقيق بطلب من رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، أجرته وزارة الداخلية (كانت تتولاها حينذاك تيريزا ماي) حول دعم الجماعات الجهادية في بريطانيا. التقرير الذي لم يتم الانتهاء منه (وربما لن يُنشر) يتضمن، على الأغلب، معطيات حول تورّط السعودية، وهذا ما ألمح إليه كوربن بقوله إن تحدّي الإرهاب «يحتاج إلى بعض الحوارات الصعبة وأحياناً المحرجة»، وأضاف: «نعم نريد بعض الحوارات الصعبة بدءاً من السعودية ودول الخليج الأخرى التي مولت وأعطت الوقود للأيديولوجية المتطرفة». ويدور الكلام حول تهديد الأمن القومي، في حال نُشر التقرير متضمناً اتهام السعودية.
في كلّ الأحوال، ما يحمله الإعلام السعودي والإماراتي على قطر من اتهامات هي ذات طبيعة ارتدادية. فرعاية قطر لجماعات دينية متشدّدة ليست سياسة أحادية، بل كانت، ولا تزال، مندّكة في سياق مشروع كوني أميركي أوروبي إقليمي (تركي، سعودي، قطري)، تماماً كما أن البيئة الداخلية لتمويل الإرهاب ليست ذات خصوصية جغرافية محدودة، فهي تمتدّ على شعاع واسع من الخليج وتستوعب السعودية، الإمارات، الكويت، قطر، البحرين. نعم، هناك أجزاء من الأموال المرصودة كانت تنتقل إلى خارج قنوات الرقابة، كالذي تفعله الأطراف كافة.
في النتائج، هي ليست حرباً بين الملائكة والشياطين، ولا بين الفضيلة والرذيلة، بل حرب من أجل الوصاية والتتويج برعاية أميركية. وبغض الطرف عن المدى الزمني الذي قد تستغرقه الأزمة، فإن الثنائي السعودي ــ الإماراتي يجنح إلى صنع معادلة تبنى على وظيفية الدور، ولكنه يقصر عن صنع حرب كبرى مع إيران، كما ذهب إلى ذلك سيمون هندرسون في «فورين بوليسي» في 5 حزيران الجاري. نعم، ترجمت هجمات طهران أمس، تهديداً سابقاً لمحمد بن سلمان بنقل المعركة إلى داخل إيران، بما يؤكّد العلاقة المشبوهة بين «داعش» وآل سعود، وبذلك نكون أمام فصل من حروب النيابة مجدّداً، وعلى الغرب أن يختار حينئذ بين محاربة الإرهاب أو الحرب على إيران.
في النزاع القطري السعودي، ما يبدو واضحاً أن قطع العلاقات والحصار المضروب هو لغاية تفاوضية من أجل إرغام قطر على الإذعان لشروط الرياض، وسوف تبقى التدابير هذه حتى تحقيق الغاية. وإن جرعة الدعم الجديدة من ترامب سوف تزيد من مستوى الضغوطات، فتصل إلى حدّ التهديد باستبدال نظام الحكم بآخر متحالف مع السعودية. قد يكون تسليم المعارض السعودي محمد العتيبي، إلى الرياض قبل يوم من اندلاع الأزمة خطوة قطرية استباقية، ولكن لم تَحُل دون استكمال «خطة الهجوم».