2024-11-27 08:36 م

أوروبا بين الطلاق البريطاني والزواج الفرنسي

2017-05-30
سركيس ابو زيد 

في الأشھر الأخيرة، انحسرت موجة النقد في الاتحاد الأوروبي ولم يعد عاصفا ولا مھيمنا، وساھمت كراھية أوروبا والطعن بمشروعيتها في تهميش الأحزاب الديموقراطية، وبرزت أحزاب شعبوية ما أدى إلى إصابة عجلة الاتحاد الأوروبي بالشلل.
 اليوم، وعلى وقع مواقف بوتين المھددة والتخلي الأميركي عن أوروبا واضطرابات الشرق الأوسط. بدأت القيادات الأوروبية تشعرأن قيم أوروبا ومصالحھا وأمنھا وفكرة الإنسان وحقوقه، لن تنجو وتزدھر ما لم تدافع عنھا قوة دفاعية مشتركة.
ومع رفع رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي رسمياً طلب الخروج من الاتحاد "بريكزيت" إلى الاتحاد الأوروبي في أواخر آذار الفائت، تستعد كل من المفوضية الأوروبية والحكومة البريطانية لبدء مفاوضات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي لا يتماشى جزئياً مع رغبات الحكومة البريطانية، وعلى رأسھا رفض بروكسيل إجراء لندن مفاوضات تجارية مع دول أخرى بصورة موازية لتفاوضھا معھا، الأمر الذي تمارسه لندن عملياً اليوم مع عدد من الدول منھا أستراليا، مخالفة بذلك القانون الأوروبي.
وعلم أن رئيس المجلس الأوروبي قدم إلى ماي خطة من مرحلتين تتضمن حسم مسألة الانفصال أولا، والاتفاق على علاقات ثنائية جديدة بين الاتحاد الأوروبي كوحدة اقتصادية وبريطانيا ثانياً. وفي ھذا الإطار، حددت القمة الأوروبية التي عقدت في 29 الشھر الفائت في بروكسيل الخطوط الرئيسية للانفصال وللعلاقات المستقبلية بين الطرفين، رافضة السماح للندن بإجراء محادثات موازية مع دول أخرى أو اعتماد طريق خاص. وشدد الجانب الأوروبي على أن المرحلة الأولى من المفاوضات ستبتّ مسائل أساسية مثل حقوق حوالي 3 ملايين أوروبي يعيشون في بريطانيا، ومليون بريطاني في الدول الأوروبية. وينطبق الأمر أيضاً على عقود الشركات الأوروبية العاملة وأعمالھا في بريطانيا والعكس كذلك. كما سيُبت بموضوع الالتزامات المالية التي أخذتھا بريطانيا على عاتقھا في ما يخص المشاريع الأوروبية التي تم إقرارھا بعد عام 2019 ، أي عام الانفصال الكامل.
وتقدّر الالتزامات المالية البريطانية للاتحاد الأوروبي وفقاً لبروكسيل، بين 60 و 100 مليار يورو. وبعد قول ماي إن حكومتھا لن تدفع جنيهاً واحداً، ردت المفوضية الأوروبية أن في حال عدم الاتفاق على ھذا البند في البداية، لن تجري أي مفاوضات مع لندن حول إقرار اتفاق تجاري جديد بين الجانبين.
خبراء اقتصاد ألمان يرون  تداعيات مؤلمة ستصيب الجميع بعد "بريكزيت"، فخسائر ألمانيا ستكون موجعة جدا، لذا تسعى برلين منذ الآن إلى التخفيف من الآثار السلبية التي ستصيبھا، فاستنادا إلى معلومات نشرھا موقع "دير شبيغل" الإلكتروني أخيراً، تسعى الحكومة الألمانية إلى ضمان نقل مقر "ھيئة الرقابة على البنوك الأوروبية" (EBA) من لندن إلى فرانكفورت بعد الانفصال. ففرانكفورت كموقع مالي يشمل حالياً البنك المركزي الألماني، والبنك المركزي الأوروبي، وھيئة الرقابة على المصارف الألمانية، ومصارف ألمانية وأوروبية ودولية كبيرة مؤھلة أكثر من غيره امن المواقع المالية الأوروبية لتكون بديلا من لندن.
 الجھاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي حث الحكومة البريطانية على التخلي عن تحفظاتھا بشأن مقترحات تتعلق بإعادة النظر في موازنة متعددة السنوات للاتحاد الأوروبي تمتد حتى 2020، فيما تضمنت المبادئ التوجيھية للعملية التفاوضية المرتقبة بين الجانبين بشأن مستقبل العلاقات، التأكيد على ضرورة ضمان حقوق الشركات والأفراد واستمرار العمليات التجارية واحترام العقود المبرمة في مجالات مختلفة.
ويشير رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الى أن خروج بريطانيا سوف يتسبب في وجود فجوة في الموازنة الاتحادية بقيمة 10 مليارات يورو سنوياً، ويمكن أن يتسبب ذلك في مشكلة بين الدول الأعضاء عندما يحاولون سد ھذه الفجوة، ولكن ھذا الأمر لن يتسبب في حدوث انقسامات في الاتحاد...
وحسب وزير المالية الألماني، على بريطانيا أن تدفع ثمن تركھا الاتحاد الأوروبي، وليس ھناك قائمة انتقائية تختار منھا بريطانيا ما تريده. ھناك قائمة كاملة فقط او لا شيء بتاتا. وھذا يعني أن ما يسمى بالحريات الأربع من حركة البضائع ورؤوس الأموال والخدمات وحريات تنقل الأشخاص تعتبر وحدة متكاملة ولا يمكن اختيار ما تريده بريطانيا منھا، فإما ان تختار الأربع وتبقى ضمن الاتحاد أو أنھا وبتصويتھا تكون قد تنازلت شرعا عن ھذه الحريات الأربع.
كما لا يمكن استبعاد فكرة معاقبة بريطانيا لمغادرتھا الاتحاد الأوروبي، لذلك قد يكون ھذا الخروج سيئا على الاقتصاد البريطاني ويمكن أن يؤدي الى ركود في أوروبا، إذا لم يستطع القيّمون على الأمور الاقتصادية والسياسية في الطرفين التوصل الى اتفاق.
لذا يراهن الأوروبيون على فرنسا لتعويض "الخروج البريطاني"، من أجل تعزيز مسار الاندماج الأوروبي.  واستبق إيمانويل ماكرون فوزه بالتأكيد على الحاجة إلى التفاوض بحزم مع بريطانيا والالتزام من جھة أخرى بتعزيز مشروع الدفاع الأوروبي.
ولهذا أيضاً شكلت الانتخابات الفرنسية "استحقاقا أوروبيا"  حاسما: إما تضع حدا للاتحاد الأوروبي بصيغته الراھنة فيصبح "البريكزيت"  نموذجا متكررا، أو تنھض فرنسا من تحت الرماد وتتحول الى أكثر التجارب إثارة في القارة الأوروبية والمنارة الطبيعية الجديدة لقيم أوروبا ومنطقة الأطلسي. وبالفعل، ھذا ما حصل واعتبر فوز ماكرون ضربة موجعة للتيارات الشعبوية الداعية الى الطلاق مع الاتحاد الأوروبي، ولمسار صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وساد ارتياح بالغ في أوروبا التي تقف عند مفترق طرق وتحتاج الى مثل ھذا الرد لمواجھة المشككين في صدقية المسار الاندماجي، والذين رأوا في خروج بريطانيا بداية لمسار تفكك الاتحاد. ھذا الارتياح عبّر عنه وزير الخارجية الألماني الذي غرد عبر "تويتر" قائلا "إن فرنسا كانت وستبقى في وسط وقلب أوروبا"... كما قال رئيس المفوضية الأوروبية ان:" الفرنسيين اختاروا مستقبلا أوروبيا".
فالرئيس الشاب يريد فتح الحدود، ويرفض عزلة فرنسا، ويدافع عن الوطنية، ويرفض القومية المتعصبة والانغلاق على الذات. بكلام آخر، إن ماكرون يقاوم كل ما دعت إليه منافسته، مرشحة اليمين المتطرف، التي يعتبرھا خطراً على الديمقراطية، ومنذرة بـ"حرب أھلية"، وتھديداً للبناء الأوروبي.
لذلك عد الأوروبيون فوز ماكرون تفوق تيار سياسي يؤمن بالعولمة محركاً للاقتصاد والمجتمع، وبالاتحاد الأوروبي رافعة للازدھار الاقتصادي، وبالليبرالية خياراً لا بديل عنه، وبالعملة الأوروبية الموحدة(اليورو).