2024-11-24 12:41 م

زبغنيو بريجينسكي مهندس الجهاد الإسلامي بأفغانستان وصانع أسطورة بن لادن

2017-06-03
القاهرة - بدأت الولايات المتحدة مؤخراً، بطرح لغة جديدة، في ما يتعلق بسياسة سارت عليها طويلاً، اعتمدت على بعض الدول والتنظيمات الإسلامية الجهادية لتحقيق مشاريعها الاستراتيجية، وكان من بين تلك الدول كما هو معلوم، دولة قطر التي رعت الإخوان المسلمين والتنظيمات الجهادية المختلفة وقدمّت لهم منصة إعلامية ودعماً مالياً ولوجستيا بلا حدود. لكن هذا كله كان فكرة رجل واحد أصلاً.

وربما كان في تعليق الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر على وفاة زبغنيو بريجينسكي قبل أيام في بيته بالولايات المتحدة عن 89 عامًا ما يصلح كمقدمة للكتابة عن الرجل. قال كارتر “كان الراحل مفكرًا نافذًا امتد تأثيره لعدة عقود وساعدت أفكاره ومواقفه على تشكيل سياسة الأمن القومي الأميركي، وكان عبقريًا وجزءًا من حياتنا لأكثر من أربعة عقود”. كلمات صادرة عن كارتر الذي خدم معه بريجينسكي كمستشار للأمن القومي من 1977 وحتى 1981.

إذا كان ثمة مفتاح رئيسي يمكن اللجوء إليه ليفتح لنا أبواب تلك الشخصية الثرية جدًا فهو “كراهيته الشديدة للاتحاد السوفييتي” الذي، بالمناسبة، أسهم بريجينسكي في إسقاطه، وطبعًا للكراهية أسباب، على رأسها ما فعلته روسيا السوفييتية في بولندا، وطن بريجينسكي، في أعقاب احتلالها خلال الحرب العالمية الثانية.

ولسنا هنا في وارد تكرار الفظائع التي ارتكبتها روسيا ستالين في عواصم أوروبا الشرقية ومنها وارسو، ما اضطر أسرته إلى الهروب إلى كندا، حيث درس في جامعة ماكغيل، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة ليكمل دراسته في جامعة هارفارد العريقة.

لم تكن مصادفة إذن أن تترتب على تلك الكراهية نتيجتان، أولاهما أن تكون رسالة الدكتوراه التي أعدها في هارفارد حملت عنوان “الحكم الشمولي السوفييتي وعمليات التطهير” في عام 1956، والنتيجة الثانية أنه ظل يؤمن -وحتى نهايات العمر- بأن روسيا هي الخطر الأكبر على الديمقراطية في الدنيا كلها، وطبعًا على مصالح وطنه (الثاني) أميركا.

هل كان اختراعه لعملية الجهاد الإسلامي في أفغانستان في سبعينات القرن الماضي ردّ فعل لا شعوري على الغضب الكامن في روحه نحو السوفييت ورغبة في الانتقام؟ ربما نعم وربما لا. لكن المؤكد هو أن بريجينسكي الذكي أدرك مدى ما يمكن أن يحققه توظيف الدين في السياسة من مكاسب.


الجهاد الإسلامي

ذلك الاختراع المزلزل “الجهاد” لم يكن جديدًا، فالجهاد كان دائمًا أيقونة اجتذاب عقول الشباب المسلم على مرّ العصور، ولعب الرجل بمهارة شديدة على هذا الوتر واستخدم الإسلام السياسي لضرب الإمبراطورية السوفييتية، فهل نجح؟ طبعًا نجح وهل كان انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية الثمانينات من القرن العشرين إلا نتيجة مبهرة لاستنزاف موارد تلك الإمبراطورية في جبال أفغانستان؟ لكن كيف صنع هذا الرجل تلك العملية؟

البداية كانت مع بدء الغزو الروسي لأفغانستان في ديسمبر 1979، يومها قال “أردنا أن نهدي روسيا فيتنام الخاصة بها”، وتمت الخطة بالتنسيق بين ثلاثة أجهزة مخابرات، الأميركية “سي آي إيه”، والباكستانية “آي إس آي”، ومخابرات السعودية.

هكذا تمت دعوة الشباب المجاهد من كل أنحاء العالم لقتال الكفار السوفييت الملحدين أعداء الدين، وجرى تدريب عشرات الآلاف منهم بالأراضي الباكستانية، وعندما غادر ابن الأثرياء السعودي أسامة بن لادن بلاده إلى باكستان للجهاد ولصنع أسطورته الخاصة، تبيّن فيما بعد أن مكتب الخدمات الذي أسسه أسامة في عام 1979 كان تحت رعاية مخابرات باكستان (الوكيل الرئيسي للـ”سي آي إيه”).

بريجينسكي من خلال “مجموعة عمل الجنسيات” التي أسسها داخل البيت الأبيض كان وراء تلك العملية كلها، وبصحبته جراهام فوللر الذي كان رئيسًا لفرع المخابرات الأميركية في كابول، وزار بريجينسكي القاهرة في ذلك الوقت والتقى الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، ثم سافر إلى الرياض والتقى وليّ العهد السعودي آنذاك الأمير فهد ومعه الأمير سلطان وزير الدفاع. وكانت مصر والسعودية هما نواة الحرب الجهادية ضد السوفييت.
هل ندم بريجينسكي في أيامه الأخيرة وهو يرى نتائج عمليته بأفغانستان بعد أن عاد هؤلاء المجاهدون فعاثوا في الأرض فسادًا وقتلًا وذبحًا وباتوا يهدّدون العالم كله الآن؟ أبدًا لم يفعل، بل قال “إن تنامي الجماعات الجهادية مجرد عرض جانبي بسيط ويمكن احتماله إذا ما قورن بمكسب إسقاط العرش السوفييتي وتربّع الولايات المتحدة على عرش العالم”. هنا بيت القصيد؛ الهيمنة الأميركية مهما كان الثمن.
ضد ترامب

تدور مؤلفات بريجينسكي حول فكرة محورية، هي ضرورة أن تكون الولايات المتحدة القوة المهيمنة على الساحة الدولية، وأن استخدام القوة لا مفر منه لمحاربة الدول التي تناهض القيم الليبرالية الغربية وتسعى للقضاء عليها، فهو يحض صناع القرار الأميركي على أن تكون السياسة الخارجية الأميركية هجومية حتى يتسنّى لها أن تردع القوى الدولية التي تسعى للقضاء على دور الولايات المتحدة المتنامي ومصالحها المتشعبة في مختلف أنحاء العالم.

وطالما طالب في مؤلفاته بأن يستغلّ صناع السياسة الخارجية الأميركية الهيمنة الفكرية التي يحظى بها النظام السياسي للولايات المتحدة في الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية أكبر وعدم الاكتفاء بما هو موجود، والعالم، عنده، لم يعد أمامه سوى اتخاذ النظام الأميركي الليبرالي الرأسمالي مثلًا أعلى يسعى لتقليده بعد انهيار النظام الشيوعي للاتحاد السوفييتي، ولذلك فإن على القيادة الأميركية أن تستغل ذلك الإعجاب العالمي وألاّ تفرّط فيه.

هل كانت تلك الرؤية وراء معارضة بريجينسكي الشديدة لأن يتولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة؟ نعم. فقد كان يرى أن وجود ترامب كرئيس وخطابه السياسي الفج يقلصان من “وجاهة” النظام السياسي الأميركي أمام العالم، وبالتالي يضعف فرصة واشنطن في القيادة وتوجيه العالم لما يحقق مصالحها.

أيضًا كان إيمانه بضرورة هيمنة أميركا وراء مطالبته بملاحقة المنافسين، كل المنافسين، ففي كتابه “رؤية استراتيجية-أميركا وأزمة السلطة العالمية” حذر من الصعود المتنامي للدور الآسيوي على الساحة العالمية، وخاصة اليابان والهند والصين وكوريا الجنوبية ومجموعة الآسيان.

وشدد على أن تلك الدول، وإن كانت لا تظهر الآن الرغبة في منافسة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، فهي بالتأكيد تخطط ليكون لها دور “جيو استراتيجى” هام في المستقبل من شأنه أن يؤثر على الهيمنة الأميركية، لذلك فإن على الولايات المتحدة ألا تنخدع بخطاب تلك الدول وأن تحرص في علاقاتها معها على ألا تعطيها الأفضلية مطلقا فيما يتعلق بالقضايا المشتركة بينهم.

في كتابه “الاختيار-السيطرة على العالم أم قيادة العالم”، يفند بريجينسكي فكرة أن هيمنة الولايات المتحدة على العالم هدفها تحقيق صالح الولايات المتحدة وحدها على حساب مصالح الدول الأخرى، بل أكد على أن العالم هو الذي في حاجة قصوى لريادة واشنطن لأن ذلك هو الضامن الوحيد لاستقرار النظام العالمي وعدم حدوث حروب أخرى تدمّر موارد الأمم البشرية والاقتصادية.

وحذر صانع القرار الأميركي من أن يتأثر بانتقادات دول العالم الثالث، أو أن يتجه بالسياسة الخارجية إلى العزلة والعدائية، لأن ذلك سيؤثر بدوره على أمن واستقرار العالم أجمع وليس الولايات المتحدة فقط.
العالم، في تصوره، يحتاج لديناميكية الاقتصاد الأميركي وإلا وقع ضحية للكساد، ومن ثم ستزداد تلك الدول الفقيرة التي تشتكى من هيمنة الولايات المتحدة فقرا وتخلفا، والعالم في حاجة لثقافة وقيم وإعلام الولايات المتحدة وإلا سيفقد المشكاة التي يهتدي على ضوئها ويستمد تطوره منها.


الإمبريالية الرشيدة

ينتقل بريجينسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى- السيطرة الأميركية وما يترتب عليها جيواستراتيجيّا” إلى التأكيد على فكرة المثالية الديمقراطية الأميركية، وأن ديمقراطية الولايات المتحدة الداخلية تصلح لأن تطبّق على أيّ دولة، وفي أيّ وقت لتكون هي الضامن لنمو تلك الدول على الأصعدة السياسية والاقتصادية، وأن من حق الولايات المتحدة أن تتدخل في شؤون الدول الأخرى كي تصلح أنظمتها السياسية لتتماشى مع الديمقراطية الأميركية، لأن ذلك بدوره يؤدي إلى ازدهار تلك الدول ومن ثم ازدهار العام أجمع، وذلك هو الدور الأصيل الذي يجب أن يلعبه قائد العالم.

ويضيف أنه لا يصح لتلك الدول أن تنتقد ذلك التدخل لنشر هذه المثالية، لأن ذلك التدخل في حالة الولايات المتحدة على الرغم من أنه يعدّ إمبريالية إلا أنه “إمبريالية رشيدة” هدفها نمو وازدهار تلك الدول.

استغل نظام جورج بوش الابن تلك النظرية لتبرير غزو أفغانستان والعراق على الرغم من المعارضة الدولية التي لقيها قبل القيام بهجماته، وكان بوش الابن يردد دائمًا مقولة “إن هدفنا من الغزو هو إصلاح الأنظمة الدكتاتورية ونشر الديمقراطية الأميركية في تلك البلاد لتضع أولى خطواتها على طريق الازدهار والنمو”.

وهنا نجد أنفسنا أمام مفارقة مدهشة، وهي أن أفكار بريجينسكي هي التي اعتمد عليها بوش الابن في تبرير غزوه لأفغانستان والعراق بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، لكن اليسار الأميركي يرى أن التحالف الذي أقامه بين الولايات المتحدة والجماعات الجهادية لطرد الجيش السوفييتي من أفغانستان في عام 1979 كان أحد العوامل الرئيسية لحدوث ذلك الهجوم وتكبّد الولايات المتحدة الآثار المدمرة التي نتجت عن تدعيم تلك الفصائل الجهادية وإمدادها بالمال والسلاح والتدريب العسكري.

وتبرر فكرة “الهجومية” في السياسية الخارجية الأميركية التي طرحها بريجينسكي في مؤلفاته تخطيطه لعملية “مخلب النسر” لتحرير موظفي السفارة الأميركية في طهران بعد أن سيطر عليها الطلاب الإيرانيون خلال أحداث الثورة الإيرانية، حيث لم يوافق على الرأي القائل بضرورة التأني في التعامل مع أزمة الرهائن ومحاولة التفاوض مع السلطات الإيرانية لإخراج الرهائن، وإنما كان رأيه أن تبادر الولايات المتحدة بالهجوم. وهو ما حدث، فقضى على كارتر.

كان بريجينسكي يرى، كما ذكر في كتابه “الاختيار”، أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة بالمنطقة العربية، كما أنها القوة العسكرية المسيطرة في الشرق الأوسط والتي يمكن للولايات المتحدة الاعتماد عليها في أيّ تدخل عسكري بالمنطقة، ولأن الإسرائيليين والفلسطينيين متردّدون في تقديم التنازلات الضرورية للتوصل إلى اتفاق فإن على واشنطن أخذ زمام المبادرة، وحذر من فقدانها نفوذها هناك ما لم تسارع إلى حل النزاع.

لكن الغريب أنه أحيانًا كان يشن هجوماً حادًا على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، حتى أنه قال ذات مرة إن إسرائيل تتحول لتصبح دولة “أبارتايد” جديدة (فصل عنصري) على غرار جنوب أفريقيا في السابق، وانتقد نظرة الإسرائيليين للفلسطينيين على أنهم أقل درجة منهم، ولجوءهم في بعض الأحيان إلى قتلهم بلا رحمة. صحيح أنه لم يتردد في وصف المقاومة الفلسطينية بأنها “إرهاب” إلا أنه أكد أن ردود فعل الحكومة الإسرائيلية مبالغ فيها.

وقبل ثلاث سنوات قال ردًا على سؤال حول مستقبل إسرائيل، إن فكرة سيطرة دولة قوية على المحيط، وهي لا يزيد عدد سكانها على ستة ملايين نسمة، في إشارة إلى إسرائيل، ضرب من الخيال، ودعا واشنطن مرة أخرى إلى سرعة التدخل لإقرار السلام.

هل هناك تضارب أو تناقض في أفكار الرجل حول تلك المسألة؟ لا. بل إن رغبته الدائمة في تحقيق سيادة الولايات المتحدة وتدخلها لفرض هيمنتها على العالم هي ما تفسر نظرته لإسرائيل والعرب وأوراسيا وأي أحد آخر في العالم الذي رحل عنه بريجينسكي وحيداً.
المصدر: العرب